• - الموافق2024/11/26م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الخلال النبوية (أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى)

الخلال النبوية (أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى)


الحمد لله خالق الخلق ومدبرهم، ومرسل الرسل ومؤدبهم، وهادي المؤمنين ومبشرهم، فالهداية منه سبحانه وإليه، والجزاء والثواب عليه {وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وسعت رحمته العالمين، وعم إحسانه ولطفه المخلوقين، واختص بنوره وهداه المؤمنين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أكثر الخلق معرفة بالله تعالى وقربا منه، وتوكلا عليه، وعبودية له، ويقينا به، حتى قال «أَمَا وَاللهِ، إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه فلا تعصوه؛ فإن المعاصي مورثة الهم والغم، وجالبة العقوبات والنقم، ورافعة الخيرات والنعم {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]

 أيها الناس: من تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ في أوصافه ودلائل نبوته؛ هاله ما فيها من اتصافه بحسن الخلق، وما طبع عليه من كمال الأدب، وهو أمر شهد له به أصحابه رضي الله عنهم كما شهد له به أعداؤه، وعرفه الناس عنه قبل البعثة وبعدها، وكان يخالط الناس ويواجههم، ويستقبل الوفود ويستضيفهم، ويزدحم الناس عليه في المواسم والمواقف، وربما آذوه بالإلحاح في الطلب؛ فما حفظت عنه كلمة تعاب، ولا نقل عنه فعل يُنتقد، وكان يقابل جهل الجاهلين بالحلم والعفو والإحسان. 

 ولا عجب في ذلك؛ إذ كان يتمثل كلام الله تعالى في أقواله وأفعاله، ويتأدب بآدابه وأخلاقه،  قال سَعْدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] "رواه أحمد.

وفي هذا المعنى يقول ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَيْسَ مِنْ مُؤَدِّبٍ إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى أَدَبُهُ، وَإِنَّ أَدَبَ اللَّهِ تَعَالَى الْقُرْآنُ».

فمن تخلق بأخلاق القرآن فقد تخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون أخلاق المؤمن قربا وبعدا من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم بحسب قربه وبعده من أخلاق القرآن.

 وكان للنبي صلى الله عليه وسلم شأن عجيب في الأدب مع الله تعالى، وأراد من أتباعه أن يسيروا سيرته، وأن يتأسوا به في أدبه مع ربه عز وجل.

 والتوحيد الذي جاء به، والنهي عن الشرك، والتزام الشرائع الربانية، كل أولئك من الأدب مع الله تعالى؛ لأن الشرك والمعاصي تنافي الأدب معه سبحانه.

وإذا تجاوزنا ذلك إلى بعض المواقف التي يظهر فيها أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه سبحانه رأينا أعجب العجب؛ ففي سورة النجم ذكر الله تعالى الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما حباه الله تعالى من الآيات والكرامات، كما نوه سبحانه بأدب النبي صلى الله عليه وسلم أثناء المعراج، قال الله تعالى {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} [النَّجم:13-18].

 لنتأمل – عباد الله – هذه المنزلة التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم، حين عُرج به إلى السماء، فرأى من آيات الله تعالى الكبرى ما رأى، ورأى سدرة المنتهى التي غشيها ألوان عجز النبي صلى الله عليه عن وصفها من حسنها، ودخل الجنة فرأى فيها حبايل اللؤلؤ، ورأى ترابها المسك، وانتهى إلى مقام لم يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وكلمه الله تعالى فأوحى إليه ما أوحى... في هذا المقام العظيم، وفي هذا الموضع المهيب، لم يتجاوز بصر النبي صلى الله عليه وسلم ما أُمر بالنظر إليه؛ أدبا مع الله تعالى، رغم أن الموقف يدعوه إلى تجاوز ذلك؛ فهي الجنة، وهي السماء السابعة وما فوقها، وهي سدرة المنتهى وجمالها، وهي أعلى المنازل، وأشرف المقامات. يصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام؛ مخبرا عن أدبه معه عز وجل، وهو أدب فاق كل أدب، فقال سبحانه {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما زاغ يمينا ولا شمالا ولا طغى، ولا جاوز ما أُمر به.

وهذا كمال الأدب منه عليه الصلاة والسلام، أن قام مقاما أقامه الله تعالى فيه، ولم يقصر عنه، ولا تجاوزه، ولا حاد عنه، وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم، الذي فاق فيه الأولين والآخرين، فإن الإخلال يكون بأحد هذه الأمور: إما أن لا يقوم العبد بما أُمر به، أو يقوم به على وجه التفريط، أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يمينا وشمالا، وهذه الأمور كلها منتفية عنه صلى الله عليه وسلم.

 وأدب آخر مع الله تعالى ظهر من النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج؛ إذ لما فرضت عليه الصلوات خمسين صلاة، وأشار عليه موسى عليه السلام بمراجعة ربه عز وجل يسأله التخفيف على أمته، فراجعه حتى  صارت خمسا في الفعل وخمسين في الأجر، أشار عليه بعد ذلك بمراجعته لتخفيفها، قال عليه الصلاة والسلام مخبرا عن ذلك:«فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي»، وفي رواية قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«يَا مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ» رواه الشيخان. والحياء من الله تعالى أدب معه عز وجل.

 ومن أدب الرسول عليه الصلاة والسلام مع ربه سبحانه: كثرة ثنائه عليه في كل مناسبة، ولما كان أهل الجاهلية يفتتحون خطبهم بذكر مآثرهم أو مآثر آبائهم وقبائلهم؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله تعالى والثناء عليه؛ أدبا مع الله تعالى أن يُذكر شيء قبل اسمه سبحانه، أو يثنى على أحد من خلقه قبله عز وجل، قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: «كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَحْمَدُ اللهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ...» رواه مسلم.

وكتب السنة مملوءة بإخبار الصحابة رضي الله عنهم عن خطبه عليه الصلاة والسلام، يصدرها الصحابي بقوله:«فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ... »

وحتى في حال المصيبة يتأدب مع الله تعالى ويثني عليه؛ إعلانا برضاه عنه، ولَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه:«اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا...» ثم أخذ يثني ثناء طويلا على الله تعالى.

ومن أدبه مع الله تعالى: أنه صلى الله عليه وسلم علَّم أصحابه رضي الله عنهم استفتاح الدعاء بالثناء على الله تعالى، فعن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قال: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِلَ هَذَا»، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: - أَوْ لِغَيْرِهِ - «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ» رواه أبو داود.

 فلنتعلم – عباد الله – الأدب مع الله تعالى من أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه سبحانه، فهو أسوتنا في تعظيم ربنا تبارك وتعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] .

 أيها المسلمون: من اقتفاء أثر الرسول عليه الصلاة والسلام في الأدب مع الله تعالى أن يُثنى عليه سبحانه إذا ذكر، وقد انتشر بين كثير من الكُتاب والمؤلفين والمتحدثين أنهم يذكروا اسم الله تعالى مجردا بلا ثناء عليه، فتجد تكرار ذكره عز وجل في المقالة أو المحاضرة أو الكتاب عشرات المرات وربما مئات أو ألوف فلا يذيل اسمه سبحانه بالتسبيح أو التمجيد أو التبريك أو نحوه من عبارات الثناء عليه سبحانه، مع أن كثيرا منهم يتحرز من ذكر اسم النبي عليه الصلاة والسلام مجردا، والله تعالى أولى أن يعظم ويثنى عليه.

 ومن سوء الأدب مع الله تعالى أن يُمتهن اسمه بإلقاء الكتب أو الصحف التي فيها اسمه سبحانه، أو افتراشها، أو وطؤها. أو كتابة اسمه سبحانه على أقمصة ترمى وتوطأ ويُدخل بها في دورات المياه، وربما لوثت بالقذر عياذا بالله تعالى من ذلك، وأشد منه أن يفعل ذلك بآيات من كتابه عز وجل.

ومن أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه سبحانه وتعالى: نهيه الشديد عن الغلو فيه، ورفعه فوق منزلته التي بوأها الله تعالى إياها، أو صرف شيء من العبودية له؛ كما يفعله المفتونة قلوبهم، المبتدعة في دينهم، ممن يستغيثون بالنبي عليه الصلاة والسلام، أو يتوسلون به، أو يصرفون له شيئا من العبادة، وهذا مما يبغضه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من أشد أنواع سوء الأدب مع الله تعالى؛ ولذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» رواه البخاري. وذلك أن النصارى ألهوا المسيح عليه السلام، وتجاوزوا به منزلته فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يكونوا مثلهم.

 وفي كل عام يحتفل كثير من المسلمين بحادثة الإسراء والمعراج في آخر رجب، مع أنه لم يثبت وقوعها في رجب، ويأتون بأنواع من الضلال والبدع في احتفالاتهم التي قد تصل إلى حد سوء الأدب مع الله تعالى بالشرك به سبحانه، ودعاء غيره مما لا يرضاه النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يقبله لأمته، كما لا يقبل الغلو في مديحه، والمبتدعة يقيمون هذه الاحتفالات بلا برهان ولا دليل إلا هوى في نفوسهم، وخداعا للعوام منهم، وهذا من أعظم الضلال، وأشد الغش للناس؛ لأنه غش لهم في دينهم وعبادتهم، ولو كانت هذه الاحتفالات خيرا لفعلها النبي وصحبه الكرام {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الحشر:7].

  وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

أعلى