الـوصـيــة (حكمها وحكمتها)
الحمد لله رب العالمين، وخالق الناس أجمعين، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، نحمده فهو أهل الحمد كله، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وسع كل شيء رحمة وعلما، وتمت كلمته صدقا وعدلا {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لم يخلف مالا لوارث، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي بشيء من شعير، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا صالحا تجدوه، واعلموا أن الدنيا دار غرور {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
أيها الناس: من التزم شرع الله تعالى سعد في حياته وبعد مماته، وأدى الحقوق إلى أهلها قبل موته وبعده؛ فإن شريعة الله تعالى ما تركت شاردة ولا واردة مما ينفع الإنسان إلا وأتت بها، ورغبت فيها.
وقد ينعم الله تعالى على الإنسان بمال فيريد أن ينفع به نفسه وغيره بعد وفاته فالوصية طريق لذلك، وقد يكون على المرء حقوق لغيره ويخشى أن يموت قبل أدائها، فيوصي ورثته بأدائها، أو يكون له حقوق على غيره يخشى ضياعها فيخبرهم ليطالبوا بها.
وقد يكون للرجل أولاد قصر يخشى أن يضيعوا مالهم، فيوصي بهم من يقوم عليهم، ويحفظ مالهم.
وبعض الناس يحب أن يصل رحمه بعد موته كما كان يصلهم في حياته، أو كان مقصرا في صلتهم أثناء حياته فأراد أن يمحو تقصيره بعد موته فيوصي لهم.
وقد يخشى الإنسان بعد وفاته وقوع أهله وولده في محرم فيعهد لهم بتحذيرهم منه، أو يريد حثهم على عمل صالح ينفعهم فيوصيهم به.
من أجل ذلك كله، ولغيره من الحكم والمنافع شرع الله تعالى الوصية، وأمر بها في كتابه الكريم {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] والآية تفيد فرض الوصية على من ترك خيرا -وهو المال الكثير- للوالدين، وذلك قبل نزول آية المواريث، ولما نزلت آية المواريث بقيت الوصية للوالدين الممنوعين من الميراث، كمن كان والداه كافرين وهو مسلم فيوصي لهما؛ لأن الكافر لا يرث المسلم، ويجب على ولدهما برهما، ومن برهما الوصية بشيء من ماله لهما ولو كانا على غير دينه، فما أكبر حق الوالدين؟ وما أعظم دين الإسلام الذي جعل لهما حقا في مال ولدهما وهما على ملة أخرى.
وتكون الوصية للفقراء من الأقربين، من باب صلتهم بعد الموت، والصدقة عليهم، وانتفاعهم من قريبهم حيا وميتا. وتكون هذه الوصية بالمعروف فلا ظلم فيها؛ وذلك بأن لا يوصي للأغنياء ويترك الفقراء، أو يوصي للأبعد ويترك الأقرب، أو يضر الورثة بوصيته فيوصي بأكثر من الثلث.
وقد تكون حاجة الموصَى له للمال أعظم من حاجة الوارث، كجد وجدة لا مال لهما، ويضعفان عن الاكتساب لكبرهما، ولا يرثان مع وجود الأب، فإذا أوصى الحفيد أو السبط لهما أغناهما، ووصلهما، ووقعت وصيته في موقعها، فكانت صدقة على من يستحقها، وصلة لأقرب الناس وأضعفهم ممن يغفل عنهم كثير من الموصين.
وأعظم شيء يوصى به دين الله تعالى، والثبات عليه، وهي وصية الرسل عليهم السلام لبنيهم {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132، 133].
وتنفذ الوصية قبل قسمة المواريث؛ لأن الله تعالى قدمها في آيات تقسيم المواريث {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] أي: هذه القسمة تكون بعد إنفاذ الوصية وقضاء الدين.
وفي السنة النبوية تأكيد على الوصية في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» رواه الشيخان، زاد مسلم في روايته قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: «مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي» وقال الْحَسَنُ البصري رحمه الله تعالى:«الْمُؤْمِنُ لَا يَأْكُلُ فِي كُلِّ بطنه، وَلَا تَزَالُ وَصِيَّتُهُ تَحْتَ جَنْبِهِ» رواه الدارمي.
والوصية تدور على الأحكام كلها، فتكون واجبة إذا كان عليه حق لله تعالى ككفارة لم يؤدها حتى حضرته الوفاة، فيوصي من يؤديها عنه، أو كان عليه دين لم يوثقه بالكتابة، ولا بينة للدائن عليه، فيجب أن يوصي به؛ لئلا يضيع حق الدائن؛ ولئلا يوقع الحرج على ورثته إذا طولبوا بحقوق لا بينة عليها.
وتكون الوصية مستحبة إذا كان الرجل ذا ثراء، وورثته وقرابته أغنياء، فيوصي بشيء من ماله، الثلث فما دونه فيما يعود عليه بالنفع في أخراه؛ لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ "رواه مسلم.
وتكون الوصية محرمة إذا أوصى لوارث؛ لأن فيها اعتراضا على قسمة الله تعالى التي قسمها في الورثة؛ ولقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وتحرم الوصية إذا بذلها في محرم كمن يوصي بسلاح في قتال فتنة أو قتال عصبية، أو يوصي بما فيه مفاخرة بنسب، أو في بناء دار لهو ولعب.
وتحرم الوصية بما زاد عن الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الوصية بالثلث وقال: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ».
وتكون الوصية محرمة إذا قصد بها الإضرار بالورثة؛ فإنما الإعمال بالنيات، والموصي إنما أوصى للتقرب إلى الله تعالى بصلة رحم، أو إعانة ضعيف، أو عمل برٍّ، فإذا لم يقصد بوصيته ذلك، وإنما قصد أن يضر الورثة بإخراج ثلث ماله ليحرمهم منه، أو ليدخل عليهم فيه شريكا يضرهم؛ لينتقم منهم؛ كان آثما في وصيته، ويختم حياته بسوء عمله، مع ما يناله من بغض ورثته له، وربما دعاؤهم عليه، والله تعالى يقول {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أَيْ: لِتَكُونَ وَصِيَّتُهُ عَلَى الْعَدْلِ، لَا عَلَى الْإِضْرَارِ وَالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ بِأَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَنْقُصَهُ، أَوْ يَزِيدَهُ عَلَى مَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْفَرِيضَةِ، فَمَتَى سَعَى فِي ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حِكْمَتِهِ وَقِسْمَتِهِ؛ ثم أسند إلى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ".
وقد تكن الوصية مكروهة كما لو كان فقيرا، أو مستور حال، وله ورثة يحتاجون ماله، فيوصي بشيء منه لغيرهم وهم أولى به وأقرب إليه، أو يوصي به في قربة وهم أولى من يُتصدق عليه، كما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» رواه مسلم. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ» رواه الشيخان.
فكم من مريد للأجر في غير داره، والأجر في داره، وكم من فطن لمحتاجين بُعَدَاء، وأهله أمامه أهل فاقة وحاجة لا يراهم، فيجاوزهم إلى غيرهم، ويحرمهم من بعض ما عنده.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يجعلنا من عباده المقربين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131، 132]
أيها المسلمون: أفضل وقت للوصية أن يوصي الرجل وهو في تمام صحته وعافيته؛ فإن ذلك يدل على رغبته في البر، وتقربه بالبذل، روى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» رواه الشيخان.
فمن أوصى عند موته فكأنه يتصدق بمال ورثته؛ لأنه قريبا سينتقل إليهم، بخلاف من أوصى في صحته فهو إنما يتصدق من ماله؛ لأنه يأمل في الحياة ولم ييأس منها.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» رواه البخاري.
وليس معنى ذلك أنه إن أخر الوصية إلى قرب موته يحرم أجرها، بل له أجرها ما لم يكن مضارا بها، والموصي حال صحته أفضل منه، قال الشعبي رحمه الله تعالى:«كَانَ يُقَالُ: مَنْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ فَلَمْ يَجُرْ، وَلَمْ يَحِفْ، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا إنْ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ».
وينبغي لمن أراد أن يوصي بشيء أن يشاور أهل العلم في وصيته، وفي صيغتها؛ لئلا يقع في محرم وهو لا يعلم.
تلكم -عباد الله- حكم وأحكام للوصية التي غفل عنها كثير من الناس، مع أن الله تعالى نوه بها في القرآن، وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فلنمتثل أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الطاعة التي غفل عنها كثير من الناس {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]
وصلوا وسلموا على نبيكم...