عمود الإسلام (شعائر الصلاة)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهـد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النِّسَاءِ:1] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَابِ:70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: أشد شيء يربط الناس بدينهم، ويحفظ عليهم إيمانهم، ويقوي صلتهم بربهم سبحانه وتعالى؛ استدامتهم على العبادة، ولا يقطع المؤمنَ عن العبادة إلا الموت، فلا يقطعه عنها شغل ولا مرض ولا سفر ولا سجن ولا حرب {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر:99] والصلاة صلة بين العبد وربه؛ لأنها تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، ولا تسقط عن العاقل أبدًا، فيصلي حسب استطاعته، وعلى أي حال، وفي أي مكان، ولو حبس في مكان مليء بالنجاسات لما ترك الصلاة، وصلى فيه، وتجنب النجاسات قدر استطاعته.
وكلما كثرت الشعائر في العبادة كان ذلك أدعى لبقائها، وأقوى في دعوة الناس إليها؛ لأن الشعائر هي أعلام الدين الظاهرة، وظهور الشعائر في العبادة يدعو من يراها إليها.
والصلاة شعيرة من الشعائر، وهي مملوءة بالشعائر الظاهرة المعلنة؛ ولذا كان مجرد فعلها في العلن داعيا إليها، مرغبا فيها. كما كانت الصلاة أقوى دعاية للإسلام، ودعوة الكفار إليه.
ولما كانت المساجد بيوت الصلاة، ويجتمع المصلون فيها لأدائها؛ كان أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته للمدينة بناء المسجد، ورتب ثواب جزيل على بناء المساجد، وأثني على روادها في القرآن وفي السنة {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36-37].
والنداء للصلاة شعيرة معلنة تدل على وقت الصلاة ومكانها؛ ولذا كان من سنن الأذان أن يكون المؤذن قوي الصوت، وأن يصعد مكانا مرتفعا، وأن يرفع صوته بالأذان قدر ما يستطيع؛ ليبلغ صوته أقصى مكان ممكن؛ إعلانا بشعيرة الصلاة. وجوزي على اجتهاده في رفع صوته بأن يشهد له كل شيء سمعه، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه مسلم. وهذا الثواب لهم لأنهم أعلنوا شعائر الله تعالى، وبلغوا بها أقصى الأماكن.
ولما كثر المسلمون، واتسعت الأمصار؛ اتخذت المآذن للمساجد؛ ليستدل الناس بها على مواقعها، ولكي يعتليها المؤذنون وقت النداء لتبلغ أصواتهم أقصى مكان. فصارت المآذن مشاعر للمساجد تدل عليها، ويُعرف الإسلام بها، وكم من كافر دفعه الفضول لرؤية المساجد، ورؤية روادها وهم يصلون، فقاده ذلك إلى الإسلام، والحوادث في ذلك كثيرة.
والمشي إلى المسجد شعيرة، كما أنه سبب لأداء شعيرة الصلاة؛ فمع كونه مشيًا إلى طاعة، فإنه طاعة؛ لأنه يدعو الكسالى من المسلمين لارتياد المساجد، فكم من شيخ مسن يدب على الأرض بمشقة بالغة ليصل إلى المسجد، وكم من مريض يهادى للمسجد، وكم من قعيد يدفع بعربته إلى المسجد؛ يهدي الله تعالى بهم خلقا كثيرا ممن يتخلفون عن الجماعة. وإذا قصد غريب بلدة أو قرية أو حيًّا فإنه يستدل على المسجد بانسياب الناس إليه من الأزقة والطرق، فكان الماشي إلى المسجد دالا بفعله عليه. وكلما بعد المسجد كان المشي إليه أظهر لشعيرة الصلاة، فكان أجر الماشي أكثر؛ لما جاء في حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاَةِ أَبْعَدُهُمْ، فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى...» متفق عليه.
فلا عجب أن ترتب الأجور العظيمة على المشي إلى المساجد من تكفير الخطيئات، ومحو السيئات، ورفع الدرجات، واكتساب الحسنات؛ ففي ذلك إظهار شعائر الإسلام، وهو من أعظم مقاصد الشرع، ومن أهم أسباب حفظ الدين والدعوة إليها؛ فالأمة لا يضيع دينها إلا حين تُترك شعائرها.
وكلما كبر المسجد، وكثرت الجماعة المصلية فيه؛ كان ذلك أظهر لشعيرة الصلاة، وأعظم مهابة لدين الإسلام، ومن رأى جموع المصلين في الحرمين الشريفين في عشر رمضان الأخيرة، ورأى صلاة العيد في الساحات العامة في الدول الكافرة؛ رأى مشاهد مهيبة تملأ قلبه بالإيمان والخشوع، وهي تؤثر ولا شك في قلوب الكفار، وتدعوهم إلى الإسلام؛ ولذا كانت الصلاة في المسجد الأكثر جمعا أفضل من الصلاة في الأقل منه، لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «...صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ رَجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ رَجُلٍ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ» صححه ابن خزيمة وابن حبان.
وجاء عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم تفضيل الصلاة في المسجد العتيق على الصلاة في المسجد الحديث، وما ذاك إلا لأنه أسبق في إقامة شعيرة الصلاة، وشهدت بقعته من الذكر وإقامة الشعائر أكثر مما شهدته المساجد الحديثة، ومن أسباب تفضيل المساجد الثلاثة أقدميتها، وأقدمية الصلاة فيها.
وإقامة الصلاة، وتكبيرة الإحرام وسائر التكبيرات من شعائر الصلاة، لأنها عبادات معلنة يرفع الصوت بها؛ للدلالة على بدء الصلاة، والدخول فيها، والانتقال بين أركانها.
وقراءة الإمام في الصلاة الجهرية شعيرة من شعائر الصلاة؛ فهو يرفع صوته به ويرتله ويترنم به، وإذا أردت أن تعرف أثر هذه الشعيرة فانظر إلى جماعة قد اصطفوا خلف إمامهم في بلاد كافرة، في مطارها أو سوقها يصلون فيراهم الناس، ويستمعون إلى قراءة إمامهم؛ لتظهر شعيرة الصلاة والقرآن، وتكون دعوة لدخول الإسلام، ودعوة لعصاة المسلمين التاركين للصلاة أن يحافظوا عليها.
ولما أنعم الله تعالى على المسلمين بمكبرات الصوت صار الأذان والإقامة وقراءة القرآن تجلجل في الآفاق لتملأ الفضاء بذكر الله تعالى، وإعلان شعائره. وصار المؤمن إذا سافر إلى بلاد الكفار وفقد صوت الأذان والصلاة؛ عرف قيمة هذه الشعيرة الظاهرة المعلنة، وأثرها على المؤمن في حياته اليومية.
والذكر الذي يكون عقب الصلاة مباشرة هو من الشعائر المتصلة بالصلاة، واستحب الجهر به؛ إظهارا له، وإعلانا بأن شعيرة الصلاة المفروضة قد انتهت، وأصل ذلك ما رواه أبو مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: «أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَأَنَّهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ» رواه الشيخان.
نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يرزقنا تعظيم شعائره، إنه سميع مجيب {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه، وعظموا أمره ولا تعصوه، وحافظوا على الصلاة في المساجد؛ فإنها أكثر شعائر الإسلام تكررا، وأعظمها أثرًا على الفرد والجماعة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56].
أيها المسلمون: أعظم ما يحفظ على الناس دينهم محافظتهم على صلاتهم، ومن أوصاف المؤمنين {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34] وفي آية أخرى [الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ] {المعارج:23} وفي الملمات والمدلهمات {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة:45].
والمحاربون للإسلام يحاربون الصلاة والمصلين، ويحاولون الحيلولة بين المساجد والمؤمنين، ومنع بناء المآذن في بعض البلاد التي تدعي الحرية هو من حرب المساجد؛ لأن المآذن علامات المساجد.
ولأن الصلاة شعيرة وفيها جملة من الشعائر، وحضورها في المساجد إظهار لهذه الشعائر؛ نعلم أي حرمان حاق بمن يتهاونون بالصلاة في المساجد مع الجماعة، فلا يشاركون المسلمين في إظهار شعائر الله تعالى وتعظيمها. ونعلم جناية من يرخصون للناس في ترك الجماعة، ويزهدونهم فيها، وهي من الشعائر اليومية. وندرك البون الشاسع بينهم وبين سلف هذه الأمة وصالحيها، قال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة. وقال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه. وكان ليث بن أبي سليم إذا فاتته الصلاة في مسجد حيه اكترى حماراً فطاف عليه المساجد حتى يدرك الجماعة.
ألا فعظموا شعائر الله تعالى بتعظيم قدر الصلاة، وإتيان الجماعة، والمحافظة على التكبيرة الأولى، فمن فعل ذلك سعد في الدنيا وفي الآخرة.
وصلوا وسلموا على نبيكم...