الدولة الصفوية (تجويع السوريين واليمنيين)
الحمد لله الخلاق العليم؛ خلق الإنسان من ماء مهين، وسواه في أحسن تقويم، ثم رده أسفل سافلين، ولم يستثن من سفوله إلا المؤمنين، فنحمده على حكمه وحكمته في خلق الإنسان، ونشكره على ما من به علينا من الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم الأمر والشأن، شديد البطش والانتقام، عزيز لا يضام، وقيوم لا ينام، يملي للظالمين فيستدرجهم، حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، ويبتلي المؤمنين ليجتبيهم، وله في أفعاله وأحكامه الحجة البالغة، والحكمة الباهرة، وهو الحكيم العليم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جمع الله تعالى به القلوب من شتاتها، وأزال أضغانها وأحقادها، ورفعها من دنايا الدنيا إلى الملكوت الأعلى، ومن حظوظ النفس إلى حقوق الأخوة، فأوجب المواساة بين المسلمين، وبين حقوق الأخوة للمؤمنين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأكثروا من الأعمال الصالحة؛ فإنكم في زمن فتن يرقق بعضها بعضا، وينسي آخرها أولها، ولا نجاة فيها إلا بتقوى الله تعالى وطاعته {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزُّمر:61] .
أيها الناس: إذا أشكل على الإنسان معرفة الإنسان فلينظر إلى بؤر الصراع والحروب ليعرف حقيقة الإنسان؛ فإنه وإن تدثر بالثياب، وتزيا بالأخلاق، ولاك المثل باللسان؛ فإنه يحمل قلبا قاسيا كاسرا، لا يعرف الشفقة والرحمة، ولا يمل من القتل والإفساد. بل لا يطرب إلا على أنين الجرحى والجياع، ولا يأنس إلا بمناظر الدماء والأشلاء. ولا يرده عن ذلك إلا دين رادع، أو سلطان وازع، وسبب ذلك ما ركب فيه من الجهل والظلم {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].
وإذا أشكل على الإنسان معرفة أخلاق من يديرون الأرض في هذا الزمن من قادة الدول الكبرى، ورؤساء المنظمات الدولية؛ فلينظر إلى الهياكل العظمية التي تئن من الجوع في الشام، وإلى الصواريخ والبراميل المتفجرة التي تدك مدارس الأطفال، فتحيل أجسادهم الطاهرة إلى أشلاء ممزقة؛ ليعرف أن أصحاب البدلات الأنيقة، والابتسامات الجميلة؛ يحملون قلوبا متوحشة، تستطيع إفناء البشر بأجمعهم دون أن تطرف أعين أصحابها، أو تشعر بمرارة فعلها؛ وذلك أنهم الآن يقدرون على إطعام البطون التي تئن من الجوع فلا يفعلون، ويقدرون على كسر الحصار عن المحاصرين فلا يفعلون، ويقدرون على إيقاف العدوان والظلم عن المظلومين فلا يفعلون. بل ربما يباركون ويؤيدون، وأفعالهم وقراراتهم ومواقفهم مع المجرمين الذين يقتلون ويدمرون ويحاصرون ويجوعون، وما يخرج منهم من كلمات الأسى والحزن على الضحايا ليست سوى رسوم دبلوماسية يلقونها للإعلام؛ ليخدعوا بها الناس. ولو لم يكن زعماء الدول الكبرى، ورؤساء المنظمات الدولية في مواقعهم الآن؛ لكانوا رؤساء عصابات تمتهن القتل والسرقة والاغتصاب والإفساد والتدمير، بما يحملونه من قلوب قادرة على سحق الغير في سبيل حظوظ النفس؛ وإلا لو ملك الواحد منهم قلبا فيه ذرة من رحمة لكان أقل ما يقدمه الاستقالة من منصبه لئلا يكون شريكا في تجويع الضعفاء وسحقهم.
إن من يرى تواطأ قادة العالم الحر مع الصفويين في قتلهم للمسلمين وتجويعهم يعلم ما تكنه صدورهم، وما يخفونه في قلوبهم من قسوة وغلظة ودموية تفوق الوصف. والصفويون ما كانوا يديرون حروبهم ضد الإسلام وأهله وحدهم، ولا يقدرون على ذلك لولا الحبال الممدودة إليهم سياسيا وعسكريا واقتصاديا وإعلاميا من الشرق الوثني والأرثوذكسي، والغرب الأصولي الصهيوني.
إن المجاعة التي تصنع منذ أشهر في مدن الشام المحاصرة ما كانت إلا بأوامر ولاية الفقيه الصفوية، وتنفيذ خدامهم من جنود حزب الشيطان وجنود النصيرية؛ ليعيدوا للأذهان جريمة حصار المسلمين في تل الزعتر قبل أربعين عاما، التي تآزر فيها النصيرية مع الكتائب المارونية الحاقدة. حين أحكموا الحصار على المخيم خمسة أشهر، وفجروا أنابيب المياه ليقتلوا المحاصرين عطشا وجوعا، حتى عُدل كأس الماء بكأس الدم من قلة المياه، وشدة العطش، فمات في الحصار ثلاث مئة طفل ورضيع جوعا وعطشا، ووقتها كانت الدول الكبرى والمنظمات الدولية تكتفي بالتنديد في الظاهر، وكانت في الباطن تؤيد القتلة السفاحين، وبلغ الجوع بالناس إلى حد أكل جيف القطط والكلاب، ثم استفتى أهل المخيم العلماء في حكم أكل القتلى منهم للبقاء على حياتهم؛ حتى سطر شاعر منهم قصيدة يرثي فيها طفله المسجى أمام عينيه، ويتساءل هل يأكله ليبقى حيا؟ وماذا يأكل من جسده؟ وبماذا يبدأ منه؟!
وبعد معاناة الجوع كان الاجتياح الذي أفنى الألوف بالقتل العشوائي، واغتصاب النساء، وذبح من بقي من الأطفال. وكان هذا المشهد الإنساني الدموي ينقل لقادة الدول الكبرى، والمنظمات الدولية، ولم يحركوا ساكنا، وعاد المجرم النصيري وشركاؤه آمنين مطمئنين، فلم يحاكم منهم أحد أو يساءل عن ألوف الضحايا التي قتلت. وبعدها بعشر سنوات فقط حاصرت حركة أمل الباطنية المخيمات الفلسطينية، بأمر ومؤازرة النصيرية والعمائم الصفوية وعاد الجوع إليها مرة أخرى حتى اجتيحت المخيمات وسحق أهلها.
وفي العام الماضي حاصر حزب الشيطان مخيم اليرموك ومدينة الأعظمية، ووقتها نقلت الشاشات صورة عجوز تبكي من الجوع، وكتب شاب في المخيم يوميات عن الجوع أحصى فيها موت مئة وسبعين شخصا من الجوع، وبكى على أول ميت من الجوع ثلاثة أيام، لكنه بعد ذلك ما عاد يبكي ولا يحس من كثرة من يتساقطون من الجوع.
وفي شتاء هذا العام ومنذ سبعة أشهر حاصر حزب الشيطان مع القوات النصيرية الزبداني ومضايا ليعود سلاح التجويع من جديد، ونقلت صور مفزعة لهياكل عظمية أكل الجوع أجساد أصحابها، ومقطع لطفل لا يقوى على الكلام من الجوع يخبر أنه لم يذق شيئا منذ سبعة أيام في صقيع شديد يتجمد من برودته الشبعان. ومن أخرجه الجوع من البلدة كان وحوش الباطنية بانتظاره لقنصه أو تعذيبه قبل قتله. ومن الشام في الشمال إلى اليمن في الجنوب حيث ترزح مدينة تعز تحت حصار الحوثيين الباطنيين فمنعوا عنها الماء والطعام والدواء، ويريدون قتل أهلها بالجوع كما فعل إخوانهم الباطنيون بأهل الشام، والعالم الحر كعادته لا يلقي بالا للمحاصرين ما داموا من أهل السنة. وكأن القتل صبرا بالتجويع صار حرفة باطنية ينفذها الصفويون، ويؤيدهم الملاحدة والوثنيون، ويغض الطرف عنها الغربيون.
هذا الذي يقع الآن من التجويع إلى حد الموت ليس في القرون الوسطى، ولا في زمن الجاهلية الأولى، وإنما في حضارة القرن الواحد والعشرين بإعلامها الناقل للأحداث، ومنظماتها الإنسانية التي تتكاثر، ويتكاثر معها القتل والحصار والجوع. تلك الحضارة الإنسانية، التي جعلت رمزها الإنسان، وشعارها الإنسانية، فإذا هي تقتل الإنسان وتسحقه. بل لم يتوطأ العالم يوما على قتل الإنسان وتجويعه كتواطئه الآن؛ فقديما كان الإنسان يُحاصر ويجوع ويقتل، ولا يعلم به إلا من كانوا في محيطه، وأما الآن فإن أخبار الحصار والتجويع، وصور الجوعى وهم يتساقطون تُنقل إلى العالم كله لحظة بلحظة، وتصل إلى الأجهزة الذكية التي لا تخلو منها أيدي الناس.
إن للجوع رعبا يفوق رعب الحرب، وله ألم ليس كألم المرض، فالمريض ينام حين يسكن ألمه، والجائع لا ينام. والمريض يستجمع قواه في حالة سكون الألم ليستعد لألم جديد، وأما الجوع فلا يعطي الجائع فرصة ليستجمع قواه. ورعب الحرب مهما بلغت لن يكون كرعب هياكل عظمية يغطيها اللباس، ومناظر الممددين على الأرض من الجوع أبشع من مناظر القتلى، والجائع تخور قواه شيئا شيئا، وتتعطل أجهزة جسده فيتألم لكن ألم ألجوع ينسيه ألم ما تعطل من أجهزته، فللجوع ألم لا يوصف، وأنين يفتت الأكباد. والنبي صلى الله عليه وسلم تعوذ من الجوع فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ» رواه أبو داود.
نسأل الله تعالى أن يفرج عن إخواننا المحاصرين في الشام وفي اليمن، وأن يجوع من جوعهم، ويؤذي من آذاهم، ويحارب من حاربهم، وأن يكسر شوكة الباطنيين، ويردهم على أعقابهم خاسرين، ويبطل كيد أعداء الملة والدين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واشكروه على نعمه، وأطعموا إخوانكم الجوعى، وأغيثوا لهفتهم بالطعام والدواء، وابذلوا لهم الدعاء؛ فإن ميتة الجوع شر ميتة.
لنتذكر ونحن نبحث عن المهضمات والمسهلات بطون إخوان لنا خاوية لم تذق طعاما منذ أشهر.
ولنتذكر حين تمد موائدنا بأنواع الطعام بأن إخوانا لنا لهم أمنيات، ولكن ما هي أمنياتهم؟ لا أقول إنهم يتمنون شيئا من طعامنا، ولا يتمنون ما يتساقط منه على سُفرنا، فذلك حلم لا يصلون إليه. وإنما هم يتمنون فضلاته البائتة التي نقدمها لبهائمنا.
ولنتذكر ونحن نلاحق أطفالنا بالطعام، ونعاتبهم على عدم الأكل لبناء أجسادهم أن آباء الجوعى في الشام واليمن يتوارون عن أنظار أطفالهم حتى لا يتعذبوا برؤيتهم وهم يتلوون من الجوع، وحتى لا يسألونهم الطعام، وليس شيء أعسر على رب الأسرة من أن يرى أطفاله يتضاغون تحت قدميه من الجوع فلا يجد ما يقدمه لهم، وقد ضاعت حيلته تجاههم، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، يتمنى الموت مما أصابه من الهم والغم لجوع ولده وقد نسي جوعه.
ولنتذكر حال أم تريد حليبا لرضيعها فلا تجد شيئا فيظل يبكي ويبكي حتى يضعف صوته ويتحول بكاؤه إلى أنين وصفير من شدة الجوع حتى يسلم روحه إلى باريها وهو على ذراعها وتحت بصر أبيه. يالقسوة عالم وجدت فيه هذه المعاناة، يالقسوة بشر رضوا بذلك أو لم يأبهوا به.
يجب علينا أن نشكر الله تعالى على نعمه لئلا تسلب منا؛ فالشكر قيد النعم {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] كما يجب علينا إطعام الجوعى من إخواننا؛ فالإطعام في المسغبة من أعظم القربات، ويقدم على حج النافلة وجهاد الطلب، وتقدم الزكاة لأجله حولا وحولين، ولا حاجة أعظم من إنقاذ معصوم في مسغبة مهلكة {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 8 - 12].
وصلوا وسلموا على نبيكم...