موازين القوى و إحتمالات الحرب بين الروس و الأتراك
فاجأتنا أخبار الثلاثاء الساخن 24 نوفمبر بإسقاط طائرة حربية روسية عند الحدود التركية مع سوريا، بعد اختراقها للمجال الجوي التركي متجاهلة تحذيرات الجيش الذي فشل في إقناع الطيار الروسي بالخروج من الأجواء التركية، فكان مصيره وطيارته "السوخوي "24 محكوماً عليه بالإعدام، وذلك حسب الرواية التركية، التي لم تجد أمامها إلا الدفاع عن سيادتها أمام التهديد الروسي المتكرر.
ترتب عن تلك الحادثة ردات فعل من الجانب الروسي، كان لها صدى كبير في وسائل الإعلام المختلفة، لأن الرواية الروسية تقول إن وسائل مراقبتها تؤكد أن القاذفة الروسية لم تخترق الأجواء التركية، لكن الأهم من ذلك هو موقف حلف الناتو المنقسم على نفسه، فالإدارة الأمريكية تنفي علاقتها بالحادثة وتتهم تركيا بعدم التنسيق معها، والأمر مشابه بالنسبة لمواقف باريس ولندن وعدد من الدول الأوروبية التي وجهت اللوم لتركيا.
في هذه الأثناء توجهت أنظار الجميع إلى أنقره، فكان رد أردوغان على عكس توقعات الكثيرون في العالم العربي، خاصةً وأن أنظمتنا المغلوبة على أمرها، عودتنا على في ظروف مشابهة أن يسعى رأس النظام جاهداً لدخول بيت الطاعة الروسي، ولنا في حادثة طائرة شرم الشيخ الروسية خير دليل على ذلك.
أردوغان كان مختلف حين أكد على حق بلاده في حماية حدودها، مجدداً دعمه لأحرار سوريا ضد نظام بشار الظالم الذي يقتل شعبه، الأمر الذي أثار غضب بوتن. فما أشبه الليلة بالبارحة، حينما رفض القيصر الروسي "نيقولا الأول" وساطة الإمبراطور الفرنسي نابليون، لإنهاء القتال العثماني الروسي في حرب القرم الشهيرة عام 1853، قال القيصر الروسي "أشعر أن يد السلطان على خدي" واليوم كان تعليق "بوتين" على إسقاط المقاتلة الروسية، "إننا تعرضنا لطعنة في الظهر". ولا أدري أين ستكون اليد التركية إذا ما أقدم "بوتن" على تنفيذ تهديداته الذي أطلقها ضد أنقره.
لكن غضب بوتن سرعان ما بددته تصريحات وزير خارجيته "سيرغي لافروف" حينما أكد في صباح 25 نوفمبر وبعد ساعات قليلة من تصريحات بوتن الغاضبة، "لا نريد حرباً مع تركيا، وعلاقتنا مع الشعب التركي لم تتغير" راجياً ألا يُستخدم إسقاط الطائرة الروسية كذريعة لدفع فرض منطقة حظر جوي على سورية.
تسارع الأحداث وتبادل التصريحات فرضت حالة من الإثارة في وسائل الإعلام والفضائيات العالمية التي بدأت تتحدث عن سيناريوهات حرب روسية على تركيا، لكن قبل الخوض في هذه المسألة الحرجة، لا بد من الإشارة إلى حالة موازين القوى التي بدأ الحديث عنها على قدر كبير من الأهمية في ظل الحديث عن حرب أو مواجهة مسلحة محتملة.
وهنا وجب التنويه إلى أن التوازن العسكري التقليدي يُقاس بالكم نظراً لتعداد الجيوش والعتاد العسكرية المختلفة، بينما التوازن النووي يُقاس بالكيف، لأن السلاح النووي وجد للردع وليس للاستخدام، لذا فإن الحروب المحتملة ستقتصر على السلاح التقليدي الذي يتطور بشكل متسارع، ومع ذلك يبقى استخدامه أخف وطأة، وهو ما يُبقي على أهمية التركيز على موازين القوى التقليدية بين روسيا وتركيا دون الآخذ بعين الاعتبار ذلك التوازن النووي.
تقول حسابات التوازن العسكري التقليدي، إن عدد القوات الروسية الفعلية يبلغ 760 ألف مقاتل، في حين يبلغ تعداد الجيش التركي 670 ألف مقاتل، حيث يُشكل ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت الذي يصل فيه مجموع الدبابات والناقلات الروسية إلى أكثر من 45 ألف، فإن ما يقابلها في الجانب التركي يصل إلى 11 ألفاً، وبالحديث عن سلاح الطيران الروسي فإن الأرقام تُشير إلى نحو 7400 ألف طائرة، بينما يبلغ مجموع الطائرات التركية 900 طائرة فقط، ما يدلل على الفارق الكبير بين القوات الجوية وكذلك الأمر بالنسبة لسلاح الدبابات، فضلاً عن أن التفوق الروسي الكبير يتضح أيضاً في سلاح البحرية، فإجمالي سفنها البحرية يصل إلى 352 سفينة حربية، في حين تمتلك تركيا 212 سفينة فقط.
وبالعودة إلى إمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة، فالمؤكد أن تركيا تعلم جيداً إن أزمتها مع روسيا لن تمر بسلام، لأنها جعلت هيبة الدولة العظمى على المحك، ما دفعها إلى استدعاء سفراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن لوضعهم في صورة الحدث، كما ترأس أردوغان اجتماع مجلس أمني تدارساً للتوقعات المحتملة.
القلق التركي إذاً يضع في حساباته ذلك التاريخ القريب مع حلف الناتو، الذي تجاهل حقها بعد الاعتداءات الصهيونية على سفينة مرمرة وتركها وحدها تندب مصيبتها، وهذا ما يجيز لنا بالقول إن الغرب لا يرغب في الدفاع عن تلك الدولة المسلمة لكنه مضطراً للتحالف معها لمقتضيات المصلحة.
وما يُعزز من هذا القلق التركي طبيعة المواقف الأخيرة للإتحاد الأوروبي، حيث تصف بريطانيا الحادثة بالخطيرة جداً، كما أن التقارب الروسي الفرنسي في مواجهة الإرهاب المزعوم يجعل دول الناتو تبدو في حالة انقسام، خاصةً وأن مثل هذه الحادثة ربما تكون تجربة لوفاء الغرب لتركيا الإسلامية التي خذلتها دول الاتحاد الأوروبي سياسياً واقتصادياً ورفضت دخولها للإتحاد من منطلق العنصرية الدينية، لذلك يُعتقد أنه إذا لم يقف الناتو خلفها فيعني إن تركيا ستكون معرضة لضربات عنيفة في قادم الأيام من خلال دعم روسي إيراني غير محدود لحزب العمال الكردستاني الذي يمكن استخدامه روسياً كأحد الأدوات ضد الأتراك، بهدف تأجيج قضية قومية كبرى في وجه اردوغان، وربما تسعى روسيا أيضاً إلى تحريك طوائف أخرى في داخل تركيا بينها العلويين الذين يمثلون نحو 20% من الشعب التركي.
في الصدد عينه يمكن لروسيا أن تكثف حضورها العسكري في الأزمة السورية من خلال تكثيف هجماتها الجوية على جبل التركمان والسيطرة عليه أو انتزاعه من التنظيمات التركمانية، ما سيمثل تحدياً عسكرياً كبيراً لتركيا، حيث أن هذه البقعة الجغرافية تحديداً، هي المنطقة التي تحاول تركيا جعلها عازلة على حدودها مع سوريا، كما أن حساسية هذه المنطقة وأهميتها بالنسبة لتركيا كبيرة، لأن سكانها من أصل تركي.
ومع ذلك يبقى الحديث عن حرب عالمية ثالثة مستبعداً، وفي تصوري أن الأمر ما زال في طور الحرب الإعلامية الثالثة، لأن التصريحات والتصريحات المضادة تُعبر فقط عن سخونة الأحداث وخطورة المواقف، لكن معاقبة تركيا بتعزيز الوجود الروسي على حدودها في سوريا بات أمراً لا جدال فيه، فاستبعاد أي مواجهة مباشرة تركية روسية يرجع إلى عدة أسباب أهمها:
- إن تركيا دولة عضو في الناتو وأي اعتداء عليها هو اعتداء على الناتو، وهذا السبب الذي جعل بوتن مهتماً بمخاطبة دول الناتو خلال الساعات القليلة الماضية.
- لا أظن إن غرق روسيا في الوحل السوري سيشجعها على الغرق في الوحل التركي، عدا عن أن الأخيرة لها حضور قوي في الملف السوري، وهذا ما يُشكل مصدر قلق وإزعاج لروسيا التي اتهمتها مؤخراً بدعم الإرهاب.
- روسيا التي أحيت دورها ومكانتها الدولية في عهد بوتين، أغلب الظن أنها ليست معنية لدخول صراعات جديدة من شأنها أن تستنزف قدراتها العسكرية والاقتصادية، كما أن احتمالات تدحرج كرة اللهب إلى العمق الروسي عبر الشيشان وأوكرانيا في زمن عولمة العنف والإرهاب سيصبح وارد بقوة، خاصةً وأن التغلغل التركي في مناطق النفوذ الروسي في آسيا الوسطى والقوقاز لا يمكن تجاهله.