الاستسقاء عند الأمم
الحمد لله رب العالمين؛ دل الخلق عليه، وبين لهم الطريق إليه، فنصب الدلائل والبراهين على ربوبيته وألوهيته، وعلمنا أسماءه وصفاته لنعرفه وندعوه بها، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، فهو الملك الحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أتم به النعمة، وكشف به الغمة، وأنار الظلمة، فعرف الناس به دينهم، وتقربوا باتباعه إلى ربهم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأنيبوا إليه، فإنكم ما خرجتم لهذه الصلاة العظيمة إلا لتظهروا فاقتكم، وتطلبوا السقيا من ربكم، وتتوبوا من ذنوبكم، فأكثروا من الاستغفار لأنه سبب لنزل القطر من السماء {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52] وتصدقوا فإن الصدقة تطفئ غضب الرب جلا وعلا، وبها يدفع البلاء، وتستجلب الخيرات، وألحوا في الدعاء فإن الله تعالى يحب الملحين المتضرعين، والدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل من الجدب والقحط والقلة.
أيها الناس: الاستسقاء ذل لله تعالى، وافتقار إليه، وإقرار بقدرته، واعتراف بنعمته، وتخلص من كبرياء النفس وعتوها وجبروتها. فالمستسقي يطلب الضروري لحياته، ويذل لله تعالى في طلبه؛ لأنه يعلم قيمة الماء، ويدرك مصيره إذا فقد الماء.
ولأهمية الماء في حياة البشر وبقائهم؛ ولعلمهم أن السقيا من الله تعالى، وأنه سبحانه ينزل المطر أو يمسكه تتابع البشر على الاستسقاء؛ فاستسقى الأنبياء وأتباعهم، واستسقى المحرفون لأديانهم من أهل الكتاب، كما استسقى المخترعون لأديانهم من عباد الأوثان؛ فأهل الجاهلية من العرب كانوا يعرفون الاستسقاء، وعرفت لهم نار سميت نار الاستسقاء، فكانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات، واشتدّ الجدب، واحتاجوا إلى الأمطار؛ يجمعون لها بقرا، يعلقون في أذنابها وعراقيبها السَّلَع والعُشَر –وهما نوعان من النبات- ويصعدون بها إلى جبل وعر، ويشعلون فيها النار، ويضجّون بالدعاء والتضرّع. وكانوا يرون ذلك من الأسباب المتوصّل بها إلى نزول الغيث. قال ابن الكلبي: وإنما يضرمون النار تفاؤلا للبرق.
وأجدبت قريش في جاهليتها فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم، فاستسقى لهم فسقوا، وخبر ذلك مخرج في الصحيح، وبوب عليه البخاري فقال: باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط.
وفي مجتمعات وثنية كثيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب الكرة الأرضية كانوا يستسقون برقصات وأهازيج يطلبون بها السقيا من الله تعالى، حتى عرفت برقصات المطر.
وفي الشرق الوثني اعتقادات أخرى غريبة وكثيرة للاستسقاء. وغرائب الاستسقاء عند الأمم أكثر من أن تحصر، لا يجمعها إلا أن أربابها يطلبون السقيا بما يعتقدونه عبادة تجلبها.
وأما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فإنهم يعرفون الاستسقاء، وجاءت به رسلهم عليهم السلام، قال الله تعالى {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة:60] فيستسقون بصلاتهم ودعائهم في كنائسهم ومعابدهم بحسب ما في دينهم المحرف. وكان أهل الذمة منهم يحضرون الاستسقاء مع المسلمين، ولكثرة خروجهم للاستسقاء مع المسلمين نص الفقهاء على هذه المسألة وحكمها، قال الإمام الخرقي رحمه الله تعالى: وَإِنْ خَرَجَ مَعَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَمْ يُمْنَعُوا، وَأُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا مُنْفَرِدِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ.
ولما بعث الله تعالى نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام أرشد الأمة إلى الاستسقاء، وعلمهم إياه، وفعله أمامهم في صور عدة:
فاستسقى صلى الله عليه وسلم في دعاء خطبة الجمعة، ورفع يديه في استسقائه؛ ولذا خص دعاء الاستسقاء برفع اليدين في خطبة الجمعة دون سائر الدعاء فيها؛ لورود الأثر به.
وشكا أعرابي إليه الجدب فصعد المنبر واستسقى بالدعاء فقط.
واستسقى بالدعاء فقط وهو جالس في المسجد، فرفع يديه ودعا.
واستسقى بالدعاء خارج المسجد.
واسْتَسْقَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ لَمَّا سَبَقَهُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَاءِ فَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ الْعَطَشُ، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَاسْتَسْقَى لِقَوْمِهِ كَمَا اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: «أَوَقَدْ قَالُوهَا؟ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَسْقِيَكُمْ ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ وَدَعَا» فَمَا رَدَّ يَدَيْهِ مِنْ دُعَائِهِ حَتَّى أَظَلَّهُمُ السَّحَابُ وَأُمْطِرُوا، فَأَفْعَمَ السَّيْلُ الْوَادِيَ، فَشَرِبَ النَّاسُ فَارْتَوَوْا.
ووعد الناس يوما في المصلى، فخرج بهم، وصلى واستسقى، وهو أصل صلاة الاستسقاء التي لها خطبة ويجهر بالقراءة فيها، وصورتها صورة صلاة العيد، وهي أكمل صور الاستسقاء وأعظمها؛ لأن الناس خرجوا لأجلها، وفيها صلاة وخطبة ودعاء وابتهال. وهي هذه الصلاة التي خرجنا نستسقي الله تعالى بها، فلندع الله تعالى ونحن موقنون بالإجابة.
اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغا إلى حين.
اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ مِنْ اللَّأْوَاءِ وَالضَّنْكِ وَالْجَهْدِ مَا لَا نَشْكُوهُ إلَّا إلَيْك، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ، وَاكْشِفْ عَنَّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُك، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُك إنَّك كُنْت غَفَّارًا، فَأَرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا، وأمددنا بأموال وبنين واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهارا.
اللَّهُمَّ اسْقِنَا وَأَغِثْنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، وَحَيًّا رَبِيعًا، وَجَدًّا طَبَقًا غَدَقًا مُغْدِقًا مُونِقًا، هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا مَرْبَعًا مَرْتَعًا، سَائِلًا مُسْبِلًا مُجَلِّلًا، دِيَمًا دَرُورًا، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ؛ اللَّهُمَّ تُحْيِي بِهِ الْبِلَادَ، وَتُغِيثُ بِهِ الْعِبَادَ، وَتَجْعَلُهُ بَلَاغًا لِلْحَاضِرِ مِنَّا وَالْبَادِ، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ فِي أَرْضِنَا زِينَتَهَا، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا فِي أَرْضِنَا سَكَنَهَا، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، فَأَحْيِي بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا، وَأَسْقِهِ مِمَّا خَلَقْت أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا. وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
عباد الله: حولوا ألبستكم تفاؤلا بأن الله تعالى سيغير حالنا، فينزل علينا المطر، وادعوه مستقبلين القبلة وأيقنوا بالإجابة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.