بوتين و العصابة الروسية الخفية
لاشك أنّ الاستهزاء بالعدو ومحاولة التقليل من شأنه عن طريق عدم دراسته؛ تعد أحد أهمّ أسباب الهزيمة عند مواجهته، والمتأمّل في القرآن وهو يخبر عن الباطل وأهله، يجد أنّه يفصل أحوالهم النفسية والاجتماعية والثقافية، ولهذا فإنّه من الواجبات الكبرى قبل مواجهة أي عدو ومشاريعه، التفرّغ لمعرفته من خلال قراءته قراءة هادئة متأنية، بعيدا عن العاطفة الأميّة. وبعد أن عاد الروس إلى الظهور على الساحة الدولية منذ مجيء فلاديمير بوتين، وتوجههم نحو إلحاق أشد الأذى بالأمّة الإسلامية، فإنّ من أهمّ الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة: السؤال المحوري الآتي: كيف جاء بوتين إلى الحكم؟ من هي الجهات التي تقف وراء النظام الروسي الحالي؟
من صنع بوتين؟
عندما تدهورت شعبية وصحة الرئيس الروسي بوريس يلتسين، اجتمع المقربون منه لإيجاد خليفة له، يضمن له عدم متابعته قضائيا بعد تنحيه من الرئاسة، وكان في الجلسة ابنة الرئيس يلتسين، تاتيانا دياتشينكو، وزوجها فالنتين يوماتشيف وهو مدير الإدارة الرئاسية في 1990، وسيرغي إيميليان المصرفي الروسي الشهير، المتواجد في لندن بعد طلبه اللجوء السياسي هربا من متابعة قضائية صنعها له الكرملين بتهمة اختلاس 655 مليون جنيه استرليني، ومؤسس بنك ميجبروم، يقول إيميليان في حوار مع صحيفة فاينانشال تايمز إنه أوّل من اقترح اسم بوتين وامتدحه، وكان بوتين ضمن الدائرة الضيّقة المحيطة بيلتسين، وتلقفت ابنة يلتسين الاقتراح وروّجت له داخل هذه الدائرة الضيّقة التي كان اليهودي بوريس بيروزوفسكي أبرز حلقاتها، وعمل بيروزوفسكي على تهيئة الأجواء لبوتين -الذي كان مجرد موظف حكومي نكرة في الأوساط الروسية- وتقريبه من يلتسين حتى يقع اختياره عليه، ونجح في الأمر حتى صار بوتين فجأة القائم بأعمال الرئيس عندما تنحى يلتسين في ديسمبر1999، ليأخذ بيروزوفسكي بعد ذلك على عاتقه مسألة تمويل الحملة الانتخابية لبوتين، والدعاية له إعلاميا؛ باعتباره أحد أهمّ رجال الأعمال والسياسة في روسيا، ومالكا لكبرى القنوات والصحف في روسيا. يقول المعلق سيرغي بارخومنكو "قدم بوتين إلى المؤسسة الروسية في ذلك الوقت وصار ضمن الدائرة الضيقة المحيطة ببوريس يلتسن، وكان بيروزوفسكي أوّل من آمن بفكرة إخراج خليفة يلتسين من هذا الموظف الحكومي المغمور". ولا يستبعد اطلاقا قدرته على فعل ذلك، لمكانته في روسيا، حيث وتشير صحيفة الغارديان البريطانية إلى أنه من بين الأوليغارشيين السبعة الأكبر في روسيا في تسعينات القرن الماضي، والذين استحوذوا على 50% من اقتصاد روسيا، هناك 6 من اليهود:" بوريس بيريزوفسكي، ميخائيل خودركوفسكي، فلاديمير جوزينسكي، ألكسندر سمولينسكي، ميخائيل فريدمان وفاليري مالكين"، وانتهى الحال ببيروزوفسكي إلى معاداة بوتين وتمويل المقاومة الشيشانية، والدعاية للزعيم الشيشاني شامل باساييف، ثمّ إلى الانتحار بعد أن أكل اليأس قلبه من تغيير نظام الحكم بالقوة في روسيا.
إنّ انقلاب بوتين على كل من يشتم فيه رائحة الخطر على منصبه، حتى وإنّ كان ممن لهم فضل صناعته كرئيس، تدلّ على أنه صاحب شخصية دمويّة مستعدة لمحاربة الجميع من أجل البقاء في منصب الحكم، لتحقيق طموحاته الشخصية البعيدة كل البعد عن تطلعات الشعب الروسي.
من يحكم روسيا؟
يختزل الكثير من المتحدثين في الشأن الروسي نظام الحكم في روسيا في شخص الرئيس الحالي فلاديمير بوتين ورئيس وزراءه ديميتري ميدفيديف، بينما الحقيقة غير ذلك، حيث ورثت روسيا التركة الشمولية القمعية، ولم يتغير جوهر الحكم فيها، والذي كان جنرالات الجيش المسيطر الفعلي عليه، وتعتبر النخب الاستخباراتية الروسية اللّاعب الأهم في الساحة الروسيّة، وتعرف في أدبيّات الصحافة الغربية والروسية بعصبة سان بطرسبرغ، نسبة إلى مدينة سان بطرسبرغ التي كانت أهم عاصمة في تاريخ روسيا قبل أن تتحول إلى موسكو، هذه النّخب هي مهندس النظام الروسي الحالي، ووراء القرارات المصيرية في روسيا، حيث لا تزال تتحكم في رسم مسارات السياسة الداخلية والخارجية لروسيا بوتين، وعلى رأس هذه النخب مدير الاستخبارات الخارجية الروسية فلاديمير شتيرن، والذي كان المسؤول الأبرز عن ملف أوروبا الغربية في العهد السوفياتي، ويقف إلى جانبه الجنرال أوليغ كيرديش مسؤول ملف الجبهة الأسيوية في المخابرات الروسية، ويتحكم الرجلان في ملفات هامّة، أبرزها مجال الاتصالات بين أجهزة المخابرات في العالم مثل جهاز الاستخبارات البريطاني MI5، والموساد الصهيوني والمخابرات المركزية الأمريكية، كما يتولى هذا الفريق العمل على ملف الحركات الجهادية في العالم الإسلامي مثل تنظيم القاعدة والحركة الجهادية في القفقاس، ويمسك بملف المافيا في روسيا والمافيا اليابانية ياكوزا، ومافيا ترياد العملاقة التي تتواجد في دول كثيرة، وهي مافيا صينية مقرها الرئيس في هونغ كونغ، والمافيا الصقلية كوزا نوسترا، كما يدخل في مجال هذا الفريق العمل على ملف أباطرة المخدرات في أمريكا اللاتينية.
يعدّ هؤلاء الرجال أحد أهمّ وأخطر استراتيجي عالم المباحث اليوم، الأمر الذي يفسر تحكم بوتين في الكثير من الملفات، ومعرفته بخباياها، واستغلالها بشكل جيّد في تسييره لدفة الحكم في روسيا، وللسياسة الخارجية، بفضل دعم الفريق الاستخباراتي النخبوي الذي يقف وراء بقاءه وإدامة حكمه، ما يفند ما يشاع في الصحافة من أنّ الرجل يعمل لوحده، وأنّه صاحب استراتيجية أمنية وسياسية فذّة، فالرجل لم يكن سوى جاسوس صغير ومغمور ، مكلّف بملفات صغيرة في مدينة دوسلدورف بألمانيا.
كما يظهر اسم ليونيد ماكسيموفيتش كَيْدار وهو خبير إدارة العلاقات الدولية في جهاز الاستخبارات الروسي ، ويرجع إليه فلاديمير بوتين ورئيس حكومته ديمتري ميدفيديف قبل اتخاذ القرارات الحاسمة، وقد أقام مدة طويلة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، بطلب من فلاديمير شتيرن، ويشهد له بالذكاء الحاد في المجامع الأمنية الغربية.
كما يظهر اسم رجل مخابرات هامّ وهو بافل سامويلوف، وهو جنرال في الاستخبارات الروسية مكلف بملف أمريكا اللاتينية، يلقب بالرجل العظيم، ويعرف بعلاقاته المتينة مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، وهو صاحب التصريح الشهير في الحرب الصهيونية ضد قطاع غزة والمسماة صهيونيا بالرصاص المسكوب" يجب أن تذهب هذه العملية إلى نهايتها المنطقية" ويقصد تدمير المقاومة نهائيا في قطاع غزة.
هذا الفريق الاستخباراتي هو المتحكم فعليا بجهاز الاستخبارات الروسي، الذي يعد العقل الأمني الصانع للكثير من القرارات الحاسمة، خاصّة مع سيطرته على كمّ الهائل من المعلومات والأدوات التنفيذية المتاحة أمامه.
يقول رومان نعيموف في حديثه لصحيفة روس برين:" إن دائرة بوتين ترى نفسها فوق القانون، ولا تفكر إلّا في مصالحها الشخصية، إنّهم ينظرونا إلينا ككتلة بشرية لا قيمة لها، همّها الأكبر تنفيذ مخططاتها حتى لو أدى ذلك إلى حرب عالمية ثالثة"
بعد استعراض هذه الحقائق؛ يمكن تكوين صورة واضحة عن الذهنية التي تحكم الدائرة الضيّقة التي تسيطر على روسيا، وأقلّ ما يمكن وصفها به أنّها نخبة أمنية شرسة دموية، مستعدة للتضحية حتى بشعبها من أجل الحفاظ على مصالحها وتحقيق أهدافها، وتصفي خصومها لمجرد الاختلاف معهم في الرأي، وتطارد رجال الأعمال المتمنعين عن السير تحت سلطتها، وتهاجم حتى جيرانها ممن يتقاسمون معها التاريخ واللغة والدين، حيث قتلت الآلاف في شرق أوكرانيا ، واحتلت أجزاء من جورجيا الجارة النصرانية، فإذا كانت تفعل كل ذلك مع شعبها وجيرانها؛ فإنّه من المنطقي أنّها لن تتوانى عن ضرب الأمّة الإسلامية متى أُتيحت لها الفرصة، خاصة أنّ الشعور بالكبر والحقد يجعلها تتذكر المسلمين دوما بروح انتقامية، بعد أن وصل حكمهم يوما إلى موسكو ذاتها وفُرضت عليها الجزية من مسلمي التتر يوم كان للإسلام الكلمة العليا في أوراسيا.
إنّ النخبة الحالية لا تتفاهم بالحوار مهما حاولت إظهار براعتها في التلاعب بمصطلحات الحوار والتعايش بين الثقافات والديانات، وصدق بيروزوفسكي عندما قال:" هذا النظام لا يتغيّر إلا بالثورة ، بالقوة، بالضغط"، لذلك وجب على صانع القرار في العالم العربي والإسلامي أخذ هذه الحقائق بعين الاعتبار.
المصادر: مواقع روسية الكترونية
http://www.guardian.co.uk/russia/article/0,,2116253,00.html
http://lsycheva.ru/literature/anotherAuthors/anotherAuthors_2948.html
http://www.rusprin.info/press/politics/power/istinnye_hozyaeva_putin_i_ko_kto_oni /