"تعبيرية"
نشر الأفكار في المجتمعات يحتاج لمداخل غير تقليدية، لأن غزو عقول الشباب وجذبهم نحو أفكار جديدة ليس بالأمر السهل، كما أن ضمان نجاح أي فكره ونشرها دون المساس المباشر بالمعتقدات الدينية والعادات والتقاليد السائدة يتطلب أدوات وأساليب ناعمة تضمن عملية الانتشار والاستمرارية دون التصادم مع القوانين الناظمة التي تحكم المجتمع المراد غزوه فكرياً.
فعمليات الغزو الفكري الذي يتبعها الغرب مع العالم العربي منذ سنوات طويلة متشابهة من حيث الأساليب والأدوات، هدفها الوصول إلى قلوب وعقول الشباب العربي الذي يُعاني أصلاً من مشاكل اجتماعية وتدنى ملحوظ في مستوى الثقافة الدينية. فحالة الفراغ والتراجع الثقافي في العالم العربي تجعل البيئة العربية تستوعب كل ما هو جديد، دون النظر إلى ما وراء تلك التدخلات وما سيترتب عليها من عواقب لها تأثيرها السلبي على المستوى البعيد.
من هنا كان لانتشار لعبة اليوغا في بعض الدول العربية والأردن على وجه الخصوص أثر بالغ الخطورة على أفكار ممارسيها، لأن تلك الرياضة التي تعود لأصول هندوسية وبوذية تستخدم رموز سنسكريتية متشابهة للدلالة على الأماكن والأشياء والحيوانات، وهذا ما استدعى استنكار مدير أوقاف مدينة الزرقاء "شرق الأردن" الشيخ جمال البطاينة، لتلك اللعبة مؤكداً لصحيفة العربي الجديد في 1 أكتوبر، ورود شكاوي لمديريته تؤكد على اعتناق عدد من الشباب الأردني للبوذية في تلك المحافظة المذكورة.
وهذا ما يستدعي طرح السؤال التالي: هل تكون رياضة اليوغا ومراكز تعليمها سريعة الانتشار مدخل مستحدث لنشر الثقافة البوذية في الأردن والعالم العربي عموماً؟ أم أنها مجرد رياضة وفن وعاطفة للتخفيف من ضغوط الحياة كما يقول خبراؤها وهواتها؟
تلك اللعبة التي ظهرت في الهند منذ عصور وتأثرت بالهندوسية والبوذية والجينية وديانات أخرى، تتضمن حسب خبراؤها صلوات تدعو إلى السلام، وهي بمثابة أمنيات تقول "السلام مع نفسي، السلام مع الآخرين، السلام من الكوارث الطبيعية"، لكن انتشار مراكز تعليمها السريع والملفت في الأردن، لم يكن بنفس المستوى بالنسبة لهواتها اللذين يفضلون الاحتفاظ بأفكارهم ومعتقداتهم التي تعلموها لأنفسهم خشيةً من الرفض المجتمعي والعائلي، لذلك يلجأ بعض الشباب الأردنيون إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتنفيس عن أفكارهم ومعتقداتهم المكتسبة من إيمانهم بالأفكار البوذية الذي اكتسبوها عبر انتسابهم للمراكز الثقافية المهتمة بتعليم اليوغا.
اللافت في الأمر أن عدد الأردنيين المنتسبين لصفحة "البوذيون العرب" على الفيسبوك بلغ نحو 500 شخص من أصل 3500 مجموع المنتسبين لهذه الصفحة، وذلك وفقاً لصحيفة العربي الجديد، ما يؤكد على إنتشار الأفكار البوذية بعيداً عن ممارسة الرياضة نفسها، لأن ممارسة أي رياضة يحتاج لأفكار إبداعية من شأنها التطوير، لكن ما يُنشر من معتقدات فلسفية ودينية يؤكد على أن الجانب الثقافي الديني قد طغى على الجانب الرياضي المزعوم.
فالملاحظ هنا أن المنتسبين لمراكز تعليم اليوغا في الأردن يحاولون إخفاء انتسابهم لتلك اللعبة وتعاليمها عن المجتمع ما يؤكد على تعارض تعاليمها مع العادات والتقاليد والدين الإسلامي، فلو كانت مجرد كلمات ورياضة كما يقولون فما الداعي إذاً لتعلمها واعتناقها سراً؟!
من جانب آخر، أرجع أستاذ علم الاجتماع الدكتور مصطفى كيالي الأسباب التي تدفع الشباب إلى اعتناق أفكار فلسفية بوذية، إلى انتشار العنف الديني في المنطقة، الأمر الذي يجعل الشباب يتجه نحو البحث عن أفكار تمنحهم راحة روحية، فكانت مراكز اليوغا المنتشرة في الأردن والتي زاد عددها عن مئة مركز في عمان حسب كيالي، الطريق الأسهل والأكثر جذباً للشباب الأردني الذي اتجه للقراءة عن البوذية من أجل تعاليم التأمل الخاصة بها، ما أدى إلى زيادة اهتمامهم بها، حتى أن الأمر قد وصل إلى اعتناق الكثير منهم لمبادئها.
لكن بحسب الإحصاءات الرسمية إن عدد مراكز اليوغا المرخصة في عمان ثمانية مراكز، لكن الكثير من المراكز الثقافية الأخرى بدأت تتجه نحو تعليمها، لأنها وجدت رواج كبير لتلك السلعة التي يزداد روادها بشكل كبير، إما لأسباب صحية وضبط الأعصاب وإما ميولاً من البعض لتعلم واعتناق الديانات الشرقية، وذلك حسب تصريحات أحد مدربات اليوغا في عمان.
بحث بعض الشباب الأردني عن تعلم واعتناق الديانات الشرقية من أجل إتقان لعبة اليوغا يؤكد على أن تعلمها يحتاج لفهم الفلسفة والثقافة البوذية، حينها يكون طريق الاعتناق مُعبداً للكثير من الشباب الأردني الهارب من العُنف وضغوط الحياة، كما أن تراجع تعليم المفاهيم الإسلامية، وما يصاحبها من حملات تشويه عالمية، يجعل بعض الشباب يجد ضالته في اليوغا، لأن المصطلحات التي يجري استخدامها بين المروجين لها هي عبارات الخير والسلام، كما أن أغلب تصريحات من يمارسوها باحتراف لا تجد أي حرجاً في اعتناق أفكار الفلسفة البوذية لأنهم يعتقدون أنها لا تتعارض مع الديانات السماوية على حد وصفهم.
لذلك غالباً ستجد حديث خبراء هذه اللعبة في الأردن والعالم العربي عموماً يدور حول أنها فعل رياضي روحاني استقوها خلال تعلمهم لها في الهند أو من خلال المراكز الثقافية واسعة الانتشار، ويحاول هؤلاء الفصل بين الفلسفة البوذية والدين الإسلامي، من أجل التقليل من حجم النقد الذي يمكن أن يوجه لهم، فيتحدثون عن ضرورة تعلم الفلسفة البوذية لمنتسبيها لكنهم في نفس الوقت يركزون على الجانب الثقافي فقط بعيداً عن الجانب الديني.
وهو ما استند عليه مستشار السفير التايلندي في العاصمة الأردنية عمان للرد على الانتقادات التي تعرض لها عام 2010 أثناء افتتاح المركز الأردني التايلندي للتأمل وتطوير الذات مؤكداً على أن المركز عبارة عن مكان للتحدث عن الثقافة التايلندية، نافياً صحة الانتقادات التي وجهتها جبهة العمل الإسلامي حينها، والتي اعتبرت المركز للتبشير بالعقيدة البوذية.
ختاماً يمكن تسجيل ملاحظة هامة هي، أن هناك خلط واضح بين ما هو رياضي وثقافي وبين ما هو ديني، ما يجعل الفصل بينهما أمر صعب، لأن تعلم لعبة اليوغا يحتاج لتعلم الفلسفة والثقافة البوذية التي تتعارض مع الدين الإسلامي، وعليه فإن إنتشار مراكز اليوغا في الأردن يحمل علامات إستفهام كثيرة لأن تعليمها وممارستها خرج من إطار اللعبة إلى إطار نشر الثقافة البوذية التي وصلت إلى حد الاعتناق.