المساجد الثلاثة.. أولياؤها وأعداؤها
الحمد لله الخلاق العليم، اللطيف الخبير؛ جعل الدنيا دار عمل وابتلاء، وجعل الآخرة دار القرار والجزاء، فمن عمل في الدنيا صالحا كان في الآخرة فائزا، ومن أضاع دنياه ضاع في آخرته {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى } [طه: 126] نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك؛ { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [القصص: 68] وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أسرى به ربه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى السموات العلى، وصلى بالأنبياء؛ إيذانا بأنه إمامهم في الدنيا وفي الآخرة، وأن دينه مهيمن على الدين كله، وأنه لا يسع نبيا لو بعث إلا اتباعه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا له دينكم، وأسلموا له وجوهكم، وأخلصوا له أعمالكم؛ فإنكم على دين الحق الذي ارتضاه لكم { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ } [آل عمران: 19].
أيها الناس: ترتبط المساجد الثلاثة برباط من الفضل وثيق، وتتصل بحبل من الشرع متين، وتزخر بتاريخ عظيم مجيد. ليس تاريخَ ملوك وجبابرة وقادة، سفكوا الدماء، وشيدوا الأهرام، وسطروا أخبارهم بالدماء. وإنما تزخر المساجد الثلاثة حرمي مكة والمدينة والمسجد الأقصى بتاريخ الرسل والرسالات، والكتب المنزلة، والشرائع التي فيها صلاح العباد في الدنيا ويوم المعاد.
فمكة فيها ذكر الخليل وإسماعيل وهاجر عليهم السلام، مرورا بالصالحين في الفترة بين إسماعيل ومحمد عليهما السلام، كورقة بن نوفل وزيد بن عمرو في قلة ممن رفضوا الشرك وأقاموا التوحيد، حتى أضاءت مكة برسالة خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، فطهرها بالفتح من رجس الوثنية، وأعادها إلى الحنيفية، فانقطعت الهجرة منها بعد دخولها في الدين الحق.
ولم يكن أحد أحق بمكة ومسجدها إلا من يقيم دين الله تعالى فيها، ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم في أهلها، ويأتي بشعائر الحج على الوجه الذي شرعه الله تعالى بلا زيادة ولا نقصان، وهذه الأحقية للمؤمنين في حرم الله تعالى مقطوع بها في كتاب الله تعالى؛ فإن المشركين لما ادعوا أنهم أولى بالبيت من غيرهم لأنه تحت أيديهم؛ ولأن مكة بلدهم؛ وقالوا: نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء، وندخل من نشاء؛ نفى الله تعالى استحقاقهم الولاية عليه بقوله تعالى { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الأنفال: 34] فهذا هو حكم الله تعالى في مساجده المعظمة، أن يليها أهل التقوى، وأن يغلبوا عليها، وأن يطهروها من رجس أعداء الله تعالى، وأعداء دينه وأعداء مساجده.
وكانت الصلاة في المسجد الحرام تفضل على الصلاة فيما سواه من المساجد بمئة ألف صلاة كما جاء في الحديث؛ لحث أهل الإيمان على عمارته بالصلاة فيه؛ فإن من أعظم وأجل علل تطهيره من رجس المشركين عمارته بالطواف والصلاة { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [الحج: 26].
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حرَّمها كما حُرمت مكة، وفي ذلك حديثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ المَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِمَكَّةَ» رواه الشيخان.
وكان أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة أن شيَّد مسجده فيها فكان أفضل المساجد بعد المسجد الحرام، والصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام.
إن أرض الحجاز شهدت بزوغ الإسلام، وانتصاره على الشرك والأوثان، فمكة بعث فيها النبي عليه الصلاة والسلام، والمدينة بلاد هجرته ونصرته، ومن أرضهما المباركة تمدد الإسلام حتى بلغ أقاصي الأرض من مشرقها إلى مغربها.
وفي أرض الحجاز عاش أكثر الصحابة الكرام، ودفنوا بها، وتبعهم رجال صالحون من أتباعهم وتابعيهم من علماء وعباد، فكانت مكة وحرمها على ما قضى الله تعالى بقوله سبحانه { جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } [المائدة: 97] أَيْ: صَلَاحًا وَمَعَاشًا لِأَمْنِ النَّاسِ بِهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قِيَامًا لِدِينِهِمْ وَمَعْلَمًا لِحَجِّهِمْ.
وقال الْحَسَنُ البصري رحمه الله تعالى: لَا يَزَالُ النَّاسُ عَلَى دِينٍ مَا حَجُّوا وَاسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ.
ومنذ أن فتحت مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنذ أن شُرع الحج، وأمة الإسلام تقيم شعائر الحج في كل عام، إلا في سنة ست عشرة وثلاث مئة تعطل الحج بسبب القرامطة الذين كانوا يذبحون الحجاج ويقطعون الطرق عليهم، قال الذهبي في أحداثها: ولم يحجّ أحدٌ في هذه السنة خوفًا من القرامطة. ولهم تاريخ دموي مع حجاج العراق وخراسان، بل بلغ أذاهم إلى مكة فاستحلوها، ونزعوا الحجر الأسود من الكعبة، فخلا منها ثنتين وعشرين سنة، وقتلوا الحجاج في الحرم يوم التروية.
ويلي المسجدين في الفضل، وجواز شد الرحل إليه: المسجد الأقصى، وله تاريخ مجيد مع رسل الله عليهم السلام؛ فقد هاجر إليه الخليل عليه السلام، وبُعث في أرضه إسحاق ويعقوب، ومن أرضه أُخرج يوسف طفلا إلى مصر في قصته المشهورة، ثم عاد بنو إسرائيل إليها بعد هلاك فرعون، وفتحها يوشع بن نون، وفيها بعث داود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام في جمع من الأنبياء والمرسلين، حتى كانت بلد المسيح، ومنها رفع إلى السماء، وكانت قبلة بني إسرائيل، والقبلة الأولى للمسلمين قبل أن يحول الله تعالى القبلة إلى الكعبة. وجاء فيها من الفضل أن الصلاة في المسجد الأقصى بخمس مئة صلاة فيما سواه إلا مسجدي مكة والمدينة كما جاء في الحديث. وهذا الحديث من أعلام النبوة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر فضل الصلاة فيه كان النصارى يسيطرون عليه، فهو دليل على أنها ستفتح وتنتقل لولاية المسلمين، فكان كذلك.
وكان النصارى أولى بها من اليهود والوثنيين؛ لأنهم كانوا على الدين الحق. فلما بدلوا دينهم، وحرفوا كتابهم، وخرجوا على شريعتهم؛ انتقل حقهم فيها إلى غيرهم؛ لأن الأولى بمساجد الله تعالى من يقيم دينه، ويتبع رسله، ويعظم كتبه، ويعمل بشرعه. ولم يكن أحد كذلك بعد بعثة النبي الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام إلا أتباعه؛ ولذا توجهت همة النبي صلى الله عليه وسلم لتطهير الشام من الشرك بعد تطهير مكة، وضم المسجد الأقصى إلى مسجدي مكة والمدينة في ولاية المسلمين عليهما، فكانت سرية مؤتة ثم غزوة تبوك باتجاه الشام، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم، وتواصل جهد الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لضم المسجد الأقصى للمسلمين، حتى انتصر المسلمون في معارك الشام، فسار عمر رضي الله عنه بنفسه وهو خليفة المسلمين آنذاك من المدينة إلى بيت المقدس ليتسلم مفاتيحها من كبار النصارى الذين بدلوا دينهم، وحرفوا كتابهم. فكانت المساجد الثلاثة حقا للمسلمين إلى يوم القيامة؛ لأنها مساجد الله تعالى، شيدها أنبياؤه عليهم السلام، وشرعوا فيها ما لم يُشرع في غيرها، ولا تشد الرحال على وجه التعبد إلا إليها دون سائر بقاع الدنيا ومساجدها، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى" متفق عليه.
وسبب هذه الأحقية هي أن الإسلام هو دين الحق الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، فكان حملة دينه وأتباع رسله عليهم السلام أولى بمساجده سبحانه وتعالى من غيرهم من أهل الملل والنحل، فهم يقيمون توحيده فيها، ويمنعون أهل الشرك منها.
إن تاريخ المساجد الثلاثة تاريخ يشع بأنوار النبوة والوحي، وهو تاريخ يزخر بالعلم والعلماء والكتب والمصنفات التي كتبت ودُرِّست في زوايا المساجد الثلاثة وما حولها، وهو تاريخ يحكي سير العُبَّاد الذين جاوروا في المساجد الثلاثة فأحيوها بالقرآن والذكر حتى صاروا أمثلة تحتذى في العبادة والزهد. وليس ذلك لأحد إلا لأمة الإسلام، وأحاديث فضائل المساجد الثلاثة تحمل المسلمين مسئولية الحفاظ عليها من اعتداء المعتدين، وقد فعل المسلمون ذلك في سالف القرون أيام الاحتلال الصليبي لبلاد الشام، وأيام العدوان القرمطي على الحجاز، ويجب أن يفعلوه الآن في رد قرامطة العصر الطامعين الحاقدين عن حرمي مكة والمدينة، وهم يريدون سفك الدماء فيها ليخرج قائمهم، فإنه حسب معتقدهم ينتظر أن تغرق مكة بالدماء حتى يخرج من سردابه. وكذلك يجب على المسلمين رد العصابات الصهيونية عن المسجد الأقصى، وهم يريدون هدمه وبناء هيكلهم؛ لنقل أرضه من أرض يسجد لله تعالى فيها ويعبد ويوحد إلى أرض يشرك فيها بالله تعالى، ويعبد غيره.
نسأل الله تعالى أن يكبت الصهاينة والصفويين، وأن يردهم على أعقابهم خاسرين، وأن يحفظ المساجد الثلاثة من كيدهم وشركهم، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا ...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا فضل مساجدكم، وحقيقة أعدائكم، وما يريدونه بكم وبمقدساتكم؛ فإنهم لا يضمرون إلا الشر بالإسلام وأهله كما قال الله تعالى { وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا } [النساء: 45] وقد أخبرنا عن اليهود والنصارى فقال سبحانه { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ } [البقرة: 109] وفي آية أخرى { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة: 120] كما أخبرنا سبحانه عن المنافقين فقال { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } [النساء: 89] وقال سبحانه { هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ } [المنافقون: 4] والأمة الصفوية الباطنية تمثل في هذا العصر رأس النفاق السبئي الذي يظهر الحفاوة بالإسلام والمسلمين، وهو يطمس معالم الإسلام ويسحق المسلمين في كل مكان. ويظهر الخوف على الحجاج في عملية ابتزاز واضحة وهم الذي قتلوا الحجاج وفجروا في أوساطهم قبل سنوات قريبة، وودوا لو فعلوا ما فعل أسلافهم القرامطة حين ملئوا ساحة الكعبة وجنبات المسجد الحرام بجثث الحجاج المحرمين الطائفين، ولم يستثنوا من القتل طفلا ولا امرأة ولا مسنا ولا من تعلقوا بأستار الكعبة.
وقبل نحو خمسة قرون وأثناء قيام الدولة الصفوية الأولى تكاتب إسماعيل الصفوي وقائد الصليبيين البرتغال آنذاك يتحالفان على المسلمين في قصد البرتغاليين لبيت المقدس لانتزاعها من المسلمين، وقصد الصفويين مكة والمدينة واحتلالهما، ولكن الله تعالى خيب مساعيهم، وأحبط كيدهم.
وكتب الصفويين تفضل مشاهدهم الشركية في كربلاء والكوفة على المساجد الثلاثة، وتجعل فيها من أجور الزيارة والطواف بها والصلاة عندها ما هو أفضل من الحج. بل إن أئمتهم لا يأبهون بالحج ولا بمكة ولا المدينة، ولا تعترف كتبهم بالمسجد الأقصى، بل يعدونه في السماء. وإنما يحجون ويعتمرون خداعا لعوامهم وعوام المسلمين، ولأجل تسخير الحج ومشاعره لأغراض سياسية كما يفعلون في كل عام، وكتبهم ناضحة بكل ذلك، ونصوصهم المكذوبة على أئمة آل البيت كثيرة في هذا الباب، ولولا خشية الإطالة لنقلت طرفا منها، ويجدها من يريدها في مظانها.
إن المسلمين هم أولياء المساجد الثلاثة، وهم الأحق بها من الباطنيين ومن الصهاينة والصليبيين الذين لا يريدون إلا الإفساد في المساجد الثلاثة، وتلويثها بالشرك بعد أن صفت بالتوحيد، فمسئولية المسلمين في هذا الزمن حكاما ومحكومين عظيمة في الدفاع عن المساجد الثلاثة، وحراستها ممن يريد المساس بها، وفضح كل توجه مريب يريد الالتفاف على ولاية المسلمين عليها بدعوى تدويلها؛ فإنهم لما فعلوا ذلك بالقدس بعد النكسة سلموها لليهود.
فالمساجد الثلاثة حق خالص للمسلمين لا ولاية ليهودي ولا نصراني ولا باطني ولا لغيرهم على شيء منها، وهي وقف لا يسع أحدا التصرف فيه أو التنازل عنه، ومتى ما فهم المسلمون هذا المعنى أدركوا حجم المسئولية الملقاة عليهم بالحفاظ على المساجد الثلاثة، حفظها الله تعالى بحفظه، وجعلها أبد الدهر عامرة بذكره، وجنبها وأهلها كل سوء ومكروه، إنه سميع مجيب.
وصلوا وسلموا على نبيكم...