46 عاماً على إحراق الأقصى
بعدما انتهى العدوان الدموي على غزة في صيف العام الماضي؛ كان أكثر من 190 مسجداً في كافة أرجاء قطاع غزة قد شهدوا على إرهاب دولة الاحتلال، حيث قصفت الطائرات الحربية الصهيونية تلك المساجد، منها حوالي 120 مسجداً دُمروا بشكلٍ جزئيٍ، ونحو 70 مسجدٍ بشكلٍ ممنهجٍ وكاملٍ، في مشهد يُدمي القلب ويُدمع العين.
محاولة إحراق المسجد الأقصى
أقدم الشاب الصهيوني الأسترالي الأصل "دينيس مايكل وليام موهان" صباح يوم 21 اب/اغسطس 1969م، على إحراق أجزاء من المسجد الأقصى فاشتعلت النيرات فيه وأحرقت أجزاء وأماكن مختلفة منه، مثل منبر صلاح الدين الأيوبي، ومسجد "عمر" وكان سقفه من الطين والجسور الخشبية، ومحراب "زكريا" المجاور لمسجد "عمر"، ومقام الأربعين المجاور لمحراب "زكريا". والمحراب الرخامي الملون، والجدار الجنوبي وجميع التصفيح الرخامي الملون عليها، والجسور الخشبية المزخرفة الحاملة للقناديل والممتدة بين تيجان الأعمدة، وجميع السجّاد العجمين وغيرها من المعالم والزخارف والآيات القرآنية المحفورة على الخشب.
والملاحظ أن المجرم موهان قد اختار يوم الحادي والعشرين من اغسطس لإحراق المسجد الأقصى، وهو اليوم ذاته الذي تم فيه تدمير الهيكل الثاني على يد القائد الروماني تيطس سنة 70 ميلادية حسب المزاعم الصهيونية.
هرع الفلسطينيون لإطفاء الحرائق المتزايدة، لكن الغريب هو قيام سلطات الاحتلال بقطع إمدادات المياه على منطقة الحرم فور اشتعال النيران ومنعت سيارات الإطفاء والدفاع المدني من الدخول إلى باحات المسجد الأقصى بحجة أنَّ عملية الإطفاء من صلاحيات بلدية القدس التابعة لهم، فاضطر الفلسطينيون (مسلمون مسيحيون) لنقل المياه بالأوعية الصغيرة من منازلهم وأطفئوا الحريق قبل وصول النيران إلى قبة المسجد الأقصى.
اعتبرت حكومة الاحتلال أن الحريق كان بسبب ماس كهربائي داخل المسجد الاقصى، إلا أن خبراء ومهندسي شركة كهرباء القدس العربية الذين جاءوا بناءً على طلب من الهيئة الاسلامية للكشف عن أسباب الحريق؛ وأكدوا أن الحريق كان مدبراً بدقة ومتعمداً وليس بسبب عطل كهربائي كما أعلنت دولة الاحتلال.
وجدت حكومة الاحتلال نفسها في حرجٍ بالغٍ، فأعلنت القبض على الشخص الذي اعترف بجريمة الحريق، وقدمته للمحاكمة وحكمته بالسجن خمس سنوات، ثم اصدرت قرارا فيما بعد بإطلاق سراحه وترحيله الى استراليا.
وتشير المصادر إلى أن "غارمي غيلون" رئيس الشاباك الاسبق قد أشار في كتاب له إلى الخطة ووجهة النظر اليهودية التي تطالب بتدمير المسجد الاقصى، وكتب قائلا: "اليهود يعتبرون وجود الأقصى يشكل انتهاكاً لحرمة مكانٍ مقدسٍ، المكان الذي قام عليه الهيكلان". وكشف رئيس الشاباك الدوافع الكامنة خلف محاولات هدم المسجد الأقصى: وهي أولاً: دوافع سياسية: تشير إلى أن عملية التدمير ستؤدي إلى نسف عملية السلام مع العرب، وثانياً: دوافع دينية تتمثل في احتمالية اندلاع حرب مقدسة يظهر الله (يهوه) في اعقابها لتخليص شعب الله المختار.
المواقف العربية والدولية
عندما ارتكب الصهاينة جريمة إحراق المسجد الأقصى قالت رئيسة الوزراء الصهيونية "جولدا مائير": "لم أنم ليلتها وأنا أتخيل كيف أن العرب سيدخلون إسرائيل أفواجاً أفواجاً من كل حدب وصوب ... لكني عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء أدركت أن بمقدورنا أن نفعل ما نشاء فهذه أمة نائمة ... "!!. وكان تصريحها يعبر عن حقيقة الموقف الرسمي العربي الخاضع للإرادة الغربية، لم يسمع العرب في بداية الأمر بالحريق، ربما هذا عائد إلى التعتيم الإعلامي الرسمي. ولعل طريقة التعامل الصهيونية الاستفزازية جريمة حرق المسجد الأقصى في وقتٍ لاحقٍ أثارت حفيظة الأوساط العربية والإسلامية لما يمثله المسجد من قيمةٍ كبرى على الصعد الدينية والحضارية والإنسانية، فكان لهذا العمل الإجرامي ردة فعل كبيرة في العالم الإسلامي، واشتعلت المظاهرات في كل مكان.
كانت المملكة العربية السعودية في مقدمة الدول التي أدانت واستنكرت عملية إحراق المسجد الأقصى. حيث وجّه الملك السعودي، فيصل بن عبد العزيز آل سعود، نداء إلى العالم الإسلامي دعا فيه المسلمين بتحرير مقدسات الإسلام في القدس وإعلان الجهاد المقدس (23/08/1969م). وقامت بجهودٍ دبلوماسيةٍ مكثفة على مختلف الصعد من أجل القدس وتعاونت في هذا الشأن مع الدول الإسلامية حتى صدر قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 478 في العام 1980م الذي طالب الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في القدس إلى سحبها فوراً وهو القرار الذي أجمعت مختلف الأوساط على اعتباره نصراً للدبلوماسية الإسلامية وإحباطاً للمخطط الصهيوني الخبيث تجاه مدينة القدس المحتلة.
وأعلنت جامعة الدول العربية عن عقد اجتماع لوزراء الخارجية العرب لبحث الموقف الناجم عن الحريق. وفي عمان اعتبرت لجنة إنقاذ المسجد الأقصى أن العملية دليل على مخططات الكيان الصهيوني التوسعية لتهويد المقدسات وإقامة هيكل سليمان. وبعث رؤساء الطوائف المسيحية مذكرة إلى الأمم المتحدث تستنكر الحادث وتعتبر أن إلصاق التهمة بشخص مسسيحي يهدف إلى بث الفرقة بين المسلمين والمسيحيين. (24/08/1969م).
وفي كلمة ألقاها في افتتاح أعمال الدورة السادسة للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة، اعتبر الناطق الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية، كمال ناصر، أن عار حريق المسجد الأقصى لا يغسل بالدموع بل من خلال طلقات رصاص الثوار (01/09/1969م).
وطالب مستشار وزارة الخارجية الكويتية، الدكتور فايز صايغ، بتشكيل لجنة تحقيق دولية لتحقّق في حادث حريق المسجد الأقصى، مؤكداً أن إسرائيل سترفض أي تحقيق دولي، فيكون رفضها إدانة كاملة لها أمام العالم (30/08/1969م).
أعلن الدكتور محمد مهدي، رئيس لجنة العمل من أجل العلاقات العربية – الأميركية عن إطلاق حملة عالمية لتحرير القدس ومحاربة إسرائيل التي أحرقت المسجد الأقصى. كما انطلقت تظاهرات شعبية مستنكرة في معظم العواصم والمدن العربية والإسلامية. وفي القدس، اعتقلت السلطات الإسرائيلية شاباً أسترالياً يعمل في أحد المستعمرات الإسرائيلية بتهمة إشعال النار في المسجد الأقصى والقيام بعمل تخريبي متعمد (22/08/1969م).
وعلى الجانب الإسلامي؛ عقدت الدول العربية والإسلامية مؤتمراً في الرباط – المغرب يوم 25 سبتمبر، وتم الاتفاق في حينه على إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم في عضويتها 57 دولةً عربيةً وإسلاميةً، وطُرحت مبادئ الدفاع عن شرف وكرامة المسلمين المتمثلة في القدس وقبة الصخرة، وذلك كمحاولة لإيجاد قاسم مشترك بين جميع فئات المسلمين. وبعد ستة أشهر من الاجتماع الأول، تبنى المؤتمر الإسلامي الأول لوزراء الخارجية المنعقد في جدة في آذار 1970 إنشاء أمانة عامة للمنظمة، كي يضمن الاتصال بين الدول الأعضاء وتنسيق العمل. عين وقتها أمين عام واختيرت جدة مقرا مؤقتا للمنظمة، ريثما يتمُّ تحرير القدس، لتكون المقر الدائم. عقد المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية جلسته الثالثة. وكان الملك السعودي المرحوم فيصل بن عبد العزيز صاحب الفكرة، إلا أن المنظمة لم تستطع وقف أعمال التخريب وتدنيس الأقصى حتى هذا اليوم.
وكان من تداعيات هذه الجريمة إصدار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 271 بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 1969م بأغلبية 11 دولة وامتناع أربع دول عن التصويت من ضمنها الولايات المتحدة. حيث أدان المجلس دولة الاحتلال لتدنيسها المسجد، ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها المساس بوضعية المدينة المقدسة، كما عبَّر القرار عن حزن المجلس للضرر الفادح الذي ألحقه الحريق بالمسجد في ظل الاحتلال العسكري "الصهيوني" الغاشم، وأكَّد القرار على جميع القرارات الدولية السابقة التي أكدت بطلان إجراءات "الصهاينة" التي استهدفت التغيير في القدس المحتلة، ودعاها من جديد إلى التقيد بنصوص اتفاقيات جنيف الأربع والقانون الدولي الذي ينظم الاحتلال العسكري. كما دعاها إلى الامتناع عن إعاقة عمل المجلس الإسلامي في المدينة، المعني بصيانة وإصلاح وترميم الأماكن المقدسة الإسلامية..
وأعرب رئيس الحكومة الأسترالية عن أسفه للحادث التخريبي الطائش الذي أدى إلى حرق المسجد الأقصى. من ناحيته أعرب متحدث باسم الحكومة القبرصية عن أسفه للحادث مشيراً إلى أن شعبه حساس جداً إزاء قداسة أماكن العبادة. وأصدرت وزارة الخارجية اليوغسلافية بياناً اعتبرت فيه أن تدنيس الأثر التاريخي الهام أثار استياء عميقاً لدى حكومة وشعب يوغسلافيا (28/08/1969م).