• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الانتصار للقرآن وأهله

الانتصار للقرآن وأهله


{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1] نحمده على ما أنزل من الحكمة والكتاب، وما هدى إليه من العلم والإيمان، ونشكره على عظيم نعمه وآلائه، وجزيل فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنزل القرآن هداية للعباد إلى يوم المعاد، وإرغاما لأهل الكفر والنفاق والعناد، فما زادت حربهم عليه إلا انتشارا له في سائر الأقطار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حض على تعلم القرآن وتعليمه، وأخبر أن خير الناس من تعلم القرآن وعلمه؛ فبشهادته وتزكيته كان أهل القرآن هم خير الناس في كل زمان ومكان، وكفى بشهادته وتزكيته شرفا وعدلا وفضلا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا من القرآن حظكم؛ فإنه كتاب ربكم، وبيان شرعكم، وأنيس وحشتكم، ورفيق وحدتكم، وشفيعكم يوم عرضكم، وشاهدكم عند ربكم، وبه ترجح موازينكم، وترتفع بآياته درجاتكم، قال نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا".

أيها الناس: حفظ القرآن نعمة عظيمة من الله تعالى على من آتاه الله تعالى إياها، وأعظم ما يقدمه والد لولده، وأستاذ لتلميذه، أن يحفظه القرآن؛ فإن حفظ القرآن قد يستغرق من صاحبه بضع سنوات حتى يتقنه تمام الإتقان، ولكنه ينعم به حياته كلها؛ فحافظ القرآن يمارس حياته الاعتيادية، ولا ينقطع في مسجده لقراءة القرآن، ومع ذلك فإنه يستطيع أن يختم كل ثلاث ليال أو كل سبع، فإن أبطأ ختم في الشهر مرتين؛ لأنه بحفظه وضبطه يستطيع أن يقرأ قائما وجالسا ومضطجعا وراكبا وماشيا، ويقرأ في كل وقت وحين، ويقضي بقراءة القرآن على الأوقات الميتة التي تستنزف حياة الناس؛ فيقرأ في سيارته وأثناء انتظاره لأحد أو موعد، فيجني من الحسنات في يومه وليلته ما لم يخطر له على بال، وهو لم يتفرغ لقراءة القرآن. قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» رواه الترمذي.

 ولو قدر الله تعالى عليه عمى في بصره فقرآنه في صدره يترنم به طيلة عمره، ولو ابتلي بحبس لا يجد فيه مصحفا لكان ما في صدره من القرآن أنيسا له في وحدته.

 وحافظ القرآن يقوم به الليل فيطيل القيام فيجد لذة في قراءته أكثر من لذة من يقوم بالمصحف، ويتأتى له التدبر بحفظه أكثر من غيره.

ومن أحب حافظ القرآن وأكرمه فإن ذلك دليل على أنه يجل الله تعالى ويعظمه، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» رواه أبو داود.

 وحافظ القرآن يحظى بمعية السفرة الكرام البررة من الملائكة؛ كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ...» رواه البخاري.

وحافظ القرآن يُقدم على غيره في مواطن عدة:

 فيقدم في الصلاة من كان أكثر حفظا للقرآن كما في حديث أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ...» رواه مسلم.

 ويقدم في الولاية على غيره، سأل الفاروق رضي الله عنه عامله على مكة فقال: "مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» رواه مسلم.

ويقدم في القبر على غيره، قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ»، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ. رواه البخاري.

 ويتعدى نفع حفظ القرآن حافظه إلى والديه، فيكرمان يوم القيامة بسبب أخذ ولدهما القرآن، وهذا يحتم على الآباء والأمهات الحرص التام على تحفيظ أولادهم القرآن، وبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك؛ لما يلحقهم وأولادهم من نفع عظيم بكتاب الله تعالى. قال النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "... إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كَانَ، أَوْ تَرْتِيلًا "رواه أحمد، وحسنه ابن كثير وقال: على شرط مسلم.

 وفوائد حفظ القرآن كثيرة، ومنافعه عديدة في الدنيا والآخرة، وحفظه يقوي المهارات اللغوية لدى صاحبه، ويجعله أكثر قدرة على حفظ المفردات وتركيب الجمل حتى في غير اللغة العربية؛ فعلماء اللسانيات يتفقون على أن حفظ مفردات أكثر في أي لغة يكسب صاحبه معرفة بها أكثر من غيره؛ ولذا كان تعلم اللغة الثالثة أسهل على صاحبها من الثانية، والرابعة أسهل من الثالثة.. وهكذا، بسبب اعتياد الذاكرة ورياضتها على حفظ مفردات اللغات وتخزينها، وقد ذكر علامة الحضارات ابن خلدون رحمه الله تعالى أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن رام تعلم اللسان، وذكر أن كلام أهل الإسلام في نظمهم ونثرهم أعلى من كلام أهل الجاهلية في نظمهم ونثرهم، بسبب تأثير القرآن والسنة وأساليبهما على كلامهم.

وحفظ القرآن سبب لاتساع العقل، والقدرة على الاستنباط والتحليل، بسبب أن البراهين العقلية المبثوثة في القرآن هي أصح البراهين، وأقواها حجة، وأكثرها إقناعا، وأقطعها للجدل. وكان في قريش أهل دهاء وعقل وحكمة، ومع ذلك بهروا بحجج القرآن العقلية، ووقفوا عاجزين أمامها، لا يستطيعون دحضها، ولا يملكون خلاصا منها، وكانوا يتسللون في الليل ليستمعوا إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ثم يلتقون في الطريق فيتلاومون، ويعودون للاستماع من الليلة القابلة. ولم يجدوا بدًا وقد بهرتهم حجج القرآن إلا أن يتناهوا عن الاستماع للقرآن لئلا يؤثر فيهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآَنِ وَالغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصِّلت:26] غلبهم القرآن بحججه وبراهينه، فقابلوا الحجج بالصياح لعلهم يشوشون عليه لئلا يسمعه الناس.

وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه من دهاة العرب، حتى إن الروم لما بعثوا أدهاهم وأمكرهم أرسل إليهم الفاروق رضي الله عنه عمرو بن العاص وقال:" قَدْ رَمَيْنَا أَرْطَبُونَ الرُّومِ بِأَرْطَبُونِ الْعَرَبِ، فَانْظُرُوا عَمَّا تَنْفَرِجُ". هذا الداهية لما سئل: " ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟ " ذكر أنه كان يتبع قوما توازي عقولهم الجبال فقلدهم. أولئك القوم الذين توازي عقولهم الجبال كان منهم جبير بن مطعم الذي سمع برهانا عقليا واحدا من براهين القرآن فكاد عقله أن يطير، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ} " قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ" رواه البخاري.

 والقرآن مملوء بالبراهين العقلية في أعظم المسائل التي يحتاجها البشر وهي مسائل الخلق والبعث والحساب والجزاء، وفي إثبات الرسل والرسالات، والملائكة ووظائفهم، والغاية من خلق العباد، وغير ذلك مما يحتاجه البشر في حياتهم ومعادهم. وهي براهين محكمة البناء، واضحة المقدمات، صحيحة النتائج؛ لأن الله تعالى هو خالق العقول التي تفهم البراهين، وهو سبحانه منزل الكتاب الذي جاء بتلك البراهين.

وأما براهين البشر وأقيستهم فتصيب وتخطيء، وإذا أصابت فقد تطيل الطريق على المتفكرين في بلوغ النتائج الصحيحة، كما يعرفه أهل المعادلات الرياضية، والمقالات الفلسفية. فمن رام القوة العقلية في الاستنباط والتحليل وفهم البراهين، فعليه بحفظ القرآن وفهمه وتدبره، والنظر في براهينه المذكورة فيه؛ فإن استحضاره سيكون قويا، وبديهته ستكون سريعة، وحجته ستكون حاضرة، ويكفي دليلا على ذلك قوله سبحانه {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] ولو وجد الأعداء قديما وحديثا في القرآن اختلافا لأظهروه وصاحبوا به ولكنهم حاولوا المرة بعد المرة فعجزوا وانقطعوا {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33- 34].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 37 - 39].

 بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوا كَلَامَهُ سُبْحَانَهُ؛ فَإِنَّ فَضْلَهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه: 2 - 4].

 أَلا وإنَّ منْ تعظيمِ كلامِ اللهِ تعالى تحريمَ مَا حرّمَ من الدماءِ المعصومةِ، واستعظامَ سفكِهَا بغيرِ حقٍ، وَفي القرآنِ { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "مَنِ اسْتَحَلَّ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحَلَّ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا، وَمَنْ حَرَّمَ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا حَرَّمَ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا".

 وفي القرآنِ أيضًا: أمرٌ باحترامِ المساجدِ وتوقيرِهَا وعِمارتِهَا؛ لأنها محلُّ عبادةِ اللهِ تعالى وذكرِهِ، فَلا يُباعُ فيها ولا يُشترَى، ولا تُنشدُ فيها الضالةُ.

 وَعمارتُها بالصلاةِ والذِّكرِ دليلُ الإيمانِ {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} [التوبة:18]

ومن أعظمِ الظلمِ منعُ المسلمينَ منْ مساجدِهم، وأعظمُ منهُ هدمُها أو حرقُها أو تخريبُها أو قصدُها بالتفجيرِ، وقصدُ المصلينَ بالقتلِ والترويعِ، ولا يفعلُ ذلك ولا يُبِيحُهُ وَلا يَفرحُ به منْ لهُ مِسكةُ عَقلٍ، وَلا منْ لَديهِ أَثَارَةٌ منْ علمٍ؛ فهوَ إِجْرامٌ وإفسادٌ أيًّا كان فاعلُه – عليه من الله ما يستحق- لأنَّ اللهَ تَعالى يقولُ في محكمِ التنزيلِ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] أيْ: لا أحدَ أظلمُ ممنْ منعَ الناسَ منَ المساجدِ، وَلا أحدَ أظلمُ ممن سعى في خرابِها، وتوعَّدهمُ اللهُ تعالى بالخزيِّ في الدنيا والعذابِ العظيمِ في الآخرة.

 هذا في حقِ منْ منعَ الدخولَ للمسجدِ للصلاةِ فيهِ، ومنْ سَعى في هدمِهِ وليس فيهِ أحدٌ؛ فالآيةُ تُفيدُ بأنهُ لا أحدَ أظلمُ منهُ، فكيفَ بمنْ قَصَدَ المصلينَ في المساجدِ وهم وقوفٌ في الصلاةِ يتلونَ القرآنَ، أو وهمْ رُكَّعٌ يُسبِحونَ اللهَ تعالى ويُعظِمُونَهُ، أو وهم سُجَّدٌ عَفَّرُوا وجوهَهُم له يَدْعونَهُ، في فريضةٍ من فرائضهِ يُؤَدُونَها، فَنَسَفَهم بالمتفجراتِ، فقتلَ منهم منْ قتلَ! وجرحَ منْ جرح! وروَّعَ منْ روَّع!!

 نعوذُ بالله تعالى من ذلك، ونَسألهُ أن يَكبِتَ المفسدينَ، ويَردَّهم على أعقابهم خاسرين.

 إنَّ شأنَ المسجدِ عظيمٌ، وزوّارَهُ للصلاة فيه هم زوّارُ اللهِ تعالى، وهم في ضيافتِه، فمن قصدَهمْ بأيِّ نوعٍ منَ الأذى فإنهُ إنما يُؤذي اللهَ تعالى، ويستحلُ محاربتَه.

 إنَّ المفسدينَ في هذا العصرِ قد أَحدثوا حدثًا عظيمًا في المساجدِ؛ وذلك بقصدِها وهي آهلةٌ بالمصلينَ للتفجيرِ فيهَا. وهذَا النوعُ من الإِفسادِ هو من أعظمِ المنعِ من مساجدِ اللهِ تعالى أنْ يُذكرَ فيها اسمُه؛ لأَنهم حوّلوا المساجدَ وهي محلُّ الأمنِ إلى أماكنِ خوفٍ، فيعزفُ عنها بعضُ المصلينَ خوفًا من التفجيرِ، ويحضرُ الصلاةَ فيها منْ يحضرُها وهم خائفون مترقبون.

 وهو فعلٌ ينطوي على خرابِ المساجدِ بتدميرِها وحرقِها وإتلافِ مصاحفِها وقتلِ المصلينَ فيها. وكلُ جريمةٍ من هذه الجرائمِ أعظمُ من أختِهَا.

وجريمةُ قتلِ مؤمنٍ وهو يؤدي فريضةً من الفرائضِ من أفحشِ الجرائمِ وأشدِّها، نَقلَ القاضي عياضٌ رحمهُ اللهُ تعالى عن المحققينَ منْ أهلِ العلمِ قولهَم: «الَّذِي يَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِنَ التَّكْفِيرِ فِي أَهْلِ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ اسْتِبَاحَةَ دِمَاءِ الْمُصَلِّينَ المُوَحّدِين خَطَرٌ، وَالْخَطَأُ فِي تَرْكِ أَلْفِ كَافِرٍ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَأِ فِي سَفْكِ مِحْجَمَةٍ مِنْ دَمٍ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «فَإِذَا قَالُوهَا- يَعْنِي الشَّهَادَةَ - عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ..»اهـ كلامه.

 أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، وَأَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَيْدِ الْحَاسِدِينَ، مِنْ أَعْدَاءِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ.

اللَّهُمَّ مَنْ قَصَدَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَتْلِ وَالتَّرْوِيعِ، وَرَامَ الْإِفْسَادَ فِي بِلَادِهِمْ، وَالتَّخْرِيبَ فِي أَوْسَاطِهِمْ فَاهْتِكْ سِتْرَهُ، وَاكْشِفْ أَمْرَهُ، وَاكْفِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ; إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

اللَّهُمَّ مَنْ قَصَدَ مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَفْجِيرِ فَأَهْلِكُهُ قَبلَ فِعْلِهِ، واكفِ المسلمينَ شرَّه.

اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ بِسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ فِي نَفْسِهِ، وَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَى نَحْرِهِ، وَاجْعَلْهُ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

اللَّهُمَّ اهْدِ ضَالَّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَصْلِحْ شَبَابَهُمْ وَشَيْبَهُمْ، وَرِجَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، وَفُكَّ أَسْرَاهُمْ، وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ، وَعَافِ مُبْتَلَاهُمْ.

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أعلى