• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
جريمة التحرش الجنسي

جريمة التحرش الجنسي


 الحمد لله العليم بمكنون العباد، الحليم على إسراف العصاة، الحكيم فيما شرع من العقوبات، نحمده على عافية أسبغها، ونقم دفعها، وذنوب سترها، ونشكره على نعم أتمها، وهداية منحها، وديانة أكملها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرع لعباده ما يصلح لهم ويصلحهم؛ فأمرهم بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، فكانت شريعته خيرا لهم من أهوائهم {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]  وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ عظمت به المنة، وتمت به النعمة، وكشفت به الغمة، فأخرج الناس من دياجير الضلال إلى أنوار الهداية، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الجاهلية إلى سعة الشريعة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا له دينكم، وأسلموا له وجوهكم، وأخلصوا له أعمالكم، واخشوه في سركم وعلانيتكم؛  {إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12].

 أيها الناس: أنزل الله تعالى شرائعه على عباده المؤمنين ليوقنوا بها،  ويعملوا بأحكامها، ويدعوا الناس إليها. وهي شرائع حاسمة في إيصاد أبواب جرائم الاعتداء، حازمة في معاقبة المجرمين المعتدين؛ فالقصاص والحدود والتعزير عقوبات للمنتهكين لحرمات الله تعالى، المعتدين على عباده.

 ومن أشد أنواع الاعتداء على الناس: استباحة أعراضهم، والتعدي على محارمهم، والتحرش ببناتهم ونسائهم؛ ذلك أن العرض من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها، وقد جاء في حديث سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وما شرع الجلد والرجم في الزنا إلا صيانة للأعراض من أن ينتهكها الفساق بأفعالهم، وما شرع حد القذف إلا صيانة للأعراض من أن تلوثها الألسن بقالة السوء، فلا يحل انتهاك عرض لا بقول ولا بفعل وإلا كانت العقوبة على المنتهك.

 ولكن الله تعالى حين شرع هذه الحدود لصيانة الأعراض؛ شرع من الأحكام ما يقطع الطريق على لصوص الأعراض، ويضعف قدرتهم على انتهاكها، ويضيق مسالكهم في بلوغ مآربهم.

 ففي مجال حفظ الألسن من لوك الأعراض أمر المؤمن بحسن الظن، ونهي عن سوئه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] وقال النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ...» متفق عليه.

 وجاء نهي المؤمنين والمؤمنات أن يضع أحدهم أو إحداهن نفسه في موطن ريبة؛ لئلا يظن السوء به. فإن خشي الرجل أو خشيت المرأة أن يظن بهما السوء وجب عليهما إزالته فورا، بما يكشف حقيقة الأمر، ولما زارت صفية رضي الله عنها رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو معتكف، قامت إلى بيتها فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها فرآه رجلان من الأنصار فأسرعا في مشيهما فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ»، فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» رواه الشيخان.

 ولنتأمل إزالة الريبة في هذا الحديث العجيب العظيم؛ فالمكان المسجد، والزمان عشر رمضان الأخيرة، والأشخاص رسول الله وخيرته من خلقه وزوجه أم المؤمنين، والحال التي هو عليها أنه معتكف، وهي أجل عبادة في زمنها، وأيضا هي مدعاة للزيارة؛ لأن المعتكف منقطع في المسجد فشرع لأهله زيارته، فالريبة ضعيفة جدا، بل شبه معدومة، ومع ذلك يبرئ النبي صلى الله عليه وسلم نفسه منها بإخبار الرجلين أنه مع زوجه.

 إذا استحضرنا ذلك علمنا أن مجانبة مواطن الريب حتم لازم على المؤمن والمؤمنة لحفظ عرضهما، ورد العدوان عنهما.

 هذا فيما يتعلق برد العدوان القولي على الأعراض، ودحض التهم فيها.

وأما صيانة الأعراض من التعدي عليها بالفعل سواء كان مراودة عن تراض، أو كان خديعة وتغريرا، أو كان شبه إكراه بالابتزاز، أو كان اغتصابا بالقوة، أو كان دون ذلك من تحرش بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الغمز أو نحوه.. فإن في التدابير الشرعية لمنع وقوع ذلك، ولصيانة المرأة من التعدي عليها ما يدعو للدهشة والانبهار، والمفاخرة بشريعة الإسلام، ولو شرق بها مرضى القلوب، من دعاة التحرر من الدين والأخلاق، ومروجو الفواحش والشهوات.

 فمن إجراءات الشريعة في حماية الأعراض من التحرش والاعتداء: الأمر بالحجاب، والنهي عن التبرج والسفور؛ لأن جمال المرأة يدعو الرجال إليها، فإذا سترته لم يتعلقوا بها، وإذا أظهرته وزينته فكأنها تدعوهم إليها ولو لم تقصد ذلك {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] والذي يظهر من المرأة هو ما كان بلا قصد منها، وضربها بخمارها على جيبها فيه تغطية وجهها ونحرها؛ لأن الوجه مجمع الزينة، ونظرة العين للعين تستقر في القلب مباشرة. واستثني من ذلك النظر للمخطوبة؛ لأنه أدعى إلى نكاحها، فإذا نظرا إلى بعضهما، فإما ائتلف قلباهما فاقترنا وصارت حليلته، وإما نفر قلباهما فانصرفا عن بعضهما.

 وكل حركة تفعلها المرأة تثير الرجل ولا بد، وهذا أمر مستقر في الفطر، ويعرفه كل رجل، ولا ينكره إلا أهل الفسق والفجور الذين يريدون نشر الفواحش، ومن يتخيل أن ضرب المرأة برجلها على الأرض حتى يسمع رنين خلخالها، أو قعقعة كعبها تعمل عملها في الرجل، وقد تغنّى الشعراء بمشي النساء، وأفاضوا في وصف وقع أرجلهن، ولولا أن وقع قدم المرأة على الأرض يعمل عمله في قلب الرجل لما تعنى الشعراء بذكره ووصفه، والله تعالى يقول في ذلك {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31].

 بل منعت المرأة من الخضوع بالقول، وهو الكلام اللين المتغنج؛ لأنه ينتقل من أذن الرجل إلى قلبه فيفسده، ويطمعه فيمن كلمته وكلمها، ويتخيلها على أحسن صورة ولو لم يرها، ولا أدل على ذلك من تغزل الشعراء بأصوات النساء، والله تعالى يقول {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}  [الأحزاب:32] والقول المعروف هو القول المعتاد الذي لا خضوع فيه ولا لين وأيضا لا غلظة فيه؛ فلا يحرك القلب، ولا يقع بسببه شقاق.

 ومن صيانة النساء عن الاعتداء عليهن، أو التحرش بهن؛ منعهن من مخالطة الرجال، ولا سيما الخلطة الدائمة أو المكرورة كالاختلاط في العمل أو الدراسة؛ لأن استمرارها يذيب الحواجز بينها وبين الرجل؛ ولأن الرجل مع دوام الخلطة يقع على مواطن ضعفها، فيتسلط عليها من خلالها، ولا سيما إذا كان له سلطة عليها كمدير أو أستاذ أو نحوه. وحوادث الابتزاز والتحرش والاعتداء في الوظائف المختلطة أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، وهي لا تختص بمجتمع دون آخر، وفي دول الغرب والشرق دراسات وإحصائيات عن التحرش والابتزاز بسبب الاختلاط تتجاوز المئات؛ لأنها صارت ظاهرة يتداعى المسئولون والمختصون لحلها وتقليل آثارها، فعمدوا إلى تخصيص عربات للنساء دون الرجال في القطارات لكثرة التحرش فيها والاعتداء، وسنوا قوانين صارمة لمعاقبة المتحرشين في المدارس والمكاتب والمصانع والأعمال.

 ثم وقعوا في إشكالات ضبط ذلك وتكييفه قانونا؛ لأن التحرش قد يكون بإشارة أو غمزة أو كلمة، وقد يقع ذلك بغير قصد، فإثبات القصد فيه عسر جدا. وأيضا قد تنتقم المرأة من رجل بادعاء تحرشها وهي كاذبة، فانتقلوا من مشكلة تكييف حوادث التحرش وضبط ما يدخل في دائرته، وما لا يدخل فيها، إلى قضية إثباته إذا وقع؛ لأن دعوى التحرش تحتاج إلى إثبات. وكان منع الاختلاط الدائم أيسر من هذه المعضلات التي أوجدوها، وتخبطوا في تشريع العلاج لها {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].

 ومن صيانة المرأة عن الاعتداء عليها أو التحرش بها: عدم خلوتها بالرجل؛ لأنه إذا اختلى بها كان أقدر على نيل مراده منها إما بالحيلة والخديعة والغزل والمراودة، وإما بالتهديد والابتزاز والقوة والاغتصاب. وكذلك نهيت المرأة عن السفر بلا محرم؛ لأن في وجود المحرم معها هيبة لها، وحماية لعرضها، ورد العدوان عليها. وهذا أمر مشاهد فإن فساق الرجال لا يجترئون في الطائرات والقطارات ومحطات السفر إلا على من لم يكن معها رجل، تستوي في ذلك البلدان الشرقية والغربية، والعربية والأجنبية، والدول المسلمة والكافرة. وأهل الأسفار يعرفون ذلك تمام المعرفة. فكل امرأة معها رجل لا يجترئ عليها أحد، وكل امرأة منفردة تفترسها أنظار الطامعين، ويجترئ عليها الأراذل والفساق.

 ومن صيانة المرأة من الاعتداء والتحرش: أن تجتنب كل زينة إن كانت ستمر برجال في سوق أو طريق أو نحو ذلك؛ لئلا يُطمع فيها، وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام النساء اللائي يردن الخروج للصلاة في المسجد أن يخرجن تَفِلات، وأخبر أن المرأة إذا تعطرت فمرت بالرجال فهي زانية؛ لأن عطرها يعمل عمله في قلوبهم.

 ومع كل هذه الإجراءات الشرعية المحكمة لحماية المرأة من الاعتداء عليها فإنه إذا وقع تحرش عليها وجب على من حضر ذلك أن ينبري لحمايتها ورد العدوان عليها، وصرف الفساق عنها، ووجب معاقبتهم بما يردعهم، ويحفظ محارم المسلمين من شرهم، وقد سير النبي عليه الصلاة والسلام جيشا لغزو بني قينقاع بسبب تعدي بعضهم على امرأة مسلمة كانت تشتري من سوقهم، فكانت هذه الحادثة سببا لطردهم من ديارهم، وجلائهم عن بلادهم. فليس عرض المرأة بالأمر الهين، ودماء كرام الرجال تسفك في حمايته، وتسير الجيوش لصيانته.

 ستر الله تعالى على نسائنا ونساء المسلمين، وحفظهن ممن يريد المساس بهن، ورد المفسدين على أعقابهم خاسرين.

 وأقول قولي هذا وأستغفر الله...

 

الخطبة الثانية

 الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131-132].

 أيها المسلمون: لا شيء أشد على المرأة العفيفة من تسلط فاجر عليها، يستغل ضعفها وانفرادها فيتحرش بها، فإذا جاهر بذلك في ثلة من أقرانه كان فعله أفحش وأشد؛ لأنه مجاهرة بالفسق والأذى، ودعوة للجرأة على التحرش والجريمة. فإذا صور ذلك، أو صوره بعض الحاضرين كان فيه إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وأذى للمجني عليها وأسرتها وذويها، والأصل أن المسلم يستر المسلم، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة. فكيف بمن ستر على حريم المسلمين وأعراضهم؟!

 ولا امرأة أشد سوء ممن تدعو أراذل الرجال وفسقة الشباب إليها باستعراض جمالها وفتنتها أمامهم، وتبرجها وسفورها، وميوعتها في أقوالها وأفعالها، وهي بهذه الفعلة تدعوهم للتحرش بها، وانتهاك عرضها، وفضيحة أهلها. وكما يجب معاقبة المتعرضين للنساء، المتحرشين بهن، فكذلك يجب معاقبة المتهتكات من النساء والفتيات، ومنعهن من غشيان الأسواق والأماكن العامة.

 وكل قانون للحد من التحرش لن يجدي نفعا إذا لم تراع أحكام الشريعة في منع الاختلاط والتبرج والسفور والخلوة بالأجنبي والسفر بلا محرم، وقد عجزت القوانين الغربية والشرقية عن الحد من هذه الظاهرة رغم صرامة القوانين، وانتشار كاميرات المراقبة، وعدم المحاباة في تطبيق القانون، مما اضطرهم إلى الفصل بين الجنسين في بعض المجالات لحماية النساء، وتقليل فرص التحرش بهن. ومن هانت عليه أعراض المسلمين فانتهكها ابتلي في نفسه أو بيته أو عرضه، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ».

وصلوا وسلموا على نبيكم...

أعلى