ظاهرة الفتور بعد رمضان
الحمد لله الكريم المجيد، الغني الحميد؛ لا يبلغ الخلق نفعه ولا ضره، فلا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله سؤال المحتاجين؛ فآجالنا بيده، وأرزاقنا عنده، ومصيرنا في الدنيا والآخرة إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ دل عباده عليه، وأبان لهم الطريق إليه؛ فأرسل لهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وعلمهم دينه الذي ارتضاه، وأمرهم بطاعته، وحذرهم من معصيته {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، تركها على بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وداوموا على الأعمال الصالحة؛ فإن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل، وإياكم وترك العمل بعد رمضان؛ فإن العبد لا يدري متى يبغته الأجل، فإن ختم له بعمل صالح كان يديم عليه ختم له بخير، وإن ترك العمل بعدما قدر عليه فبئس ما فعل {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر:99].
أيها الناس: للنفس البشرية إقبال على الشيء ولها إدبار، وقد تألف العمل الصالح وقد تتركه بعد إلفه، وقد تجتهد في عمل من الأعمال فتجد راحتها فيه وتتحسر على ما فات من العمر بدون عمل، تظن ساعة عملها أنها لا تتركه أبدا، ولكن ما تلبث إلا زمنا حتى تتفصم من العمل شيئا شيئا، وتنسى ما كانت تجد من راحة فيه، وما تحس من لذة عظيمة به؛ وذلك أن الإنسان ينسى؛ فمن نسيانه أنه ينسى لذة الطاعة فيتركها، وينسى آلام المعصية فيعاودها، وما شرع الله تعالى مواسم الخيرات والبركات إلا رحمة للعباد ليتذكروا لذة الطاعات فيلزموها، ويتزودوا فيها من الأعمال الصالحة ما يكون ذخرا لهم.
كم من قارئ للقرآن في رمضان وجد لذة التلاوة والخشوع والتدبر، فلزم مصحفه طيلة رمضان، لم يفتر عن قراءته، ولم يمل من آياته، ولم يستطل كثرة صفحاته، وندم على ما فاته من لذة القرآن فيما مضى من عمره. ولكنه بعد أن انقضى رمضان شُغل عن القرآن بالعيد وولائمه واجتماعاته، وكل يوم يمضي يبعده من القرآن، فيعسر عليه أن يعود إليه.
وكم من محافظ على صلاة التهجد في رمضان وجد أعظم اللذة في مناجاة الله تعالى في هجعة الليل وفي الأسحار، وفي التبكير لصلاة الفجر، ولكنه بعد رمضان تغير عليه نظام نومه وأكله وشربه، فترك قيام الليل، وقد يفوته الوتر، ويجر خطاه بثقل إلى المساجد.
وكم من عازم في رمضان على أن يحافظ على صيام النافلة، بعد أن رق قلبه بصوم رمضان، وبعد أن أحس بفرحة الصيام وفرحة الفطر، وهو يعد نفسه أن لا يفوت هذه الفرحة على نفسه في أي صيام نفل. بل من شدة الفرح بالصوم والفطر كانت نفسه تراوده بالمحافظة على أعلى صيام النافلة، وهو صيام يوم وإفطار يوم. وهو الآن بعد رمضان لا يدري أيقدر على صيام ست شوال أم لا!
ما الذي تغير؟ وهل أصبح العيد حاجزا بين الصائمين وبين الطاعة، مع أن العيد يوم شكر على الطاعة!!
إنها ظاهرة الفتور عن الطاعة بعد رمضان. والناظر في المساجد يلحظ تفلت المصلين، وقلة القارئين. والمتابع لأحوال الناس يجد تغيرا في أحوال الصائمين.
إن الاستفادة العظمى من مواسم الطاعات أن يخرج الطائع منها وحاله بعدها خيرا من حاله قبلها، وقلبه أكثر صلاحا، وهو أكثر إقبالا على الله تعالى. ولا يكون ذلك إلا بالعمل بوصايا النبي صلى الله عليه وسلم، والتماس هديه، والسير على منهجه في إثبات العمل، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرٌ، وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ، فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ». وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ» رواه مسلم. وَكَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْ.
ليس عسيرا على المؤمن أن يلزم عملا صالحا في موسم من المواسم، ولكن العسير عليه أن يثبت عليه بعد الموسم فلا يتركه، وهذا لا يتأتى للعبد إلا بجملة من الأمور منها:
أن ينظر إلى أن كل يوم يمضي عليه يقربه من قبره، ولن ينفعه فيه إلا عمله، فطول أمله في الدنيا ما هو إلا غرور، وما الدنيا إلا متاع الغرور، فإذا رسخ هذا في عقله صلح به قلبه، وأقبلت على الطاعة نفسه.
وأن يأخذ من العمل ما يطيق كما هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فإن النفس إذا تحملت ما لا تطيق أصيبت بالملل، ثم بالإحباط واليأس فتركت كل العمل.
وأن يخفف العمل بعد الموسم ولا يقطعه كلية؛ فمن كان يقوم في عشر رمضان كل الليل أو كثره، يقوم بعده بعضه؛ فإن عسر عليه القيام آخر الليل أوتر في أوله، ولا يترك شيئا من قيام الليل إلى أن تذهب فترته، ويزول كسله فيعود إلى نشاطه في العبادة. ومن كان يختم القرآن في ثلاث من رمضان يطيلها إلى سبع أو عشر أو أكثر لكن لا يهجر القرآن فلا يقرأ منه شيئا. بل ينبغي أن يكون له ورد يحافظ عليه، ولا يتركه مهما كانت مشاغله وصوارفه. وهكذا في كل عمل صالح.
وفي الفترة بعد رمضان عليه أن يحافظ على الفرائض، ويبكر للمساجد؛ فإن انتظار الصلاة عبادة تقوده إلى عبادات أخرى. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ " رواه أحمد. ومن سنته المحافظة على الفرائض، واجتناب النواهي، فمن حافظ عليها وقت فترته وضعفه فقد أفلح.
وللإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى كلام نافع في هذا الباب:
قال ابن تيمية: من الناس من يكون له شدَّة ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة، ثم لابُدَّ من فُتُور في ذلك. وهم في الفَتْرَة نوعان:
منهم: من يلزم السنَّة فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نُهِيَ عنه، بل يلزم عبادة الله إلى الممات؛ كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر:99] ، يعني الموتَ، قال الحسن البصري: لم يَجْعَل الله لعباده المؤمنين أجلاً دون الموت.
ومنهم: من يخرج إلى البدعة في دينه، أو فُجُور في دنياه حتى يُشير إليه الناس، فيقال: هذا كان مجتهدًا في الدِّين ثم صار كذا وكذا.اهـ
وقال ابن القيم: فَتَخَلُّلُ الْفَتَرَاتِ لِلسَّالِكِينَ أَمْرٌ لَازِمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى مُقَارَبَةٍ وَتَسْدِيدٍ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ مِنْ فَرْضٍ، وَلَمْ تُدْخِلْهُ فِي مُحَرَّمٍ: رَجَا لَهُ أَنْ يَعُودَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: إِنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا. فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَخُذُوهَا بِالنَّوَافِلِ. وَإِنْ أَدْبَرَتْ فَأَلْزِمُوهَا الْفَرَائِضَ.
وَفِي هَذِهِ الْفَتَرَاتِ وَالْغُيُومِ وَالْحُجُبِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلسَّالِكِينَ مِنَ الْحِكَمِ مَا لَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ.
فَالْكَاذِبُ: يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَيَعُودُ إِلَى رُسُومِ طَبِيعَتِهِ وَهَوَاهُ.
وَالصَّادِقُ: يَنْتَظِرُ الْفَرَجَ. وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ. وَيُلْقِي نَفْسَهُ بِالْبَابِ طَرِيحًا ذَلِيلًا مِسْكِينًا مُسْتَكِينًا... فَإِذَا رَأَيْتَهُ قَدْ أَقَامَكَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَرْحَمَكَ وَيَمْلَأَ إِنَاءَكَ، فَإِنْ وَضَعْتَ الْقَلْبَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلْبٌ مُضَيِّعٌ. فَسَلْ رَبَّهُ وَمَنْ هُوَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْكَ وَيَجْمَعَ شَمْلَكَ بِهِ.اهـ كلامه.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يكفينا شرور أنفسنا، ونزغات الشيطان وجنده، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أيها المسلمون: الفترة تنشأ من الكسل والتثاقل عن العبادة، والبطء فيها، وجر الأرجل إليها، وعلى من أصيب بهذا الداء أن يتأسى بأحوال الصالحين من خلق الله تعالى، وينظر إليهم في جدهم واجتهادهم، ولا ينظر إلى البطالين والكسالى فيتأثر بهم، ولو كانوا أكثر منه علما، وأقوم منهجا؛ فإن الدين لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بقدر دينهم. وممن ينبغي النظر إليهم في عبادتهم للتأثر بهم الملائكة عليهم السلام، فقد قال الله تعالى فيهم {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19-20].
ولنتأمل في نهي الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام حين أرسلهما إلى فرعون ليدعواه إلى الإيمان {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] أي: لا تفترا عن ذكري، وداوما عليه، ولا يشغلكما عظم المهمة التي أرسلتما لها عن أداء الذكر.
والحق أن هذه الآية كافية لتنبيه القلوب الغافلة، وكبح النفوس الجامحة، وإنهاض الهمم المتثاقلة؛ فالله تعالى يحذر موسى وهارون من الونيِّ في ذكره سبحانه، وهو البطء والتثاقل، رغم عظم مهمتهما وثقلها.
ولنتأمل أيضا في عتاب الله تعالى للمؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] وإذا كان هذه العتاب في أشد شيء على النفوس وهو الجهاد، وجب أن يعاتب من تثاقل عن أداء الفرائض والنوافل التي هي أخف من الجهاد.
ولنتذكر أن الكسل في العبادة من صفات المنافقين {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] فليخف العبد المؤمن منها أشد الخوف حين يرى في نفسه كسلا عن فرائض الله تعالى وطاعته، وهذه الآية دليل أن كثرة ذكر الله تعالى سبب للنشاط في طاعته، كما أن الغفلة عن ذكره سبحانه سبب للكسل فيها؛ لأنه سبحانه قرن كسلهم في الصلاة بقلة ذكرهم له عز وجل؛ فلنكثر من ذكر الله تعالى لننفض الكسل، وننهض في الطاعة.
ومما يعين على تجاوز فترة الفتور كثرة الاستعاذة بالله تعالى من الكسل، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يكثر الاستعاذة من الكسل؛ لأن الكسل يمنع صاحبه من أداء حقوق الله تعالى وحقوق الخلق عليه، ويحول بينه وبين ما ينفعه. ومن رأى أحوال الكسالى والبطالين رثى لهم؛ لأنه يجدهم فيما لا ينفعهم في دينهم ولا دنياهم، فليحذر أن يكون منهم.
وصلوا وسلموا على نبيكم ....