لــذة قـيــام الـلـيــل
الحمد لله الغفور الرحيم، الجواد الكريم؛ باسط الخيرات، واسع الرحمات، مقيل العثرات، مغيث اللهفات، مُفِيض العبرات، تفيض أعين عباده بالدمع محبة له وتعظيما، وخوفا ورجاء، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، وندعوه دعاء المضطرين، ونسأله من فضله العظيم؛ فله في هذه الليالي الفاضلات نفحات وهبات وعطايا، من تعرض لها فأصاب منها وكان مقبولا سعد أبدا، ومن استهان بها، واستنكف منها، وأعرض عنها؛ شقي أبدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ رب عظيم قدير، وإله رحيم كريم، يجيب داعيا، ويفك عانيا، ويهدي عاصيا، ويقبل طائعا، وله في عباده ألطاف يعلمون أقلها، ويجهلون أكثرها، وما يشاهدونه منها لحري أن يقطع ظهورهم بحسن عبادته، ويَكِلَّ ألسنتهم بذكره وحمده وشكره، وقليل من عباده الشكور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ رفع ربه سبحانه ذكره في الملأ الأعلى، وعرج به إلى سدرة المنتهى، وأراه من آياته الكبرى، وحمده في كتاب يتلى؛ فهو المحمود في الأرض وفي السماء، وفي التوراة والإنجيل والقرآن، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعلقوا به قلوبكم، ورطبوا بذكره ألسنتكم، واسكبوا من خشيته ورجائه عبراتكم، وأنزلوا به حاجاتكم؛ فهذه الليالي هي ليالي الرجاء، وهي ليالي السؤال، وهي ليالي العفو والمغفرة، وهي ليالي العطاء والرحمة، وهي ليالي العتق من النار.
لا تَكِلُّوا من الدعاء، ولا تملوا من القرآن، ولا تفتروا عن العبادة، ولا تيئسوا من الرحمة، وكونوا حيث يريد الله تعالى في مساجدكم وخلف مصاحفكم، قائمين راكعين ساجدين قارئين داعين مستغفرين، فما هي إلا ليال قلائل يظفر فيها المقبول بعظيم الثواب، ويسعد فيها المرحوم بجزيل العطاء، فأروا الله تعالى من أنفسكم خيرا يؤتكم خيرا {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
أيها الناس: للطاعات لذة لا يدركها كل الطائعين، ولا يصل إليها كل السائرين، فهي لا تنال إلا بالإخلاص والمجاهدة، ولا يبلغها إلا أصحاب المقامات العالية.
والصلاة من أعظم أبواب اللذات عند المخبتين، كما أنها أثقل شيء على المنافقين. وقد قال أكمل الناس لذة بالطاعة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ" أي: جعل سرور نفسي في الصلاة؛ وذلك لأنّ للسّرور البالغ دمعةً باردة قَارَّةً، وللحزن دمعة حارّة. فلنتأمل فرح النبي عليه الصلاة والسلام بالصلاة إلى حد البكاء من الفرح بها، فكانت قرة عينه.
ومن دلائل اللذة بالصلاة: طول القيام فيها، يناجي المصلي ربه بالقرآن فلا يشعر بنفسه، كما أخبرت عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:" أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ" رواه الشيخان. والمتلذذون بقيام الليل يفهمون معنى الحديث؛ فإنه عليه الصلاة والسلام من لذته بالمناجاة ينسى نفسه فيؤخر الركوع، فلا يشعر بقدميه حتى تتفطر.
وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالى إذا أصبح مدَّ رجليه إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأُصبح وما قضيت نهمتي.
ولولا ما يجدونه من لذة في طول القيام والمناجاة لأسرعوا الركوع، ولكن يمضي الليل كلُه والواحد منهم في مناجاته لا يشعر به.
ومن دلائلها: كثرة البكاء فرحا بالله تعالى وبمناجاته سبحانه، ورجاء له وخوفا منه، حتى يبتل موضع السجود من كثر البكاء؛ كما حدثت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:" لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ "يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي" قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ" رواه ابن حبان.
والبكاء في صلاة الليل لا يعرفه إلا أهل الليل، وهم من يدرك لذته، ويعلم منفعته للقلوب، حتى إن واحدهم من شدة اللذة بمناجاته وبكائه لا يريد الفجر أن يطلع، فلا عجب أن يبتل مكانه بدموعه.
وكان الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى يبل موضع سجوده بدمعه كل ليلة، فدخلت امرأة على زوجته، قالت:" فرأيت الحصير الذي يصلي عليه مبلولا، فقلت: يا أختي، أخاف أن يكون الصبي بال على الحصير، فبكت وقالت: ذلك دموع الشيخ، هكذا يصبح كل يوم".
وشكت أم عمر بن المنكدر إلى أخيه محمد بن المنكدر ما يلقاه من كثرة بكائه بالليل، فاستعان محمد عليه بأبي حازم، فدخلوا عليه فقال أبو حازم:" يا عمر، ما هذا البكاء الذي شكته أمك! قال: إنه إذا جن علي الليل هالني فأستفتح القرآن، فما تنقضي عني عجيبة، حتى ترد علي عجيبة، حتى إن الليل ينقضي وما قضيت نهمتي. قال: فما الذي أبكاك؟ قال: آية في كتاب الله عز وجل هي التي أبكتني: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ".
ومن دلائل لذة قيام الليل: ترديد آية حتى يصبح، فإما أن تكون آية وعيد فيذكر نفسه بها، وإما أن تكون آية وعد فيشرئب لها، وإما أن تكون موطن عبرة فيعتبر بها، وإما أن تكون دعوة فيدعو بها، لا يقدر على مجاوزتها، فيمضي الليل وهو لا يشعر.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَرَدَّدَهَا حَتَّى أَصْبَحَ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] " رواه أحمد.
وعَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ رضي الله عنه رَدَّدَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحَ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] .
وعن زائدة بن قدامة قال:" صليت مَعَ أَبِي حنيفة في مسجده عشاء الآخرة، وخرج النَّاس ولم يعلم أني في المسجد، وأردت أن أسأله عن مسألة، من حيث لا يراني أحد، قَالَ: فقام فقرأ، وقد افتتح الصَّلاة، حَتَّى بلغ إلى هذه الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} فأقمت في المسجد أنتظر فراغه، فلم يزل يرددها حَتَّى أذن المُؤَذِّن لصلاة الفجر".
ومن دلائل لذة قيام الليل: نسيان كل لذائذ الدنيا مقابل لذة مناجاة رب العالمين في جوف الليل، قال أبو الدرداء رضي الله عنه:" لولا ثلاث ما أحببت العيش يوما واحدا: الظمأ لله بالهواجر، والسجود لله في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر".
وقال ابن المنكدر رحمه الله تعالى:" ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة".
وَقال أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني رحمه الله تعالى:" أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ، وَلَوْلَا اللَّيْلُ مَا أَحْبَبْت الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا".
ومنهم من كان يأسى على الرحيل من الدنيا لا لشيء من عرضها وإنما لأجل فقدان لذة قيام الليل، بَكَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ:" مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَشْتَفِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ".
وأعجب من ذلك تمني بعضهم أن لو كان يستطيع الصلاة في القبر، قال ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ لِحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: «هَلْ بَلَغَكَ يَا أَبَا عُبَيْدٍ أَنَّ أَحَدًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ إِلَّا الْأَنْبِيَاءَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ ثَابِتٌ: «اللهُمَّ إِنْ أَذِنْتَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ فِي قَبْرِهِ فَأْذَنْ لِثَابِتٍ أَنْ يُصَلِّيَ فِي قَبْرِهِ» وَكَانَ ثَابِتٌ يُصَلِّي قَائِمًا حَتَّى يَعْيَا، فَإِذَا أَعْيَا جَلَسَ فَيُصَلِّي وَهُوَ جَالِسٌ...
أولئك قوم وجدوا لذة المناجاة، وعرفوا قيمة الخلوة بالله تعالى في جوف الليل.. أحسوا بنعيم لم يحس به غيرهم، فتجافت جنوبهم عن مضاجعهم، وفارق النوم أعينهم، واكتفوا بالخلوة بربهم سبحانه عن غشيان مجالس السمر واللهو والغفلة، فما يجدونه من لذة بمناجاة ربهم سبحانه أعظم مما يجده أهل السمر في سمرهم {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16- 17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجتهدوا في هذه الليالي المباركة فإنها أفضل الليالي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحييها ويعتكف فيها التماسا لليلة القدر، فجدوا واجتهدوا تفلحوا {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
أيها المسلمون: هذه الليالي مع فضلها، وما يناله القائمون من أجرها؛ هي فرصة لترويض النفس على قيام الليل، ومجاهدتها على التلذذ به، بتدبر الآيات التي تتلى، واستحضار أذكار الصلاة وما فيها من التسابيح والتحاميد وفهم معانيها، والإلحاح في الدعاء مع فهم ما يدعو به، فإنه إن فعل ذلك تلذذ بالقيام ولو كان طويلا، ونسي جسده مع طرب قلبه بمناجاة ربه تبارك وتعالى.
ثم بعد رمضان يستمر على قيام الليل، ويجاهد نفسه في ذلك حتى يدرك لذته، كما أدركها من سبقوه إليه.
ولا يظنن ظان أن الأخبار الواردة عن السلف الصالح في قيام الليل، والتلذذ بالبكاء والمناجاة، وترديد آية عامة الليل هي خاصة بهم، وقد انقطعت الأمة عنها في الأزمنة المتأخرة. ففيمن يعيشون بيننا عباد صالحون يتلذذون بقيام الليل، ويطيلون فيه حتى تكل أرجلهم، وما شبعت قلوبهم من لذته، ولا تريد أن تفارق طعمه، وهم كثير ولله الحمد، ولكنهم يخفون عملهم عن الناس؛ خشية الرياء أو الحسد.
وإذا ما مات الواحد منهم أظهر أهل بيته وأصحابه ومقربوه ما كان عليه من قيام الليل، وتلذذه به، وعدم تركه.
ومن صدق مع الله تعالى وفقه لما يريد، وعلامات الصدق اجتناب ما يحول بين العبد وبين قيام الليل من ارتكاب المحرمات، ومن السهر الذي غالبا ما يكون في إثم أو في غفلة، فيُحرم أصحابه بسببه لذة المناجاة في جوف الليل.
هذا؛ ومما شرع الله تعالى في ختام رمضان زكاة الفطر، وهي فريضة من الفرائض، وشعيرة من الشعائر، وهي زكاة على البدن، فكانت من الطعام الذي لا يقوم البدن إلا به، ولم تكن من المال.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ» رواه الشيخان. ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وهي «...طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ». فأدوها إرضاء لربكم، وزكاة لأبدانكم، وأحسنوا ختام شهركم؛ فإن الأعمال بالخواتيم.
وصلوا وسلموا على نبيكم...