الاستهزاء بالتوبة في شهر التوبة!! الدلالات والمآلات
الحمد لله العزيز العليم {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3] نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه؛ له في هذا الشهر العظيم نفحات وهدايا، وهبات وعطايا، لا يتعرض لها إلا موفق مرحوم، ولا يعرض عنها إلا مخذول محروم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قضى بظهور دينه وعلوه على الدين كله "فَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ"، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ استهزأ الكفار والمنافقون به وبسنته، فما زاده ذلك إلا رفعة وعلوا، ولا زاد سنته إلا ظهورا وانتشارا، ولا زاد أتباعه إلا التزاما بسنته وإصرارا، ورد الله تعالى الكافرين والمنافقين بغيظهم لم ينالوا من الدين والسنة نقيرا ولا فتيلا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه فإنكم في شهر التقوى، ومن التقوى صيانة الجوارح عن الحرام، وغض الأبصار عن الآثام، وحفظ الأسماع من المعازف والقيان، ومفارقة مجالس الزور والبهتان، فكم من صائم ما صام! وكم من قائم ما قام، وكم من متعبد بالنهار ينقض تعبده بالليل، فالحذر أن نكون منهم؛ فإن صيام القلب عن الآثام قبل صيام الأبدان عن الطعام والشراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
أيها الناس: رمضان شهر التوبة والاستغفار؛ لأن التقوى التي عُلل الصيام بها لا تتحقق إلا بالتوبة؛ ولأن رمضان شهر المغفرة والعفو، ولا يستحق العفو والمغفرة إلا من ولج باب التوبة، وأما من أصرَّ على المعصية في رمضان فهو ينتهك حرمة الشهر، والمعصية في الزمان الفاضل أغلظ من المعصية في غيره من الأزمنة.
والصيام باب من أبواب التوبة؛ لأن الصائم أبعد من المفطر عن تسلط الشياطين؛ ولأن الصيام يضيق مجاري الدم، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ ولأن الصائم بجوعه وعطشه أضعف عن المحرمات من الشبعان؛ فالشبع والشهوة قرينان؛ ولذا أُمر من لا يجد مئونة النكاح بالصيام لتخفيف شهوته.
والتوبة تتعلق بالدين كله، ويجب أن لا ينفك المؤمن عنها أبدا؛ لأنها إما توبة عن تقصير في الطاعة، وإما توبة من فعل المعصية، والدين كله إما أمر بطاعة أو نهي عن معصية؛ ولذا أُمر المؤمنون كلهم بالتوبة {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وأمروا بالتوبة النصوح التي لا عودة فيها إلى الذنب مرة أخرى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] والتوبة النصوح هي أعلى درجات التوبة، ولا يوفق لها إلا القليل من أهل الإيمان؛ لأن الإنسان يتوب من المعصية، ثم تغلبه نفسه وهواه وشيطانه وأقرانه فيعود للذنب مرة أخرى، ويتوب مرة أخرى ويعود، وهو في مجاهدة دائمة، يغلب نفسه الأمارة بالسوء وتغلبه، حتى يوفق للتوبة النصوح.
وغالبا ما تقع التوبة في زمن معظم كرمضان، أو مكان مقدس كمكة والمدينة؛ لاقترانها بطاعة كالصيام والحج والعمرة. وكثير ممن تابوا من عظائم الموبقات إنما تابوا منها في رمضان أو في حج أو عمرة، حتى إن المصحات المعنية بمكافحة الإدمان على المخدرات أو المسكرات تستثمر رمضان لعلاج منسوبيها بالتوبة والإقلاع عما أدمنوا عليه، وتفعل ذلك جمعيات مكافحة التدخين بالمدخنين، وربما سيروا حملات حج وعمرة لهذا الغرض.
وكثير ممن تابوا من أهل الطرب والغناء والتمثيل ذكروا في سيرهم أن توبتهم كانت إما في رمضان وإما في حج وعمرة؛ وذلك بسبب إقبالهم على الله تعالى، وبسبب ضعف تسلط الشيطان عليهم لقدسية الزمان أو المكان أو كليهما.
والأصل في كون رمضان موسما للتوبة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» رواه الشيخان.
فالمعاصي تزينها الشياطين لبني آدم، وتتسلط عليهم بها، وتحجزهم عن التوبة، فإذا جاء رمضان، وصام أهل العصيان؛ صُفدت شياطينهم، فتكثر التوبة منهم بسبب هذا التصفيد.
ويبقى أهل الشقاق والنفاق ومرضى القلوب الذين لا يعظمون رمضان، ولا يراعون حرمته؛ لا تصفد شياطينهم، وهؤلاء ينقلبون في رمضان إلى شياطين إنسية تحاول إفساد صيام الناس بالعظائم والموبقات.
هذه الشياطين الإنسية يغيظها ما يقع في رمضان من توبة كثير من العصاة. ويفتت أكبادها ما يرونه من إقبال على الطاعات في بلاد المسلمين حتى تكتظ المساجد بهم.
فلا عجب وقد أكلت توبة المسلمين قلوبهم أن يستهزئوا بالتوبة، وأن يسخروا من التائبين، وممن يدعون الناس إلى التوبة؛ لأنهم دعاة على أبواب جهنم يريدون قذف الناس فيها.
وإنك إذا نظرت إلى حالهم وجدتهم كما جاء في وصف الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام؛ فهم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويزعمون النصح لأمتنا. ولكنك إذا نظرت إلى قنواتهم وجدت أن أعداء الأمة من الصفويين المحاربين لنا يسرحون فيها ويمرحون، ويعرضون فيها ما يشاءون، حتى وقفوا بقنواتهم صفا واحدا مع أعداء هذا البلد مما أثار حفيظة بعض الصحفيين بالتساؤل عن حجم الاختراق الصفوي لقنواتهم، وما عاد هذا الأمر سرا يخفى، بل أصبح الحديث فيه علنا..
وحينها لن تعجب أنهم منذ أسسوا قنواتهم قبل سنوات كثيرة وهم يستهزئون بالإسلام وشعائره وحملته ودعاته، وفي كل رمضان يعرضون سخريات جديدة، لكنك لن تجد في هذا الكم الهائل من الاستهزاء بشعائر الإسلام سخرية واحدة من شعائر الأمة الصفوية المجوسية رغم كثرة الشعائر الشاذة في دينهم من جرح الرؤوس بالسيوف، وضرب الصدور بالسلاسل، وإدماء الأطفال، وتعظيم النار، والتكفير والتطرف والإرهاب، والكذب والدجل على العباد. فقنواتهم مكرسة لحرب شعائر الإسلام فقط. والحلقة التي سُخر فيها من التوبة صانعها صفوي حاقد، فلا عجب حينئذ أن يستهزئ بتوبة المسلمين.
إن السخرية الصفوية الليبرالية من التوبة في أول أيام رمضان لها دلالات مهمة يجب التفطن لها:
فمن دلالاتها: أن أعداء الملة باتوا يعرفون أن رمضان موسم للتوبة عظيم، وهم يظنون أنهم بخبالهم وسخريتهم سينفرون الناس منها.
ومن دلالاتها: ما يعتلج في صدور الصفويين والليبراليين والشهوانيين من كراهية التوبة، والاستماتة في الحيلولة بين الناس وبينها.
ومن دلالاتها: ما تحدثه توبة العصاة من هزات عنيفة لمشروعات التغريب والتخريب التي يضطلع بها الليبراليون، ومشروعات الخداع والمغافلة والإلهاء والمخاتلة التي يستخدمها الصفويون لتخدير الأمة المسلمة للانقضاض عليها وافتراسها.
لقد أرقتهم قوافل التائبين والتائبات، وأقضت مضاجعهم، وأدمت قلوبهم؛ فهم يعملون عقودا عدة على مسخ عقول شباب الأمة وفتياتها، وإفساد أخلاقهم، وإغراقهم في لجج الشهوات والشبهات فيأتي رمضان فيئوب كثير من الشباب والفتيات إلى الله تعالى، ويهدمون ما بناه الأعداء في عشرات السنين.
إن توبة العصاة نصر عظيم للأمة؛ لأن أحوالهم تتغير بعد توبتهم؛ فبعد أن كانوا مجرد أرقام بشرية هامشية لا قيمة لهم في صراع الأمة مع أعدائها أصبحوا أرقاما فاعلة ترجح كفة انتصار الأمة على أعدائها. والأمة تواجه مشروعا صفويا طموحا يريد استئصال شأفة إسلام أبي بكر وعمر وإخوانهم من الصحابة رضي الله عنهم ليشعل عليها نار المجوسية. وتواجه الأمة مشروعا تغريبيا يريد إفساد عقائد الناس وأخلاقهم؛ ليكونوا كالأنعام، وأعظم مواجهة لهذين المشروعين الخبيثين تكون بعودة الناس إلى دينهم، والتوبة هي بوابة العودة.
إن قوافل التائبين والتائبات من التمثيل والغناء والرقص والموسيقى والمسكرات والمخدرات وأنواع الآثام والموبقات لتصيب الصفويين والليبراليين في مقاتلهم، وما استهزاؤهم بالتوبة إلا برهان على ذلك.
وكل عاص يتوب فإنما يرضي الله تعالى، وينصر الأمة، ويغيظ الأعداء أشد إغاظة؛ فلننشر مفهوم التوبة في الناس، ولندعهم إليها، ولنكن أول التائبين؛ فمن كان يأتي معصية فليتب منها، ومن قصر في طاعة فليحافظ عليها، ولتكن توبتنا طاعة لله تعالى، وغيرة على ديننا أن يُستهزأ بالتوبة وهي الدين كله، وإنقاذا لأنفسنا أمام الله تعالى، وإغاظة لأعدائنا الذين يريدون إخراجنا من التوبة إلى فسادهم؛ فإننا إن حققنا التوبة نلنا محبة الله تعالى ورضوانه وتأييده ونصره {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتزودوا من الأعمال الصالحة في هذه الأيام المباركة.. الزموا المساجد، وانشروا المصاحف، وسابقوا على الطاعات، وسارعوا إلى الخيرات، ونافسوا في الباقيات الصالحات، وإياكم ومجالس السمر واللهو والغفلة، التي لا تخلو في الغالب من قول الزور ومشاهدته وسماعه و«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رواه البخاري.
أيها المسلمون: إنه لا لوم على صفويين حاقدين، وشهوانيين ماجنين تافهين أن يستهزئوا بالتوبة، فلا يتوقع منهم غير ذلك. كيف ومراجل الحقد تغلي بها قلوبهم من انتشار التوبة بين الشباب والفتيات.
ولكن اللوم كل اللوم على تجار مؤمنين صائمين قائمين قد رضوا لأنفسهم أن يعلنوا في تلك القنوات التي تحاد الله تعالى في شرعه، وتستهزئ بالتوبة إليه، وهي مع ذلك حرب على البلاد والعباد، وتقف صفا واحدا مع الأعداء. كيف يقابلون الله تعالى يوم القيامة وهم ينفقون أموالهم على قنوات العهر والزندقة، والله تعالى قد أنزل فيمن سخروا من قراء الصحابة قوله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66].
واللوم كذلك يلحق صائمين قائمين قارئين يتحلقون حول الشاشات لمشاهدة الاستهزاء بالتوبة، وهي شعيرة من شعائر الإسلام، بل هي الإسلام كله، وقد جعل الله تعالى الحاضر كالمستهزئ {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].
فالأمر خطير ولو كثر الواقعون فيه؛ فإنه يخشى على من يستمتعون بتلك المشاهد التي يستهزأ فيها بشعائر الله تعالى من حبوط العمل، وماذا يبقى للعبد من صيامه وقيامه وإحسانه إن حبط عمله بسبب برنامج سخيف تافه، اجتمع فيه أراذل الناس وسفلتهم.
إن دين الله تعالى غالب، وإن فريضة التوبة قائمة وباقية، لن يضيرها صنع صفوي حاقد، ولا هزال عابث حقير تافه، وقوافل التائبين تزداد بحمد الله تعالى كل يوم في هذا الشهر المبارك.
ولكن الخوف كل الخوف من عقوبات تتنزل إذا لم ينكر هذا المنكر العظيم، وكذلك الخوف على عوام لا يدركون خطورة السخرية بشيء من دين الله تعالى مهما استصغروه، فضلا عن السخرية بالتوبة وهي الدين كله، فالحذر الحذر من ذلك؛ فإن أمامكم موتا وقبرا وحسابا وجزاء فأحسنوا قدومكم على الله تعالى بتلمس ما يرضيه، واجتنابه ما يسخطه.
وصلوا وسلموا على نبيكم...