• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
جزاء العمل الصالح (الجزاء الدنيوي)

جزاء العمل الصالح (الجزاء الدنيوي)

 الحمد لله الجواد الكريم؛ يجزي الحسنة بعشر أمثالها، ولا حد لكرمه في مضاعفتها، ولا يجزي السيئة إلا واحدة مثلها، نحمده على قدرته وعظمته وغناه، ونشكره على جوده وكرمه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل العمل الصالح دليلا على الإيمان، وسببا للجزاء والثواب، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وإنما برحمة الله تعالى، والإيمان والعمل الصالح سببان لرحمته سبحانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حث على ديمومة العمل، وكان إذا عمل عملا أثبته، وأحب الأعمال إليه أدومها وإن قل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا صالحا تجدوه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94].

 أيها الناس: تمضي الأيام بحلوها ومرها، وسرائها وضرائها، وتمضي أعمار الناس مع مضيها، يستوي في انقضاء الأعمار مؤمن وكافر، وبر وفاجر، وطائع وعاص، وليس الخلد في الدنيا لأحد مهما كان، والعمل وعدمه لا يمدان الأجل، ولا يؤخران الموت، إلا ما ورد من عمل صالح ينسأ الأثر كصلة الرحم. فالسَنة ماضية على الجميع بأشهرها وأيامها وساعاتها، فمستودع فيها عملا صالحا ومستودع فيها عملا سيئا.

 قدم رمضان فصام من صام، وقام من قام، وأفطر من أفطر، وعصى من عصى، ومضى الشهر فدونت أعمال كل الناس.

ثم جاءت عشر ذي الحج فعمل فيها العاملون، وساح فيها السائحون، ولها فيها اللاهون، ومضت بما عمل العباد فيها، وبعد أيام تنقضي السنة بما استودع العباد فيها من صالح العمل وسيئه، وهكذا تمضي الأيام بالواحد حتى يأتي أجله، ويوسد قبره، فلا يجد إلا عمله. وهذا يبين أهمية العمل الصالح في حياة المؤمن؛ لأن سعة قبره، وأمن آخرته، وفوزه بجنة ربه مرتهن بإيمانه وعمله.

 وليس جزاء العمل الصالح مقتصرا على الجزاء الأخروي فقط كما يظن ذلك كثير من الناس، بل إن الله تعالى يجازي من يعمل صالحا جزاء دنيويا عاجلا كما دلت على ذلك النصوص، ومنها حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ...» رواه مسلم.

 فالعمل الصالح سبب لسعادة القلب وفرحه، وذهاب همه وغمه؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح بالصلاة، وجعلت قرة عينه فيها، وكان إذا حزبه أمر صلى، والمؤمن يجد لذة وسعادة عقب كل عمل صالح يعمله، وهذه السعادة التي لا تشترى بمال، ولا تنال بجاه، وهي من الجزاء العاجل على العمل الصالح {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] فمن لا يريد الحياة الطيبة الهانئة؟! وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ.

 ومن الجزاء الدنيوي على العمل الصالح: ودُّ الخلق ومحبتهم، والقلوب لا يملكها إلا الله تعالى، فيقذف في قلوب الناس محبة من يعمل صالحا، وهذا أمر مجرب معروف؛ فإن أكثر الناس يحبون من يعمل صالحا ولو لم يعملوا عمله، بل حتى الفساق المسرفون على أنفسهم يحبون أهل الأعمال الصالحة، ولا يكره الصالحين إلا أهل الاستكبار من أهل الكفر والنفاق {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: محبة في الناس في الدنيا. وقال مجاهد رحمه الله تعالى: يحبهم ويحببهم إلى خلقه. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: ما من الناس عبد يعمل خيرًا ولا يعمل شرًّا، إلا كساه الله رداء عمله.

 ومن الجزاء الدنيوي على العمل الصالح: صلاح أحوال العبد {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [محمد: 2].

 أي: أصلح دينهم ودنياهم، وقلوبهم وأعمالهم، وأصلح ثوابهم، بتنميته وتزكيته، وأصلح جميع أحوالهم.

فإِصْلَاحُ الْبَالِ يَجْمَعُ إِصْلَاحَ الْأُمُورِ كُلِّهَا لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ تَأْتِي عَلَى حَسَبِ رَأْيِهِ، وَالْمَعْنَى: أَقَامَ أَنْظَارَهُمْ وَعُقُولَهُمْ فَلَا يُفَكِّرُونَ إِلَّا صَالِحًا وَلَا يَتَدَبَّرُونَ إِلَّا نَاجِحًا.

 ولا تستوي حياة من يعمل صالحا بحياة من يعمل سيئا، كما لا يستوي مماتهما {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] كان تميم الداريُّ رضي الله عنه يصلي ذات ليلة عند المقام فبلغ هذه الآية فجعل يبكي ويردد إلى الصباح، وعن الفضيل أنه بلغها فجعل يرددها ويبكي ويقول: يا فضيل، ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُسَمَّى مَبْكَاةُ الْعَابِدِينَ.

ومن الجزاء الدنيوي على العمل الصالح: حفظ أهل العامل وذريته،  {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبَوَيْهِمَا. وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَبِ الصَّالِحِ سَبْعَةُ آبَاءٍ. وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ رحمه الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَعِتْرَتَهُ وَعَشِيرَتَهُ وَأَهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ. وقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ رحمه الله تعالى: إِنِّي لَأُصَلِّي فَأَذْكُرُ وَلَدِي فَأَزِيدُ فِي صَلَاتِي. وفي الحديث "احفظ الله يَحفظْك" وحفظ الله تعالى هو حفظ أوامره ونواهيه. وحفظ الله تعالى للعبد يشمل حفظه في نفسه وأهله وماله وولده وكل شئونه.

ومن الجزاء الدنيوي على العمل الصالح: إجابة الدعاء {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26] أي: إذا دعوه استجاب دعاءهم، وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم.

ومن الجزاء الدنيوي على العمل الصالح: الثبات في الشدائد، وتفريج الكربات؛ ولذا أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بكثرة العبادة لاتقاء الفتن، وفي حديث الثلاثة الذين آووا إلى الغار فانحدرت عليهم الصخرة فأغلقته؛ نُجُّوا من هذا الكرب المهلك بأعمال صالحة سألوا الله تعالى بها. فكل من عمل صالحا فإن عمله يسعفه في كربه جزاء من الله تعالى، إما بتفريج الكرب، وإما بالثبات فيه بحيث لا يأبه بما أصابه مهما كان عظيما. 

ومن الجزاء الدنيوي على العمل الصالح: ولاية الله تعالى للعبد ونصرته {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] فهذه الآية دليل على أن من سنته سبحانه وتعالى أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم.

ومن الجزاء الدنيوي على العمل الصالح: التمكين في الأرض لأهل الأعمال الصالحة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]. وهذا وعد من الله تعالى، ووعده عز وجل لا يُخلف، فإذا لم يقع علم أن الشرط مفقود أو أن المانع موجود، وهذا يحتم على جماعة أهل الإيمان والعمل الصالح تفقد إيمانهم وعملهم، وتخليصه من الشوائب؛ ليتحقق وعد الله تعالى بتحقق الشرط الذي هو الإيمان والعمل الصالح.

ومن الجزاء الدنيوي على العمل الصالح: دفع العقوبات ورفعها؛ كما في حديث مِرْدَاسٍ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ، أَوِ التَّمْرِ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً» رواه البخاري.

 فأهل العمل الصالح لهم فضل على عموم المسلمين من جهة أنهم سبب لدفع العقوبات ورفعها بسبب صلاحهم ودعائهم، ومن جهة أنهم سبب لتمكين الأمة وعلوها وعزها، فحق على كل مسلم أن يحبهم، ويواليهم، ويبغض أعداءهم.

 نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يوفقنا لما يرضيه من صالح الأعمال والأخلاق، وأن يجنبنا سيئها.

 وأقول قولي هذا....

 

 الخطبة الثانية

 الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأكثروا من الأعمال الصالحة التي تنفعكم في دنياكم، وتكون أنيسا لكم في قبوركم، وذخرا لكم في آخرتكم {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124].

أيها المسلمون: إننا أشد ما نكون حاجة في هذا الزمن للعمل الصالح وتكثيره وتنويعه والديمومة عليه؛ لكثرة الفتن المحيطة بنا، والمحن التي تطوقنا، والكروب التي تتابع علينا، وفي العمل الصالح منجاة من الفتن، وثبات في المحن، ومخرج من الكروب.

 وأمتنا الإسلامية تمر بمنعطفات حاسمة ستؤثر عليها في العقود والقرون القابلة، ولا عز لها ولا تمكين إلا بأن يعمل أفرادها بالصالحات، واكتساب الحسنات، والبعد عن المعاصي والسيئات؛ ليستحقوا التمكين في الأرض.

 ويكفي العمل الصالح فضلا، ويكفي أهله شرفا أن الله تعالى زكاهم وأثنى عليهم، فيا له من فضل وشرف لمخلوق يزكيه الخالق سبحانه وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] فجعلهم سبحانه خير الخليقة. وفي آية أخرى {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].

 إننا يجب أن لا نترك العمل الصالح بعد انقضاء المواسم؛ لأن الله تعالى يعبد في رمضان وفي الحج وفي كل حال وزمان ومكان، وقصر العمل الصالح على زمن دون آخر طريق إلى الخسران، والناس في العمل الصالح أقسام:

 فمنهم من يترك الفرائض، ويقارف المحرمات إلا في المواسم، وهذا يخشى عليه من الكفر أو النفاق، وأن لا ينفعه عمله في المواسم.

 ومنهم من يخل بالفرائض، ويترك النوافل في غير المواسم، وقد يتساهل بالمحرمات، وهذا يخسر خيرا كثيرا طوال العام.

 ومنهم من يحافظ على الفرائض، وقدر من النوافل، ويكثف العمل الصالح في المواسم، ويخففه في غيرها، فهذا على خير كثير.

 ومنهم من إذا عمل في الموسم عملا صالحا اجتهد في إثباته والديمومة عليه، ومع تتابع المواسم ملأ وقته بالأعمال الصالحة، وهذا قد بلغ الغاية في الصلاح، وملء الوقت بصالح الأعمال.

 والصبر على ذلك لا يأتي دفعة واحدة، وإنما تؤخذ النفس بالتدرج، ومواسم الخير فرصة لرياضتها على المزيد من العمل الصالح، فمن عمل في الحج أو في العشر عملا فليجتهد في إثباته والديمومة عليه حتى يروض نفسه. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: لَوْ قِيْلَ لِحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوْتُ غَداً، مَا قَدِرَ أَنَّ يَزِيْدَ فِي العَمَلِ شَيْئاً.

وصلوا وسلموا على نبيكم...

أعلى