عرفة يوم الجمعة
الحمد لله الكريم الجواد، الرحيم الرحمن، العفو الغفار؛ ذي
الفضل والجود والعطاء، يجيب الدعاء، ويحب السخاء، ويقبل التوبة، ويغسل الحوبة،
ويبارك الحسنات، ويرفع الدرجات، نحمده على من به علينا من الشعائر والمناسك، وما
علمنا من الأحكام والشرائع، ونشكره على نعم علينا تتابعت، ونقم عنا تجافت، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ هي شهادة الحق، وهي أفضل الذكر، وهي كلمة
الإخلاص، وهي معقد الإسلام، وهي خير ما قال النبيون والمرسلون {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ
وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]. وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله؛ وقف بعرفة في مثل هذه الساعة المباركة، وفي مثل هذا اليوم
العظيم قبل ألف وأربع مئة وأربع وعشرين سنة، وخطب الناس خطبة عظيمة، أرسى فيها
التوحيد، وألغى مظاهر الكفر والجاهلية، وقرر فيها الحقوق، ثم خلا قلبه بربه سبحانه
داعيا متضرعا؛ ذلا له ومحبة وتعظيما، ورغبة في ثوابه، وخوفا من عقابه، صلى الله
وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله
تعالى وأطيعوه وعظموه.. اتقوه فإنه خالقكم، وأطيعوه فإنه رازقكم، وعظموه فإليه
مرجعكم، لا حول للعباد ولا قوة إلا به، ولا مفر لهم منه إلا إليه {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:
50].
أيها
الناس: اليوم يوم عرفة، فما يوم عرفة؟ واليوم يوم
الجمعة، فما يوم الجمعة؟ اجتمع عيد عرفة بعيد الجمعة، والتقت وقفة أهل المناسك
بشعائر أهل الأمصار.
لا
يوم كاليوم، ولا عشية كعشيته، في الاجتماع لتعظيم الله تعالى وذكره وشكره وعبادته؛
فأهل الموسوم وقوف الآن بعرفة في جموع مهيبة عظيمة مهيبة؛ شعثا غبرا ضاحين لله
تعالى، يقضون عشية اليوم في دعاء وتضرع وبكاء، يسألون ربهم حاجاتهم، ويقرون له بذنوبهم.
يا له
من يوم في نفوسهم لا يعدله يوم، يا لها من عشية لا تماثلها عشية، فاللهم اقبل من
الحجاج حجهم، واستجب دعاءهم، وأعطهم مسائلهم، ولا تحرمنا مما أعطيتهم؛ فإنك البر
الرحيم، الجواد الكريم.
وأما
أهل الأمصار من المسلمين فيجتمعون في مساجدهم لأداء صلاة الجمعة، قد صاموا هذا
اليوم طلبا لمثوبته، وفي عشية هذا اليوم يخلو كل واحد منهم بربه عز وجل، يدعوه
ويسأله ويستغفره حتى يحل إفطاره، قد اجتمعت فيهم أسباب إجابة الدعاء؛ فآخر ساعة من
الجمعة وقت إجابة، ودعوة الصائم مرجوة؛ فيا لله العظيم رب العرش العظيم، كم من
دعوات سترفع إلى الله تعالى من صعيد عرفة؟ وكم من دعوات سترفع إليه سبحانه من
مساجد المسلمين ودورهم عشية هذا اليوم في مشارق الأرض ومغاربها؟!
اليوم
يوم العتق من النار فسلوا الله تعالى أن يعتقكم ووالديكم ومن تحبون من النار "
مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ،
مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ
الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ " قاله نبينا صَلَّى الله
عليه وسلم.
اليوم
يوم ذُلِّ الشيطان وإصغاره، حين يرى رحمات الله تعالى تتنزل على عباده، وحين يرى
عبادا فتنهم وأغواهم سنين عددا يغفر الله تعالى لهم في تلك العشية فيقول عز وجل:
انصرفوا مغفورا لكم. وحين يرى كثرة العتق من النار، فأروا الله تعالى من أنفسكم
خيرا، وألحوا عليه بالتضرع والبكاء. "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ
عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
يوم
جمعة هو يوم عرفة، فكان يوم الوقفة هذا موافقا لوقفة النبي عليه الصلاة والسلام؛
فإنه وقف يوم الجمعة بعرفة في حجة الوداع.
إنه
يوم عظيم عند أهل الإسلام؛ لأنه يوم كمال الدين، وتمام النعمة، وفيه تنزلت الآية
بذلك، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ
قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا،
لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ
عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ
اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ» رواه الشيخان.
اجتمع
في يومنا هذا أفضل أيام الأسبوع مع يوم هو من أفضل أيام العام، فاجتمع الفضل في
هذا اليوم العظيم. وفي فضل الجمعة حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ
عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ...» رواه مسلم. وفي لفظ ابن خزيمة: «سَيِّدُ
الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ...»
إن يوم الجمعة يوم عيد بقول النبي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ، جَعَلَهُ اللَّهُ
لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ...» رواه ابن
ماجه، وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ
عِيدٍ..." رواه أحمد.
وكذلك
يوم عرفة يوم عيد لأهل الإسلام كما في حديث
عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ
التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ...» رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن
صحيح.
فاجتمع العيدان في يوم واحد: عيد الجمعة وعيد
عرفة، وكفى بذلك شرفا وفضلا لهذا اليوم العظيم.
وهذا
اليوم العظيم مشابه ليوم القيامة من جهة الزمن؛ فإن يوم القيامة يكون يوم الجمعة،
ومن جهة الجمع؛ فإن جموع الحجيج في موقف عرفة تُذَكِّر بجمع الأولين والآخرين في
موقف القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعداد مزايا يوم الجمعة «... فِيهِ
خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَفِيهِ
تَقُومُ السَّاعَةُ...» ولذا كان من السنة قراءة سورتي السجدة والإنسان في صلاة
فجر الجمعة؛ لأن فيهما ذكر المبدأ والمعاد الذي يكون في يوم الجمعة.
وفي
يوم القيامة يشفع نبينا صلى الله عليه وسلم، ويشفع الشفعاء، فيقبل الله تعالى
شفاعتهم، فيدخل أناس الجنة بشفاعتهم، ويخرج من النار أناس بشفاعتهم، ويكثر عفو
الله تعالى وتجاوزه عن عباده في ذلك اليوم العظيم، قال بكر بن سليمان الصواف:
دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها فقلنا له: يا أبا عبد الله، كيف
تجدك؟ قال: ما أدري كيف أقول لكم، إلا أنكم ستعاينون غداً من عفو الله تعالى ما لم
يكن في حساب، ثم ما برحنا حتى أغمضناه رحمه الله تعالى.
وفي صعيد عرفة يدعو أناس لآخرين فيستوجبون
المغفرة بدعاء إخوانهم لهم، وكذلك في ساعة الجمعة، فكيف إذا وقعت ساعة الجمعة في
يوم عرفة؟! وقد جاء في الحديث أن الله تعالى يقول لأهل عرفة "أَفِيضُوا
عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ" رواه البزار.
إِنَّ هذا اليوم يومٌ يَدْنُو فيه الرَّبُّ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ
يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ... وَتَحْصُلُ مَعَ دُنُوِّهِ مِنْهُمْ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى سَاعَةُ الْإِجَابَةِ الَّتِي لَا يَرُدُّ فِيهَا سَائِلًا يَسْأَلُ
خَيْرًا، فَيَقْرُبُونَ مِنْهُ بِدُعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ
السَّاعَةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمْ تَعَالَى نَوْعَيْنِ مِنَ الْقُرْبِ:
أَحَدُهُمَا: قُرْبُ الْإِجَابَةِ الْمُحَقَّقَةِ
فِي تِلْكَ السَّاعَةِ.
وَالثَّانِي: قُرْبُهُ الْخَاصُّ مِنْ أَهْلِ
عَرَفَةَ، وَمُبَاهَاتُهُ بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ. فَتَسْتَشْعِرُ قُلُوبُ أَهْلِ
الْإِيمَانِ هَذِهِ الْأُمُورَ فَتَزْدَادُ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِهَا، وَفَرَحًا
وَسُرُورًا وَابْتِهَاجًا، وَرَجَاءً لِفَضْلِ رَبِّهَا وَكَرَمِهِ، فَبِهَذِهِ
الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا فُضِّلَتْ وَقْفَةُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهَا.
نسأل
الله تعالى أن يقبل منا ومن الحجاج، وأن يجعلنا وإياهم ووالدينا والمسلمين في هذا
اليوم العظيم من عتقائه من النار، وأن يمن علينا بصلاح القلوب والأعمال، إنه سميع
مجيب.
أقول
قولي هذا واستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد
لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما
بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والزموا شريعته، وحققوا توحيده، وعظموا حرماته في
هذه الأيام، واشكروه على ما شرع لكم من التقرب إليه سبحانه بالدماء {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ
لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
[الحج: 30].
أيها
المسلمون: شرع الله تعالى لكم في يوم غد التقرب إلى الله تعالى بالأضاحي، وهي شرع
أبينا الخليل عليه السلام، وفداء أبينا إسماعيل على السلام، وسنة نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم، كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: «ضَحَّى النبي صلى الله
عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ على
صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بيده» رواه الشيخان.
ومن
طرأت عليه الأضحية اليوم أو غدا أبو بعده أو ثالث أيام التشريق، أو وجد سعة من مال
ما كان يجدها من قبل فله أن يضحي، ولو لم ينو الأضحية إلا وقت شرائها أو ذبحها،
ولو كان قد أخذ من شعره وأظفاره في العشر؛ لأن نيته بالتضحية كانت بعد ذلك، فلا
يحرم المسلم نفسه فضل الأضحية وأجرها، وكل بيت من المسلمين تكفيهم أضحية واحدة،
ولا يشرع تخصيص الأموات بالأضحية، إلا أن يشركوا فيها مع الأحياء.
وفي
فجر هذا اليوم العظيم اجتمع التكبير المقيد مع المطلق، فالمقيد يشرع أدبار
الصلوات، والمطلق يكون في كل وقت، وآخر تكبير مقيد بعد صلاة العصر من يوم الثالث
عشر، وهو آخر أيام التشريق، وبغروب شمسه ينتهي وقت التكبير المطلق أيضا، وينتهي وقت
نحر الأضاحي والهدايا. فلنحرض على التكبير بنوعيه في هذه الأيام العظيمة.
ويحرم
صوم يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة، قَالَ النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ
لِلَّهِ» رواه مسلم. وهذا يقتضي تحريم صومها.
ولنحذر -عباد الله- منكرات العيد وموبقاته؛ فإن من
سمات أعياد الفساق المجاهرة فيها بأنواع المحرمات من معازف وغناء وحفلات تقام لأجل
ذلك، نعوذ بالله تعالى من كفر النعمة، ونسأله تعالى الثبات على الإيمان والسنة.
ولنكثر من الدعاء في عشية هذا اليوم المبارك لأنفسنا
ووالدينا وأهلنا وذرياتنا وأحبابنا، ولعموم المسلمين؛ فإن اليوم يوم الدعاء حيث
ساعة الاستجابة في الجمعة، التي وافقت عشية عرفة، وحيث إن الصائم مرجو الدعوة..
ولندع لإخواننا المستضعفين المستضامين الذين شردوا من ديارهم وأخيفوا وقتلوا
وعذبوا بغير جرم إلا أن يقولوا ربنا الله؛ فإنهم في كرب عظيم، وعسر شديد، فرج الله
تعالى كربهم، ورفع بلاءهم، وكبت أعداءهم، إنه سميع مجيب.
وصلوا وسلموا على نبيكم...