• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المعونة على قدر المئونة

المعونة على قدر المئونة


 

 الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهـد أن لا إله إلا الله وحـده لا شريك له، وأشهـد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

 أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 أيها الناس: من رحمة الله تعالى بعباده، وحكمته سبحانه في تدبيرهم أنه لا يكلفهم بما لا يطيقون، ولا ينزل بهم من البلاء ما لا يحتملون. فإذا أمرهم بشيء أعانهم على القيام به، وإذا نهاهم عن شيء أعانهم على تركه، وإذا ابتلاهم بمصيبة أعانهم على اجتيازها والتعايش معها. ولكن إعانة الله تعالى لعباده في كل ذلك مرتهنة بإيمانهم به سبحانه، الذي يقودهم إلى العزم على امتثال الأمر، واجتناب النهي، وتحمل جلل المصاب.

 شُرع الجهاد وهو أشد شيء على النفوس؛ لما فيه من التضحية بالأنفس والأموال، حتى قال الله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فامتثل الصحابة أمر الله تعالى فأعينوا على الجهاد ونصروا.

 وحرَّم الله تعالى عليهم الخمر وهي تسري في عروقهم، وتخالط دماءهم، ولا تخلو منها مجالسهم، ولا تحصى فيها أشعارهم، فصدقوا في الامتثال لأمر الله تعالى فأعانهم على تركها.

 وأصيبوا بعظيمات المصائب، وشديد الابتلاءات فقابلوها بالصبر والرضا والتسليم؛ فهدى الله تعالى قلوبهم، وشرح صدورهم، وخفف وطأة المصاب عليهم. ولا مصاب أصيبوا به أعظم من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فعاشوا بعده بالصبر والرضا {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11].

 وليس هذا الجزاء العاجل من الله تعالى خاصا بالصحابة رضي الله عنهم، بل هو عام لكل مؤمن قابل أوامر الله تعالى القدرية بالصبر والرضا، وقابل أوامره الشرعية بالامتثال والانقياد.

 إن خمس صلوات في اليوم والليلة ثقيلة على النفوس البشرية، وإن صوم شهر في شدة الحر لا يكاد يطاق، وإن الحج إلى مكان ضيق حار مزدحم مع ما يصاحبه من رهق الأجساد، وأمراض الشمس والزحام لمما لا يطاق.. ولكن الله تعالى برحمته للمؤمنين، يعين  الممتثلين، فيكون جزاؤه سبحانه لهم أسرع إليهم من امتثالهم؛ إذ لما عزموا على الامتثال جازاهم بالمعونة على ما أرادوا من الطاعات، فيسرها لهم، وقواهم عليها، مع ما ادخره لهم من عظيم ثوابها.

 ويصاب المؤمن بكارثة عظيمة تنهد لها الجبال، وتطيش فيها العقول والأحلام، إما بهلاك أهله وولده، أو ذهاب ماله كله، أو تشريده من بلده؛ فيعالج صدمته بالحمد والاسترجاع، ويقهر نفسه على الصبر والرضا، فينزل الله تعالى معونته له، ويجد في قلبه من حلاوة الرضا ما يُسَكِّنُه، ويقضي على مُرِّ القضاء بتذكر حلاوة الجزاء؛ كما قال القائل لما تبسم وقد أصيب بما يؤلم: إن حلاوة الأجر أنستني مرارة الألم.

 يمر أحدنا بمؤمن مريض بأخطر الأمراض، قد أزال المرض نضرته، وأكل جسده، وأضعف قوته، وهو ينتظر حلول رمسه، ومع ذلك يتألم جليسه أكثر من ألمه لما يرى من مصابه، وهو راض بقدر الله تعالى، مطمئن القلب، لا يفتر لسانه عن الحمد، وكلنا قد شاهد ذلك مرارا. إنها معونة الله تعالى للطائعين في طاعاتهم، وللمصابين في مصابهم.

 مرَّ بنا رمضان الماضي في قيظ شديد، وشمس حارقة، وسموم لافحة، مع طول في النهار، وصام الصائمون، ومنهم من يخرجون لأعمالهم في شدة الحر، ومنهم من يعملون تحت أشعة الشمس، فأعانهم الله تعالى على صيامهم، حتى إنهم كانوا يقولون بعد عيدهم: ما شعرنا بالصيام هذا العام، وما أحسسنا به، والحمد لله الذي أعاننا على شدة الحر وطول النهار.

 ومن وفق للعمرة في رمضان استصعب في البداية شدة الزحام، وعسر الطريق، ولما عزم أعانه الله تعالى، ولطالما ردد المعتمرون في المواسم: الحمد لله تيسرت وما ظنناها تتيسر هكذا، ثم يفيضون في الحديث عن تفاصيل ذلك اليسر في السفر والطواف والسعي والسكن وغيرها.

 وفي الحج أمثلة لا تحصى من ذلك؛ فإن الحج مظنة الهلكة من شدة الزحام، وكثرة التنقل، ومخاطر الطريق، والحجاج يملئون المشاعر بمئات الألوف، وكل من عزم الحج يتهيب ذلك كله، ثم إذا عادوا من مناسكهم فأول ما ينطقون به لمن يستقبلونهم: الحمد لله كانت حجة ميسرة ومريحة، ويتحدثون عن مظاهر التيسير فيها، ومواطن إعانة الله تعالى لهم، وفيهم الضعفة من النساء، والشيوخ الهرمون، والعجائز والمقعدون، هونها الله تعالى عليهم، ويسرها لهم.. وليس هذا التيسير يقع لواحد أو مئة أو ألف من الحجاج بل هو عام في الحجاج يكاد يشملهم جميعا، ومن أراد الاستيثاق من ذلك فليشاهد مقابلات الحجاج وهم عائدون إلى ديارهم، في الصحف والشاشات والإذاعات؛ ليسمع أن جميعهم يتكلم عن معونة الله تعالى لهم، ويسر أدائهم مناسكهم. 

وما من مؤمن إلا وقد شعر بذلك في نفسه، في صيامه وحجه، وما مرَّ به في حياته من ابتلاءات.. تشتد عليه في أولها فيهتم ويغتم، ثم تتيسر وتنفرج، فيزول همه وغمه، وينشرح صدره.

 إنها معونة الله تعالى لعباده، ينزلها على قدر ما أصيبوا به من شدة، لتزول شدتهم أو تخفف عنهم.. وإنه الصبر ينزله الله تعالى على أهل البلاء بقدر بلائهم؛ لئلا يقتلهم بلاؤهم كمدا وضيقا ويأسا.

 وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى ينزل المعونة على قدر المؤنة، وينزل الصبر على قدر البلاء» وفي رواية «إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤنة وإن الصبر يأتي من الله على قدر المصيبة» رواه البزار والبيهقي.

 والعبد محتاج إلى عون الله تعالى في أموره كلها: في زيادة إيمانه، وفي ثباته عليه، وفي الاستجابة لأوامر الله تعالى، والانتهاء عن مناهيه، وفي الصبر على ما يكدر عيشه، وينغص حياته من مصائب الدنيا وابتلاءاتها؛ فإنه لا حول للعبد ولا قوة إلا بالله تعالى؛ ولذا فهو يستعين بالله تعالى بعد استجابته لأمره في كل ركعة يصليها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].

 وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه بذلك فقال: «يا مُعَاذُ والله إني لَأُحِبُّكَ، والله إني لَأُحِبُّكَ، فقال: أُوصِيكَ يا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كل صَلَاةٍ تَقُولُ: اللهم أَعِنِّي على ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» رواه أبو داود. وتتابع رواة الحديث من معاذ رضي الله عنه فمن دونه كل واحد يوصي من بعده بأن يقول هذا الدعاء.

 وهذا الدعاء من أسباب الإعانة على الطاعات، والانتهاء عن المحرمات، والصبر على الابتلاءات؛ لأن من أُعين على ذكر الله تعالى ذكره في تلك المواطن؛ فبادر إلى طاعته، وانتهى عن معصيته، وصبر في مصيبته. ومن أعين على شكر الله تعالى لحظ نعمه عز وجل فقادته للطاعة، وحجزته عن المعصية؛ شكرا لله تعالى، وجعلته يزن مصابه بما أفيض عليه من نعم كثيرة، فلا يجزع ولا يسخط، بل يرضى ويسلم، ولا يزال كذلك حتى يحقق حسن العبادة بتحقيق الإخلاص والمتابعة.

 {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادك.

 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

 الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستعينوا به في أموركم كلها؛ فلا عون إلا من الله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45-46]

 أيها المسلمون: إذا حاز العبد عون الرب تبارك وتعالى سهل عليه كل عسير، وانحلت له كل عقدة، ولا يسير في درب إلا يُسِّر له، يتعثر غيره وهو لا يتعثر. يراه الناس ضعيفا مستضعفا فلا يأبهون به، وما علموا أن عون الله تعالى لا ينقطع عنه، قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رضي الله عنه: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا عَوْنُ اللَّهِ لِلضَّعِيفِ مَا غَالَوْا بِالظَّهْرِ».

وإذا أعين العبد على الطاعات سارع إليها، واستكثر منها؛ فلا طريق إلى الخير إلا سلكه، ولا بابا للبر إلا ولجه، يأخذ حظه من كل عبادة، ويقدر على ما لا يقدر عليه غيره من الطاعة؛ لأن عون الله تعالى يرافقه.

 وإخلاص العبادة لله تعالى سبب للإعانة عليها، وحسن النية في التعامل مع الناس يجعل العبد معانا عليهم، قال سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم: عون الله تعالى على قدر النية، فمن تمت نيته في الخير تم عون الله له، ومن قصرت نيته قصر من العون بقدر ما قصر منه.

 وفي إحدى المعارك حُصر خالد بن الوليد رضي الله عنه حتى ضاق الجند ذرعا، فقال رضي الله عنه في خطابه لهم: واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والمعونة على قدر الحسنة، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث لشيء يقع فيه مع معونة الله تعالى له.

 ومن أسباب معونة الله تعالى للعبد أن يملأ قلبه بالثقة بالله تعالى، والتوكل عليه، والإنابة إليه، ولا يعتمد على الأسباب الظاهرة وينسى مسببها سبحانه وتعالى، قال أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله تعالى: القلب إذا مال إلى الأسباب وكل إليها بقدر ميله إليها، وفقد من معونة الله تعالى وتأييده على قدر ذلك.

 فلنسأل الله تعالى العون في أمور ديننا وأمور دنيانا، ومن وجب عليه الحج فليؤد فريضة الله تعالى، ولا يستصعب أداء المناسك في شدة الحر، وكثرة الزحام، ولا يخاف المخاطر، وليتوكل على الله تعالى فإنه في عبادة، ولا بد أن يعينه الله تعالى عليها متى ما أخلص النية فيها، فيعود من حجه يوم يعود وهو يحدث الناس بما شاهد من عون الله تعالى له وتيسيره في أداء مناسك حجه.

 {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران:97].

وصلوا وسلموا على نبيكم...  

أعلى