• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الأحاديث الطوال (حديث المعجزات)

الأحاديث الطوال (حديث المعجزات)


 الحمد لله خالق الخلق، ومالك الملك، ومدبر الأمر؛ لا يقضى قضاء إلا بأمره، ولا يكون شيء إلا بعلمه، وهو العليم القدير، نحمده على وافر نعمه، ونشكره على جزيل عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أرسل رسله بالبينات، وأيدهم بالمعجزات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلى الله تعالى ذكره في العالمين، وفضله على خلقه أجمعين؛ فهو محمود في السموات والأرضين، وفي الأولين والآخرين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا من حياتكم لموتكم، ومن فراغكم لشغلكم، ومن صحتكم لمرضكم، ومن شبابكم لهرمكم، ومن قوتكم لضعفكم، فكم من متمنٍ على الله عز وجل يتمنى أن يعود به الزمن إلى الوراء؛ ليكتسب خيرا ضيعه، ويجتنب  شرا فعله، وكم في القبور من ساكن يتمنى العمل ولا عمل؛ فلنعمل ما دمنا في دار الأمل والعمل قبل أن ينقطع الأمل ويتوقف العمل {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:123-124].  

أيها الناس: في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم أعاجيب لا تنقضي، وفوائد لا تنتهي، وفيها ترسيخ العقائد، وتثبيت القلوب. وفيها انتقال الذهن من الواقع المزدحم بالماديات، الموغل في الحيوانية وعبادة الشهوات، إلى أجمل اللحظات السامية السامقة، والتحليق في آفاق الإيمان العالية؛ وذلك بالعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ومعرفة أخبارهم، ومطالعة أحوالهم.

 وهذا حديث من الأحاديث الطوال، في سفر من الأسفار، وصف راويه رضي الله عنه مسيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أخبارهم وأحوالهم، يرويه أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه فيقول:

خَطَبَنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيَّتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمْ، وَتَأْتُونَ الْمَاءَ إِنْ شَاءَ اللهُ غَدًا» ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَبَيْنَمَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ،[ أَيْ مُنْتَصَفِهِ] وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ، قَالَ: فَنَعَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى تَهَوَّرَ اللَّيْلُ، [أَيْ: ذَهَبَ أَكْثَرُهُ] مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، قَالَ: فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ، مَالَ مَيْلَةً هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْمَيْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ [أَيْ يَسْقُطُ]، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» قُلْتُ: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: «مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّي؟» قُلْتُ: مَا زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ، قَالَ: «حَفِظَكَ اللهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ» ، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَرَانَا نَخْفَى عَلَى النَّاسِ؟» [قال ذلك بسبب أن الناس تقدموا عليهم في المسير]، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ؟» قُلْتُ: هَذَا رَاكِبٌ، ثُمَّ قُلْتُ: هَذَا رَاكِبٌ آخَرُ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فَكُنَّا سَبْعَةَ رَكْبٍ [هؤلاء السبعة تأخروا فأدركهم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو قتادة]، قَالَ: فَمَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: «احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا»، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ، قَالَ: فَقُمْنَا فَزِعِينَ، ثُمَّ قَالَ: «ارْكَبُوا»، فَرَكِبْنَا فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ نَزَلَ، ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ [وَهِيَ الْإِنَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ]، قَالَ: فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ [أي وُضُوءًا خَفِيفًا سَابِغًا]، قَالَ: وَبَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مَنْ مَاءٍ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي قَتَادَةَ: «احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتَكَ، فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ»، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ [أي الفجر]، فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَهْمِسُ إِلَى بَعْضٍ مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا فِي صَلَاتِنَا؟ ثُمَّ قَالَ: «أَمَا لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ»، ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِيَّ النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةَ الْأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا» [ومَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فَقَضَاهَا لَا يَتَغَيَّرُ وَقْتُهَا وَيَتَحَوَّلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ يَبْقَى كَمَا كَانَ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ صَلَّى صَلَاةَ الْغَدِ فِي وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْضِي الْفَائِتَةَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي الْحَالِ وَمَرَّةً فِي الْغَدِ كما يظنه بعض الناس، أو يؤخرون القضاء إلى مثل وقتها في الغد] ، ثُمَّ قَالَ: «مَا تَرَوْنَ النَّاسَ صَنَعُوا؟» قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَصْبَحَ النَّاسُ فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ: رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَكُمْ، لَمْ يَكُنْ لِيُخَلِّفَكُمْ، وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، فَإِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ يَرْشُدُوا، [وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ الصُّبْحَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ وَقَدْ سَبَقَهُمُ النَّاسُ، وَانْقَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَؤُلَاءِ الطَّائِفَةُ الْيَسِيرَةُ عَنْهُمْ قَالَ: مَا تَظُنُّونَ النَّاسَ يَقُولُونَ فِينَا؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَيَقُولَانِ لِلنَّاسِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَكُمْ وَلَا تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُخَلِّفَكُمْ وَرَاءَهُ وَيَتَقَدَّمَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَنْتَظِرُوهُ حَتَّى يَلْحَقَكُمْ، وَقَالَ بَاقِي النَّاسِ: إِنَّهُ سَبَقَكُمْ فَالْحَقُوهُ، فَإِنْ أَطَاعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَشَدُوا فَإِنَّهُمَا عَلَى الصَّوَابِ] قَالَ أبو قتادة: فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّاسِ حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ، وَحَمِيَ كُلُّ شَيْءٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ الله هَلَكْنَا، عَطِشْنَا، فَقَالَ: «لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ» ، ثُمَّ قَالَ: «أَطْلِقُوا لِي غُمَرِي» [وهو القدح الصغير] قَالَ: وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ، وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ، فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْسِنُوا الْمَلَأَ، كُلُّكُمْ سَيَرْوَى» قَالَ: فَفَعَلُوا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي، وَغَيْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: «اشْرَبْ»، فَقُلْتُ: لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا»، قَالَ: فَشَرِبْتُ، وَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ جَامِّينَ رِوَاءً، [أَيْ: نِشَاطًا مُسْتَرِيحِينَ] قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ رَبَاحٍ: إِنِّي لَأُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ، إِذْ قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ انْظُرْ أَيُّهَا الْفَتَى كَيْفَ تُحَدِّثُ، فَإِنِّي أَحَدُ الرَّكْبِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: حَدِّثْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِحَدِيثِكُمْ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ الْقَوْمَ، فَقَالَ عِمْرَانُ: لَقَدْ شَهِدْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَمَا شَعَرْتُ أَنْ أَحَدًا حَفِظَهُ كَمَا حَفِظْتُهُ» رواه مسلم في صحيحه.

وفي هذا الحديث العظيم مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 منها: إِخْبَارُهُ أبا قتادة بِأَنَّ الْمِيضَأَةَ سَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ وَكَانَ كَذَلِكَ؛ إذ سُقي الناس كلهم منها وهي إناء صغير.

 ومنها: تَكْثِيرُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ له عليه الصلاة والسلام.

ومنها: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ»، يقول ذلك وليس معهم ماء إلا ما في الميضأة.

ومنها: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّكُمْ سَيَرْوَى» وَكَانَ كَذَلِكَ مع أن الماء قليل.

ومنها إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ  بما قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَبما قَالَ النَّاسُ، وهو خلفهم بعيد عنهم، وأخبر من معه أن من تقدموهم إن أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا.

ومنها قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيَّتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمْ وَتَأْتُونَ الْمَاءَ» وَكَانَ كما قال، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ يَعْلَمُ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ «فَانْطَلَقَ النَّاسُ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» إِذْ لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَفَعَلُوا ذَلِكَ قَبْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].

 بارك الله لي ولكم في القرآن..

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيراً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموا سنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنه أوتي الكتاب ومثله معه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

 أيها المسلمون: يتجلى في هذا الحديث حب الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ بات أبو قتادة رضي الله عنه ساهرا لحماية النبي صلى الله عليه وسلم وراحته، ورفده ثلاث مرات لما نام وكاد أن يسقط من راحلته، وصدق أَبُو سُفْيَانَ في مقولته حين قال: مَا رَأَيْتُ مِنْ النّاسِ أَحَدًا يُحِبّ أَحَدًا كَحُبّ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ مُحَمّدًا.

وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ المعروف، ويكافئ عليه، ويدعو لصاحبه؛ كما دعا لأبي قتادة رضي الله عنه لما سهر على حمايته وراحته، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَفِظَكَ اللَّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ. وأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ أَنْ يَدْعُوَ لِفَاعِلِهِ.

 وفي نوم النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر إثبات لبشريته، وهذا رحمة من الله تعالى؛ لتعلم أمته كيف قضاء الصلاة الفائتة، وأنه يؤذن لها، وتفعل راتبتها، وتصلى فور الاستيقاظ إن كان نائما، أو فور تذكرها إن كان ناسيا. وليس في ذلك حجة لمن كان دأبه تضييع الصلاة بالنوم، ولا من يبيت عدم الاستيقاظ للصلاة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على الاستيقاظ، وقال لمن معه «احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا» لكن القوم ناموا من شدة التعب كما نام، وكانت مرة واحدة، فأين هذا ممن ينام كل يوم عن الصلاة حتى يخرج وقتها؟ أو يبيت عدم الاستيقاظ لها، فلا يضع المنبه على وقتها؟

 وفي هذا الحديث تواضع النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان يباشر سقي الناس بنفسه وهم جمع كبير، فلم يتذمر أو يمل ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم آخرهم شربا وهو عطشان، ولما عزم عليه أبو قتادة أن يشرب سن لنا أدبا رفيعا وهو «أَنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا» وَقد أدخل الفقهاء ما فِي مَعْنَاهُ ممَا يُفَرَّقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالمَشْمُومٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فمقدمه للناس يكون آخرهم أكلا إن كان مأكولا، وآخرهم تطيبا إن كان طيبا.

 أيها الإخوة: لنجعل من يومنا حظا لقراءة سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونشيع ذلك في بيوتنا وأسرنا واجتماعاتنا التي تخلو من ذلك في الغالب؛ فإن فيها ترسيخا للإيمان، وتهذيبا للأخلاق، وتليينا للقلوب، علاوة على ما فيها من أجر طلب العلم، وذلك فضل عظيم، وثواب كبير {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11] «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ».

 وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

أعلى