التكيتك الصهيوني لإحباط المصالحة الفلسطينية
من غرائب الأمور أن ينشغل البرلمان الصهيوني في هذه
الأثناء في مناقشات تهدف إلى إقرار تشريع ينص على تجريم الاتصال بأي من ممثلي
منظمة التحرير الفلسطينية. قد يبدو هذا الإجراء مستهجناً لأول وهلة، على اعتبار أن
الكيان الصهيوني تحكمه في علاقاته مع المنظمة اتفاقية "أوسلو" التي
وقعها مع قيادة المنظمة، لكن من الواضح أن هذه الخطوة قد جاءت رداً على توصل كل من
حركتي فتح وحماس لاتفاق مصالحة يفترض أن ينهي الانقسام الفلسطيني الداخلي. وقد شرع
الكيان الصهيوني في سلسلة من الإجراءات العقابية الهادفة إلى ردع قيادة حركة فتح
ممثلة في رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن تحويل اتفاق المصالحة إلى واقع
عملي. ومما لا شك فيه أن الكيان الصهيوني هو أكثر الأطراف استفادة من الانقسام،
حيث كانت القيادة الصهيونية مرتاحة لأوضاع قطاع غزة في ظل الانقسام، إذ أن وجود
القطاع تحت حكم حركة حماس يسهل على هذا الكيان شيطنته، وتبرير العمليات العسكرية
التي تنفذ بشكل غير متناسب. فنظراً لأن حركة حماس تعد حركة "إرهابية"
حسب التوصيف الغربي، فأن القيادة الصهيونية تفترض أن تتفهم الولايات المتحدة
وأوروبا العمليات التي تنفذها ضد المقاومة في القطاع. ومن الواضح أن تغيير صيغة
الحكم وخروج حماس من المشهد السياسي، سيقلص قدرة تل أبيب على المناورة. وفي الوقت
ذاته، فأن الانقسام أدى إلى تحسين قدرة القيادة الصهيونية على ابتزاز قيادة السلطة
الفلسطينية. فعلى الرغم من أن الكيان الصهيوني يقر بأن السلطة الفلسطينية بقيادة
أبو مازن قد وفت بكل التزاماتها، كما وردت في الاتفاقات الموقعة، ويخرج قادة
الأجهزة الأمنية الصهيونية عن طورهم وهم يحتفون بدور السلطة الفلسطينية وأجهزتها
الأمنية في "تحسين البيئة الأمنية" في الضفة الغربية، عبر مشاركة الكيان
الصهيوني في تتبع حركات المقاومة والمقاومين. لكن عندما يطالب أحد ما صناع القرار
في تل أبيب بالوفاء بتعداتهم أو إبداء مواقف مرنة من قضايا الحل الدائم، فأن الرد
الصهيوني التقليدي، يقول: "وماذا يمثل أبو مازن، أنه يمثل في أحسن الأحوال
جزءاً من الشعب الفلسطيني".
إن حركتي فتح وحماس اللتان تعيان أن الكيان الصهيوني هو
أكثر الأطراف استفادة من الانقسام تبديان هذه المرة حرصاً كبيراً على إنجاح
المصالحة، كلٌ لأسبابه الخاصة. فحركة "فتح" تعي أن برنامجها السياسي لم يفشل
فقط، بل أن قيادتها باتت تدرك أن التعنت الصهيوني ومواصلة الاستيطان والتهويد وتواصل
اعتداءات المستوطنين قد تؤذن بانفجار الأوضاع في الضفة الغربية بشكل غير مسبوق
يمثل ضربة قوية لمصداقية قيادة السلطة ويدفعها مجبرة إلى مربع لم تخطط للوصول
إليه. ناهيك عن أن المصالحة تقلص قدرة محمد دحلان خصم عباس اللدود على استغلال
الأوضاع ومحاولة إحداث اختراقات في الضفة الغربية على وجه الخصوص لتحسين موقعه،
سيما وأن هناك من يرى أن عدداً من كبار المسؤولين في أجهزة عباس الأمنية لازالوا
يدينون بالولاء لدحلان بالخفاء. في الوقت ذاته تعي حركة حماس الكلفة الكبيرة للجمع
بين المقاومة والحكم، سيما في ظل الحصار، وفي ظل حالة العداء غير المسبوقة التي
يظهرها النظام لانقلابي في مصر تجاه القطاع. من هنا، فأن الكيان الصهيوني الذي
يرصد حجم الضرر الذي سيتكبده في حال تمت المصالحة، سيعمل كل ما في وسعه من أجل
إحباطها، عبر المزاوجة بين الضغط الاقتصادي والسياسي والشخصي. فمن ناحية سياسية،
يدعي الكيان الصهيوني أنه لم يعد هناك ثمة مجال لاجراء مفاوضات مع السلطة في حال
تم تشكيل حكومة بمشاركة حماس، على الرغم من أن المفاوضات قد فشلت ووصلت إلى طريق
مسدود في ظل تركيبة السلطة الفلسطينية الحالية. يدرك الكيان الصهيوني أن الانقسام
أدى إلى تآكل القضية الوطنية الفلسطينية وأضر بها ومكن الصهاينة من المناورة بين
الفرقاء في الساحة الفلسطينية. إن إحدى الأدوات التي يوظفها الكيان الصهيوني
لإحباط المصالحة هي الضغوط الاقتصادية ضد السلطة، وفرض قيود على حرية الحركة
لقادتها. ومما لا شك فيه أن أهم ورقة تلعب لصالح هذا الكيان هو الموقف العربي
الإقليمي، الذي يتقاطع معه تل أبيب في رفض المصالحة. فليس سراً، أن الأنظمة
العربية التي وصل عداؤها لجماعة الإخوان المسلمين حدوداً غير مسبوقة، لا تتحمس لأي
تفاهم بين حركتي فتح وحماس لانهاء خلافاتهما.
إن أكثر ما يثير القلق في الكيان الصهيوني هو حقيقة أن
المصالحة تأتي بعيد الإعلان عن توجه السلطة الفلسطينية للأمم المتحدة، حيث أن تل
أبيب تدرك أن المصالحة تساعد الممثلين الفلسطينيين على القبول في المؤسسات
الدولية، على اعتبار أنه سيكون من المتعذر على الكيان الصهيوني التصدي لمحاولات
المنظمة الحصول على عضوية كاملة لـ "دولة فلسطين" في الأمم المتحدة، حيث
كانت القيادة الصهيونية مدعومة بالموقف الأمريكي تدعي أنه لا يمكن لفلسطين الحصول
على مكانة عضوية كاملة في الأمم المتحدة، في الوقت الذي يمثل فيه أبو مازن جزءاً
من الشعب الفلسطيني وليس كل الشعب الفلسطيني. ومن نافلة القول أن الكيان الصهيوني
يخشى أن يؤدي قبول فلسطين في المؤسسات والمعاهدات الدولية إلى تغيير المكانة
القانونية للضفة الغربية، بحيث يتم التعامل مع أي بناء في المستوطنات على أساس أنه
"جريمة حرب". وعلى الرغم من إن أبو مازن لم يوقع على ميثاق روما، الذي
يعني الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، فأن الكيان الصهيوني تفترض أن هذا ما قد
يحدث في المستقبل، الأمر الذي يعني توفير الأرضية لملاحقة المسؤولين والجنرالات
الصهاينة في العالم بوصفهم مجرمي حرب. إلى جانب ذلك، فأن الكيان الصهيوني يعي أن
نجاح التحرك الدبلوماسي الفلسطيني والمصالحة سيؤدي إلى حدوث مزيد من التدهور على
مكانة الكيان الصهيوني الدولية، مع العلم أن التحولات السلبية على مكانة الكيان
الصهيوني الدولية، تثير قلقاً كبيراً في دوائر صنع القرار في تل أبيب.
إن مسارعة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو لوقف
المفاوضات مع السلطة في أعقاب المصالحة، وتحميله الجانب الفلسطيني المسؤولية عن
فشل مشروع التسوية السياسية للصراع يمثل استخفافاً بوعي العالم، حيث أن المفاوضات
فشلت قبل اتفاق المصالحة بكثير بسبب مواقفه المتطرفة التي لا يمكن على أساسها
التوصل لاتفاق تسوية ينهي الصراع. لقد بنت حكومة نتنياهو في أقل من عامين 8662
وحدة سكنية في المستوطنات في أرجاء الضفة الغربية، دون الحديث عن المستوطنات في
القدس، علاوة على أن حكومته أعلنت مخططاً لبناء 6183 وحدة سكنية جديدة. ليس هذا
فحسب، بل أن نتنياهو يرفض بإصرار البحث في قضايا الحل الدائم، بل ووصل به الأمر
إلى حسمها حتى قبل أن يتم الشروع في المباحثات بشأنها. فعلى سبيل المثال، أعلن
نتنياهو أنه لا يمكن أن يوافق على تفكيك ولا اية مستوطنة واحدة في الضفة الغربية،
ولن يسمح بإخلاء مستوطن يهودي واحد من بيته. ناهيك عن كون نتنياهو هو الذي بادر
إلى وقف المفاوضات.
يمكن تفهم حالة الارتياح الكبيرة التي عمت عموم الشعب
الفلسطيني، سيما في الضفة الغربية وقطاع غزة في أعقاب التوصل لاتفاق المصالحة بين
حركتي فتح وحماس. فالفلسطينيون يأملون أن يسفر تطبيق الاتفاق إلى تحول جذري في
شؤون حياتهم. في الوقت ذاته، فأن هناك ما يدلل على أن قيادة السلطة مقتنعة بأهمية
تحقيق المصالحة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: إلى أي حد يمكنها أن تذهب في التصدي
للموقف الصهيوني وتحمل تبعاته.
هناك سبيل واحد ووحيد لضمان نجاح المصالحة هو أن تستعد
قيادة السلطة لخوض معركة نضالية حقيقية في مواجهة الصهاينة، وهذا شرط نجاح
المصالحة الأساسي.
فهل تتحمل هذه القيادة ما يترتب على ذلك من مسؤوليات
وأعباء؟
دعونا نتفاءل بدون المقارنة مع تجارب الماضي.