فتنة الأبناء
لما خلق الله الدنيا
حفها بالاختبارات الصعبة القاسية على النفوس كي تكون ثمنا للفوز بالجنة إن تجاوزها المسلم بنجاح، و إن لم يتجاوزها كانت
فيها هلكته، وقد قال تعالى : }فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن
الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى{ .
ومن هذه الإختبارات
الدنيوية اختبار شهوة حب الأبناء، فالله قد فطر الإنسان على حب أولاده كما فطره على
حب المال و شهوات الدنيا بدليل قوله : }زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ{، وهذا الحب
الفطري شيء إيجابي كي تستمر و تستديم الحياة، ولكن إذا تجاوزت الشهوة الحد المسموح
به كان سببا في هلاك المرء، كشهوة حب المال، فطالما يؤدى صاحبه حق الله فيه و
يستخدمه في طاعته فهو شيء محمود، و إذا لم يؤد حق الله فيه و يستخدمه في معصيته
فهو وبال عليه .
وقد ظهرت بعض مظاهر
الوهن و تقديم الدنيا على الآخرة في البيوت المسلمة بسبب تلك الشهوة، فهذا يخاف أن
يسلك طريقه طريق الإستقامة خشية الأذى الأمني، و آخر يؤثر شهادة فانية على اهتمام
ولده بتعلم دينه، و ثالثة لا توقظ ابنها
لصلاة الفجر خوفا من أن يفقد تركيزه في المدرسة، ورابع يتوعد ابنه بالسخط عليه أن
نفر للجهاد و ذب عن الدين.
ولانتشار الظاهرة و
استفحالها قد وضعنا بعض الإشارات كي تنير لنا الطريق، كي لا نجد قلوبنا قد تملكها
الوهن من حيث لا ندري، أو حبنا للدنيا و تفضيلها على الآخرة جعلنا نجرد الدين من
معاني البذل و العطاء و التضحية .
1- ابتلاء
حب الأبناء :
كما ذكرنا سالفا أن
الله جعل حب الإنسان لأبناءه فطريا، غير
مكتسبا، و وقد وضع الله اختبارا لهذه الشهوة في قوله }قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم
وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من اللّه ورسوله
وجهاد في سبيله فتربصوا{ أي إن كانت كل هذه الأشياء من متاع الحياة
الدنيا أحب اليكم من الله و لا تستطيعوا التضحية بها من أجل الله و دينه فانتظروا
ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله.
على الرغم من شدة الاختبار و قسوته على قلب الإنسان، إلا أن الله جعل
إيثار حب الأبناء على نصرة دينه مهلكة للمرء، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه
وسلم من تلك الشهوة قائلا : "
الولد مبخلة مجبنة" أي سبب لجبن الأب عن و البذل و التضحية، و مبخلة
عن بذل المال بسبب انشغاله بتحصيل المال له.
وقد أشار الله في
كتابه في موضع آخر محذرا من ذلك الاختبار : }واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله
عنده أجر عظيم { .. فقد حذر الله المؤمنين في هذه الآية من
فتنة حب الأبناء، فأمر
المسلم بالحذر منهم أن يوقعوه فيما لا يرضي الله.
2 -
الإيمان بالقضاء و القدر :
يقول
الله عز وجل في كتابه: }وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا { .. قال القرطبي في تفسيره للآية هذا حض
على الجهاد، وإعلام أن الموت لا بد منه وأن كل إنسان مقتول أو غير مقتول ميت إذا
بلغ أجله المكتوب له .. وأجل الموت هو الوقت الذي في معلومه سبحانه، أن روح الحي
تفارق جسده، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله،
ولا يصح
أن يقال : لو لم يقتل لعاش .
فكلام القرطبي به
إشارة لعلاج مشكلة إيثار حب الأبناء على الآخرة ألا وهي الإيمان بقضاء الله و أن
لكل نفس ميعاد كتبه الله لها لتموت، فمن استشهد في المعركة كان سيأتيه الموت إن
كان على سريره، و الذي لم يقدر له الموت لو دخل مائة معركة ما سيموت إلا في ميعاده
الذي كتبه الله له، فمنعك ولدك عن الجهاد لا يطيل في عمره، و عدم إيقاظك إياه
لصلاة الفجر من أجل المذاكرة ما سيزيد من
رزقه ولا أجله، وقد قال الحسن "إن
الله خلق خلقًا، فخلقهم بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم أرزاقهم بقدر، والبلاء
والعافية بقدر".
ورضي الله عن ابن
عباس حين قال "كل شيء
بقدر حتى وضْعُكَ يَدَكَ على خدك" .
3 - درب
الصالحين قبلنا
في يوم نادى المنادي أن هبي جيوش الإسلام
للدفاع عن الدين والعقيدة ونشر الإسلام في موقعة القادسية، فجمعت أولادها الأربعة
وقالت لهم: «يا بني إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو
رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم
ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب
الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل: }يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا
واتقوا الله لعلكم تفلحون{ فإذا
أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على
أعدائه مستنصرين، وإذا رأيت الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وحللت
نارًا على أوراقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم
والكرامة في داخل الخلد والمقامة».
فلما وصل إليها نبأ استشهادهم جميعًا قالت:
الحمد الله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
هكذا كانت النساء اللاتي أرادن حرث الآخرة،
وتغلبت على شهواتها وحب الدنيا من أجل الله، علموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو
وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، وعلموا أن الله عنده حسن المآب ـ شتان بينها
وبين من تمنع ابنها من صلاة الفجر في المسجد لخوفها عليه، أو بمن كان فرحها
بالشهادة العلمية أكبر بكثير من فرحها باستقامة ولدها!!
4 - حين
أدرك غير المسلمين الحقيقة
قال جان جاك روسو في كتابه «تربية الطفل من
المهد إلى الرشد» : «إن المرء ينبغي أن يصون طفله، وهذا لا يكفي،
بل ينبغي أن نعلمه كيف يصون نفسه حين يضحى رجلاً، وكيف يحتمل ضربات القدر وكيف
يواجه البؤس والنعيم، وكيف يعيش إن اقتضى الأمر في الزمهرير والقيظ... فما من
الموت مفر إن واجبك أن تعلمه كيف يعيش لا كيف يتحاشى الموت، والحياة ليست نفسًا
يتردد بل هي نشاط واستخدام للجوارح والوظائف الحيوية من سائر عناصر كياننا، وليس
أعظم الناس نصيبًا من الحياة من سلخ فيها سنوات أطول، بل من مارسها أكثر من سواه.
والله أصابتني الصدمة حين قرأت هذا الكلام، و
ظننته قد خرج من فم إنسان مسلم، و صدمت مرة ثانية حين قارنت ما قاله بحال كثير من
المسلمين الآن .
و أخيرا
وليس آخرا ..
قال الله تعالى : }بل تؤثرون الحياة الدنيا والأخرة خير و
أبقى{ ، فالمؤمن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود ..
و لا يؤثر الفاني على الباقي، فلا تبع لذة سويعات براحة الأبد .. واطمئن .. فكل من
عليها فان .