توجه عباس للأمم المتحدة: ما بين التكتيك والإستراتيجية
كما كان متوقعاً فقد عمدت "إسرائيل" إلى توظيف
روافع الضغط المعهودة لابتزاز قيادة السلطة وردعها عن التفكير بتجاوز المسموح به
صهيونياً، لذا لم تتردد "إسرائيل" بالمس بالمصالح الاقتصادية بقوى
مرتبطة بالسلطة الفلسطينية رداً على قرار التوجه لمؤسسات الأمم المتحدة. لقد أقدمت
"إسرائيل" على الغاء قرارها السابق بالسماح لشركة "الوطنية
للاتصالات" بالشروع في تدشين بنية تحتية لها في قطاع غزة، كأول قرار اقتصادي
رداً على قرار التوجه للأمم المتحدة. بكل تأكيد قائمة العقوبات الصهيونية ستكون
طويلة، وهناك ما يدفع للاعتقاد أن العقوبات ستكون متدرجة بحيث تتوقف عندما تحقق
هدفها في إجبار قيادة السلطة على إيقاف تحركها. ومنذ الآن يمكن أن نحكم على طابع
هذه العقوبات، فهي ستحرص على المس على المصالح الشخصية والاقتصادية للقوى التي
تدير شؤون السلطة أو تتعرض لمصالح النخب المرتبطة بها. فعلى سبيل المثال، ليس من
المستبعد أن تتوجه "إسرائيل" لوقف العمل ببطاقات "VIP"، التي
تتيح لقادة السلطة حرية الحركة داخل الضفة الغربية و"إسرائيل" واستخدام
مطار "بن غوريون"، علاوة على التأثير سلباً على سير المشاريع التي يعكف
على تدشينها رؤوس أموال على علاقة قرابة أو شراكة مع قيادات في السلطة الفلسطينية.
للأسف أن اعتماد "إسرائيل" على هذا الأسلوب جاء لأن قادة الكيان
الصهيوني يرون أن قيادات السلطة ستأخذ بعين الاعتبار مصالحها الشخصية والقطاعية،
وأن هذا ما سيدفعها لإبداء المرونة في النهاية. لكن مما لا شك فيه أن أخطر الخطوات
التي يمكن أن تقدم عليها "إسرائيل" رداً على قرارات عباس هي تلك
المتعلقة بتكثيف الاستيطان وتغيير الواقع القانوني للضفة الغربية. فقد طالب وزراء
ونواب في حزب "الليكود" رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالمبادرة إلى
إحداث طفرة هائلة في المشاريع الاستيطانية التهويدية في الضفة والغربية وإصدار
عطاءات لبناء آلاف الوحدات السكنية على عجل. وقد دعا قادة الليكود بشكل خاص إلى
استئناف العمل في مشروع "E1" الاستيطاني التهويدي، الذي يربط
مستوطنة "معاليه أدوميم" بالقدس، وهو المشروع الذي سيؤدي إلى فصل جنوب
الضفة الغربية عن شمالها، مما يعني أن أية دولة فلسطينية ستقام في الضفة لن تحظى
بتواصل جغرافي بين مناطقها. إن أخطر الخطوات التي يمكن أن يقدم عليها نتنياهو هي
الاستجابة لقادة حزبه الذين يطالبونه بالإعلان عن فرض السيادة الإسرائيلية على
المستوطنات المقامة في الضفة الغريبة، على اعتبار أن مثل هذه الخطوة تمثل تغييراً
كاسحاً للواقع القانوني في الضفة الغربية.
"إسرائيل" في موقف ضعف
من المفارقة، أنه على الرغم من "إسرائيل"
تحاول توظيف العقوبات كآلية ردع في مواجهة السلطة، فأن هذا يعكس في الواقع ضعف
الموقف الإسرائيلي في مواجهة السلطة في حال قررت قيادتها أن تسلك مساراً نضالياً
جدياً وليس من باب المناورة، حتى لو كان هذا المسار دبلوماسياً. تعي إسرائيل قبل
غيرها أن الخطوات التي أقدمت عليها قيادة السلطة يمكن أن تفضي إلى إشعال البيئة
الأمنية في الضفة الغربية، وهذا آخر ما تبحث عنه القيادة الإسرائيلية. إن إسرائيل
التي تواجه العديد من الجبهات المشتعلة على نار هادئة في الجولان وسيناء وغزة،
علاوة على التداعيات المحتملة لتواصل البرنامج النووي الإيراني، تعي أن تفجر جبهة
الضفة الغربية سيقلص من قدرتها على احتواء هذه الجبهات، سيما في حال تحقق
سيناريوهات الرعب التي تخشاها تل أبيب، سيما على صعيد الجبهة السورية. في الوقت
ذاته، فأن إسرائيل تعي أيضاً أن قبول "فلسطين" في محكمة الجنايات
الدولية يمكن أن تكون له آثار بعيدة المدى، حيث بإمكان السلطة رفع دعاوى بارتكاب
جرائم حرب ضد قادة إسرائيل. وبالمناسبة، فقد توسعت مندوبة الولايات المتحدة في
الأمم المتحدة سامنتا فاور في شرح التداعيات "الخطيرة" لانضمام فلسطين
لمحكمة الجنايات الدولية. في الوقت ذاته تدرك إسرائيل حجم تراجع الكبير الحاصل على
مكانتها الدولية، والذي عكسته حجم الاستجابة الكبير لحركة المقاطعة الدولية لها(BDS). من هنا،
فهي غير معنية أن تمنح هذه الحركة الوقود عبر تفجير المواجهات في الضفة الغربية،
سيما عندما تنقل شاشات التلفزة العاليمة ومواقع التواصل الاجتماعي صور القتلى
والجرحى من المدنيين الفلسطينيين. ومن نافلة القول أن تفجر الأوضاع في الضفة
الغربية لن يخدم التحركات الدبلوماسية المكثفة التي تقوم بها إسرائيل لإقناع الدول
العظمى مواقفها بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني، مع العلم إن هذه الدول تعكف
حالياً على التفاوض مع إيران في جنيف بشأن مستقبل برنامجها النووي.
واشنطن في أزمة
ليست فقط إسرائيل في ورطة، بل أن توجهاً جاداً من قبل
قيادة السلطة يمكن أن يشكل معضلة حقيقية للإدارة الأمريكية. أن قادة الإدارة
الأمريكية يخشون أن يفتح التحرك الفلسطيني المجال أمام تفجر انتفاضة ثالثة، لا
يقتصر تأثيرها على علاقة السلطة بإسرائيل، بل يؤثر على استقرار المنطقة، مما يعني
المس بمصالح الولايات المتحدة. إن آخر ما يمكن أن تسمح به إسرائيل هو تولد بؤرة
جديدة من بؤر التوتر، في ظل ما تواجه من بؤر في مناطق مختلفة من العالم، سيما إثر
تفجر الأزمة الأوكرانية الروسية يمثل بحد ذاته يمثل تحدياً يتطلب تخصيص موارد اقتصادية
سياسية هائلة. وهذا ما يفسر عدم يأس وزير الخارجية الأمريكي جون كيري من محاولات
ثني عباس عن توجهاته.
جدية عباس
إن مصادر القوة الكامنة في تحرك عباس الدبلوماسي كبيرة
وهذا ما يثير خوف الصهاينة، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ما مدى جدية تحرك
عباس وإلى أي مدى يمكن أن يذهب في تحركه؟. للأسف، قياساً على تحربة الماضي، فأنه
يمكن القول أن عباس كثيراً ما خيب آمال المراهنين على خطواته. لكن لو تجاهلنا
خبرات الماضي الصادمة، فأن هناك ما يبعث على القلق تجاه جدية تحرك عباس. فعلى سبيل
المثال، نقلت بعض وسائل الإعلام الصهيونية عن جنرالات صهاينة يلتقون بمسؤولي
الأجهزة الأمنية التابعة بشكل يومي قولهم أن مسؤولي هذه الأجهزة قاموا بطمأنتهم
تجاه نوايا عباس. يعي عباس أنه يتوجب عليه أن نأخذ بعين الاعتبار إمكانية أن تنفجر
الأوضاع في الضفة الغربية بدون تخطيطه، مع كل ما قد يترتب على ذلك من ردود
إسرائيلية، ناهيك على أن هذا السيناريو يعني إسدال الستار على البرنامج السياسي
لعباس بشكل نهائي، مع العلم أن هذا البرنامج قام على المفاوضات كخيار وحيد. ومن
نافلة القول، أن تحرك جدي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ردود فعل إسرائيلية قاسية من
أجل الردع والعقاب. والمفارقة أن كل هذه التطورات تحدث في الوقت الذي يبالغ فيه
الصهاينة بتوجيه الإهانات لعباس شخصيا. ففي أشد الكوابيس قتامة، لم يكن عباس
ليتوقع أن يتعرض لهذا السيل من الإهانات من قبل قادة الكيان الصهيوني، على الرغم
من أن الرئيس الصهيوني شمعون بيريس وصفه بأنه "أكثر الفلسطينيين اعتدالاً، في
حين وصمه وزير القضاء الصهيوني الأسبق يوسي بيلين بالقول:" في حال لم يتم
التوقيع في عهد عباس على تسوية للصراع، فلن يتم التوصل لمثل هذه التسوية في يوم من
الأيام". المفارقة أن "الزعيم" الذين يخلعون عليه كل سمات الاعتدال،
هو الذي السيل من الإهانات. ففي إحدى المقابلات الإذاعية التي أجريت مع وزير
الاقتصاد نفتالي بنات، ثالث أهم وزير في حكومة نتيناهو، والذي يرأس حزب
"البيت اليهودي"، الذي يمثل اليمين المتطرف، ورداً على سؤال وجهته
المذيعة لبنات، حيث قالت: ماذا ستصنع في حال جلست مع أبو مازن في غرفة
مغلقة". فرد عليها بدون تردد قائلاً: سأضمه لحزبي وأطلب منه بعد ذلك إعداد
فنجان من القهوة لي".
إن الاستخفاف الصهيوني الظاهر تجاه عباس يرجع إلى شكوكهم
بشأن جديته وتصميمه وهذا ما يغريهم بمواصلة التعنت والصلف.
أن أحد المظاهر التي تضفي صدقية على رهانات الصهاينة
حقيقة تواصل التعاون الأمني وتعقب المقاومين الفلسطينيين. فلا يمكن أن يخوض عباس
مساراً نضالياً وفي الوقت ذاته يحرص على تأمين إسرائيل أمنياً.