عندما يتحقق سيناريو الرعب الصهيوني في سوريا
بصمت
وبعيداً عن الأضواء تعكف دوائر صنع القرار السياسي في تل أبيب على وضع بدائل للتعامل
مع الرمال المتحركة في الساحة السورية. إن الكيان الصهيوني الذي احتفى بدور النظام
في تدمير مقدرات الدولة السورية وإخراجها عملياً من توازنات القوى في المنطقة، يعيش
حالة من الرعب من سيناريوهات مستقبلية تقوم على افتراض أن الجماعات الإسلامية التي
تقاتل النظام حالياً ستوجه نيرانها لمستوطنات الكيان الواقعة غرب الخط الحدودي في الجولان.
وعلى الرغم من أن بحث الشأن السوري يتم في أضيق نطاق، وضمن اجتماعات ما يعرف بـ
"المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن"، الذي يلتئم عادة في ملاجئ وزارة الحرب
في تل أبيب، فأن الصهاينة غير قادرين على اخفاء حجم احباطهم مما يجري في سوريا حالياً.
يدرك حكام تل أبيب أن سيناريو الفزع الذي أمنوه على الجبهة السورية، على مدى عقود بات
يتحقق أمام ناظريهم حالياً. ويعي هؤلاء أن الظروف التي تحكم تأثير الجبهة السورية على
"إسرائيل" لا تتعلق بنوايا نظام الأسد أو حتى بنوايا قوى الثورة المسلحة
التي تقاتله، بل يتعلق الأمر بشكل أساسي بالمنطق
الذي يحكم الصراع بين الجانبين. ففي حادثة هي الأولى من نوعها منذ عقود يصاب أربعة
ضباط صهاينة، من بينهم ضابط كبير بجراح بالغة في تفجير عبوة ناسفة على الحدود، دون
أن تتمكن "إسرائيل" من تحديد هوية الطرف الذي قام بالعملية. لكن "إسرائيل"
تحاول الاستفادة من تجربتها الطويلة مع النظام السوري من أجل درء المخاطر الناجمة عن
التطورات التي تشهدها الحدود على "أمنها القومي"، من خلال إدراكها أن النظام
السوري هو أكثر أطراف المعادلة قابلية للردع، مما يستوجب مراكمة الردع ضده لكي تكون
له مصلحة لضبط الحدود، على الرغم مما يواجه من تحديات وجوديه. وهذا ما فسر قيام
"إسرائيل" بعمليات القصف التي شملت مواقع جيش النظام في "القنيطرة"
ومحيطها. إن "إسرائيل" معنية بتحقيق الردع عبر الإيلام، لكن دون أن يقود
السلوك "الإسرائيلي" إلى المس بقدرة النظام على الصمود في مواجهة خصومه الداخليين.
إن آخر ما تفكر فيه القيادة "الإسرائيلية" هو أن تسفر عملياتها ضد نظام الأسد
إلى إضعافه في مواجهة قوى الثورة المسلحة. أن مصلحة تل أبيب تقتضي استمرار حالة عدم
الحسم في سوريا إلى أطول أجل ممكن، على اعتبار أن هذا السيناريو يقلص فرص قيام القوى
السورية التي تقاتل الأسد بتوجيه سلاحها صوب المستوطنات اليهودية في هضبة الجولان.
صحيح أن "إسرائيل" تفضل أن ينتهي الصراع القائم حالياً إلى تقسيم سوريا إلى
كانتونات، لكن بشرط أن يستعيد نظام الأسد السيطرة على كل مناطق هضبة الجولان التي تقع
تحت السيادة السورية وينتزعها من الثوار، لأنها تدرك أن النظام فقط هو الذي سيكون صاحب
مصلحة في ضبط الحدود لأن كل ما يعنيه هو الحفاظ على بقائه. أن صناع القرار في تل أبيب
يفضلون إبقاء نظام الأسد على كل الخيارات الأخرى، على اعتبار أن نظام عائلة الأسد ضمن
الهدوء على الحدود لأكثر من أربعة عقود.
بين النظام وخصومه
إن
الإستراتيجيين والمستشرقين الصهاينة لا يقبلون الحجة التي ترجح أن حزب الله بالتواطؤ
مع النظام، هو المسؤول عن عمليات التفجير على الحدود، ويقولون أن نظام الأسد الذي حافظ
على الهدوء على الحدود مع إسرائيل طوال 40 عاماً لا يمكن أن يسمح لحليفه حزب الله أن
يشعل الحدود في الوقت الذي يمر فيه النظام في أضعف أوقاته. وفي الوقت ذاته، فأن هؤلاء
يرون أن حزب الله نفسه لا يمكن أن يفكر بفتح مواجهة مع "إسرائيل" في الوقت
الذي يتوزع الآلاف من عناصره على جبهات القتال المختلفة داخل سوريا لمساندة النظام.
وترى محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب أن المنطق الذي يوجه "الجهاديين"
في عملياتهم ضد "إسرائيل" هو رغبتهم في توريط النظام وحزب الله في مواجهة
مع "إسرائيل" يستفيدون هم منها. ولا يساور الإستراتيجيون الصهاينة الشك بأنه
على الرغم من انجازات حزب الله في "القلمون" مؤخراً، فأن الصورة العامة تعكس
ضعف وتراجع متواصل للنظام، كما يقول المستشرق الصهيوني يارون فريدمان. أن المستشرقين
والمعلقين الإستراتيجيين لم يتفقوا على شئ كما اتفقوا على انتقاد قيادة الجيش الإسرائيلي
بعد قصف مواقع الجيش السوري، حيث اعتبروا أن استهداف الجيش السوري يتناقض مع مصالح
"إسرائيل" التي تفضل بقاء على الأسد على انتصار "الجهاديين".
تعديل العقيدة الأمنية
إن
النخب الصهيونية، سيما تلك المسؤولة عن تقديم التقديرات الإستراتيجية باتت تدرك أن
التحولات التي شهدتها سوريا منذ تفجر الثورة باتت تفرض على الكيان الصهيوني إعادة بناء
عقيدته الأمنية في كل ما يتعلق بسوريا بشكل جارف، على اعتبار أن ما كان يصلح من بنود
في هذه العقيدة لم يعد يصلح بعد تفجر الثورة وامتداد القتال بين النظام وخصومه إلى
الحدود مع هذا الكيان. وكما ترى محافل التقدير الإستراتيجي فأن إسرائيل مطالبة أن تأخذ
بعين الاعتبار حقيقة أن الهدوء على الحدود السورية لن يعود إلى سابق عهده، حتى بعد
أن قام الجيش "الإسرائيلي" ببناء جدار على طول الحدود مع سوريا، على اعتبار
أن هذه الخطوة لا تكفي للتعامل مع الواقع الجديد. إن المنطق الإستراتيجي الذي يحكم
الداعين لإعادة بناء العقيدة الأمنية يقوم على أن انشغال عشرات الآلاف من الجهاديين
في قتال نظام الأسد، يعني أنه جزءاً ولو بسيطاً منهم سيتفرغ لاستهداف "إسرائيل"
حتى قبل أن يحسم الصراع داخل القطر السوري، وهذا ما يستدعي نسف طرائق العمل والتكتيكات
الميدانية التي ينتهجها الجيش على هذه الجبهة.
حدود الرهان على القوة
لكن
حدود نجاح "إسرائيل" في رهاناتها على تعديل عقيدتها الأمنية تبدو متواضعة،
سيما في حال أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أن هناك جبهات متفجرة أخرى في قطاع غزة وفي
سيناء، علاوة على عدم اطمئنان تل أبيب إلى الأوضاع في مصر، وتحديداً في سيناء، رغم
مظاهر التحالف الوثيقة بينها وبين سلطة الانقلاب والتي تتكشف يوماً بعد يوم. ومما لا
شك فيه أن العامل الطبوغرافي والجيواستراتيجي لسوريا يلعب دوراً مهماً في إذكاء المخاوف
الصهيونية. إن طبيعة التضاريس في المنطقة الممتدة الحدود السورية الفلسطينية وحتى تخوم
مدينة دمشق تثير مخاوف الصهاينة بسبب ارتفاعها وإشرافها على الساحل الفلسطيني، حيث
تنتظم المدن الصهيونية الكبرى والمرافق الصناعية والعسكرية التي يقوم عليها الكيان،
وبالتالي فأن استهداف هذه المرافق الحيوية سيترك آثاراً هائلة على الواقع الأمني والاقتصادي،
وسيمس بقدرة الصهاينة في هذه المنطقة على الصمود والبقاء. إن ما يضاعف الإحباط لدى
صناع القرار في تل أبيب هو إدراكها بأن قدرتها على ردع الحركات والجماعات التي تقاتل
نطام الأسد محدودة جداً، وهذا ما يستدعي استثمارها طاقات كبيرة ويضطرها للعمل داخل
سوريا بشكل مكثف وفي ظروف صعبة، مع العلم أن حدود قدرتها على العمل داخل سوريا لا تتوقف
على الجانب العملياتي والقدرات العسكرية، بل بشكل أساسي على الظروف السياسية والإقليمية،
وهي ظروف قابلة للتغير في كل وقت.