ماذا يعني فرض السيادة "الإسرائيلية" على المسجد الأقصى؟
يمكن
القول إن الصهاينة انتقلوا بالفعل من ترف التطرف إلى جنونه، وهم يصرون على إحراج قيادة
السلطة الفلسطينية ومن خلفها النظام الرسمي العربي الذي يؤازرها. لو كان الأمر متاحاً،
لكان من الأهمية الإطلاع على ما يدور في خلد قادة السلطة الفلسطينية والقائمين على
أنظمة الحكم في العالم العربي التي تدعمها في مشروع التفاوض وهم يتابعون الجدل الذي
دار في الكنيست الصهيوني الأسبوع الماضي، عندما ناقشت مشروع قانون يلزم الحكومة الصهيونية
بتطبيق السيادة "الإسرائيلية" على المسجد الأقصى. لقد من الصعوبة بمكان على
المرء أن يتوقع أن تصل الأمور إلى حد أن نواب حزب "الليكود" الحاكم، الذي
يقوده نتنياهو يطرحون مشروع قانون يحظى بدعم أغلبية نواب الكنيست، والذي يعني عملياً
إخضاع المسجد الأقصى لوزارة الأديان الصهيونية وتقاسم مواعيد الصلاة فيه بين المسلمين
واليهود، على أن يكون السماح للمسلمين بالصلاة فيه تبعاً لـ "حسن السير والسلوك"،
كما تراه الشرطة الصهيونية. لم يعد المرء قادراً على الإحاطة بكل تفاصيل المشهد السريالي
التي تعيشه القضية الوطنية الفلسطينية في ظل المفاوضات التي تديرها قيادة السلطة الفلسطينية
مع "إسرائيل". فإن كان هؤلاء يبشروننا بأن النتيجة التي ستفضي إليها المفاوضات
هي تدشين "دولة" فلسطينية على حدود العام 1967، فأن ما لا يدركه المفاوض
الفلسطيني وظهيره العربي أن النخب السياسية الصهيونية ببساطة معنية بتعرية معسكر الاعتدال
العربي عبر تبني هذه المواقف الموغلة في التطرف والتشدد. لقد تبين بالدليل القاطع أن
كلاً من السلطة الفلسطينية والأردن بذلا جهوداً "مضنية"، كما وصفت ذلك محافل
سياسية صهيونية، من أجل إقناع رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو بالتدخل لعدم
طرح موضوع "فرض السيادة" اليهودية على المسجد الأقصى، وهناك أساس للاعتقاد
أن نتنياهو لا يحبذ طرح الموضوع لإدراكه حساسيته، لكن نتنياهو فشل بكل بساطة. لقد أخفق
نتنياهو في منع طرح الموضوع لأن وزراء ونواب حزبه باتوا يدركون بوصلة التوجهات العامة
للمجتمع الصهيوني، الذي ينجرف بجنون نحو التطرف، فما كان منهم ألا أن تساوقوا مع هذه
التوجهات، مع إدراكهم خطورتها. وإلا كيف يمكن أن يفسر المرء أن تتجرأ النائب الليكودية
الجنرال ميري ريغف على سب المسلمين ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم من على منبر الكنيست،
عندما وصفت المسلمين الذي يرتادون المسجد الأقصى بأنهم "حيوانات محمد". أن
ريغف هذه علمانية، ولا تحركها نزعات دينية، لكنها في المقابل تدرك أنه عبر مثل هذا
السلوك المريض بإمكانها أن تضمن مقعدها في البرلمان القادم ويمكن أن تصبح وزيرة أيضاً.
فتح
شهية غلاة المتطرفين الصهاينة
هناك
أساس للاعتقاد أن نتنياهو سيوظف كل ما لديه من ثقل من أجل إحباط تمرير مشروع القانون،
على الرغم من أنه يحظى بدعم أغلبية النواب، وعلى الرغم من أن فرص نجاح نتنياهو في مسعاه
هذا تبدو محدودة، إلا أنه حتى لو تمكن من ذلك، فأن مجرد طرح موضوع تطبيق السيادة الإسرائيلية
علىى المسجد الأقصى في الكنيست قد أوجد واقعاً جديداً بالنسبة للحرم القدسي الشريف،
وسيؤثر الأمر على مستقبل السلوك الصهيوني تجاهه. وهذا ما عبر عنه نواب الائتلاف الحاكم
في الكنيست، الذين أكدوا أنهم سيحرصون على تكريس وقائع جديدة في كل ما يتعلق بعلاقة
اليهود بالمسجد الأقصى، عبر تكثيف عمليات الاقتحام وأداء الصلوات في داخله، علاوة على
أنهم حصلوا على تعهدات من قيادة الشرطة الصهيونية باستخدام أقصى قدر من القوة لتفريق
المسلمين الذين يتصدون لقطعان المستوطنين وهم يجتاحون الحرم. وضمن التطورات التي ستنجم
عن طرح مشروع القانون في الكنيست، تكثيف تنظيم زيارات طلاب المدارس اليهودية للمسجد
الأقصى( لا يعترف الصهاينة بأن الحرم القدسي مسجد، ويطلقون عليه "جبل الهيكل"،
بزعم أن الهيكل يقع أسفل قبة الصخرة، ويعتبرنه يمثل "قدس الأقداس" لليهودية).
التطهير
الديموغرافي
إن
هناك حقيقة بالغة الخطورة تكمن في حقيقة أن بحث فرض السيادة "الإسرائيلية"
على المسجد الأقصى تأتي في ظل توجه "إسرائيل" تتجه إلى استكمال تطهير القدس
"ديموغرافياً" من الفلسطينيين بعد أن انجزت بالفعل تهويد المدينة المقدسة.
أن المشاريع الاستيطانية التي تنفذها "إسرائيل" في القدس ومحيطها باتت تهدف
إلى إخراج التجمعات السكانية الفلسطينية إلى خارج حدود القدس، إلى جانب ربط التجمعات
الاستيطانية اليهودية المحيطة المدينة وببقية المدن "الإسرائيلية. وتواصل
"إسرائيل" مشروع "E1"،
الذي يعد المشروع "التهويدي الأخطر"، والذي يهدف إلى إخراج بلدة "العيسوية"،
التي تمثل ثقلاً ديموغرافياً فلسطينياً كبيراً من دائرة القدس وإلحاقها بالضفة الغربية،
وفي الوقت ذاته يهدف إلى ربط "معاليه أدوميم" كبرى مستوطنات الضفة الغربية
بالقدس الغربية. ومما يعد مفارقة ذات دلالة هو أن إدارة الرئيس الجمهوري بوش لم تسمح
لإسرائيل بالبناء في مشروع ""E1، لإدراكها خطورته، في حين إن إدارة الرئيس أوباما
لم تحرك ساكناً لمنع "إسرائيل" من الشروع في تدشين المشروع، المعد لاستيعاب
آلاف العائلات اليهودية. ومن أجل توفير الظروف أمام تواصل المشروع التهويدي الخطير،
فأن "الإسرائيلي" يستعد لطرد ما تبقى من عائلات بدوية تقطن في محيط الأرض
المقام عليها مشروع "E1"،
تمهيداً لاستئناف البناء فيه بقوة. إن "إسرائيل" لا تنوي فقط إخراج بلدة
العيسوية فقط، بل تعد العدة ايضاً لإخراج مناطق أخرها، من بينها شعفاط و صور باهر وطوبا،
حيث أن رئيس الوزراء "الإسرائيلي" السابق إيهود أولمرت تحدث عن هذا المخطط بشكل صريح وواضح. ومن نافلة القول أن "إسرائيل"
لا تكتفي فقط بتوظيف المشاريع الاستيطانية في التخلص من الثقل الديموغرافي للفلسطينيين
المقدسيين، بل تلجأ إلى حرب اقتصادية اجتماعية لدفعهم لمغادرة المدينة. فكلاً من حكومة
الاحتلال وبلديتها في المدينة المقدسة تلجأ بشكل ممنهج إلى حرمان المقدسيين من هوياتهم
وتقييد حرية حركتهم وفرض الضرائب الباهظة عليهم من أجل إجبارهم على مغادرة المدينة.
وتدأـب "إسرائيل" في الوقت ذاته
على تحويل المستوطنات المحيطة بالقدس إلى حواضر مهمة جاذبة للمهاجرين اليهود، حيث أن
مساحة مستوطنة "معاليه أدوميم"، التي تقع شمال شرق المدينة باتت تفوق مساحة
مدينة "تل أبيب"، التي توصف بأنها أكبر مدينة يهودية في "إسرائيل".
وضمن ذلك تقدم الإغراءات لليهود للإقامة في محيط القدس عبر المحفزات الاقتصادية. فعلى
سبيل المثال تعكف "إسرائيل" حالياً على تحويل "ميشور أدوميم"،
المنطقة الصناعية التابعة لمستوطنة "معاليه أدوميم"، إلى أكبر منطقة صناعية
في "إسرائيل" كلها، وهذا أحد الأسباب التي تدفع إسرائيل للاحتفاظ بمنطقة
"غور الأردن" يرجع بشكل خاص إلى الحاجة إلى احتياطي الأراضي الذي توفره
"الأغوار" في تطوير هذه المنطقة.
مؤشرات
تواطؤ
إن
ما يمكن استنتاجه من طرح موضوع فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى هو أن الصهاينة
يوظفون المفاوضات في تكريس حقائق جديدة على أرض الواقع، دون أن تخشى تل أبيب خسارة
أي من منجزاتها من المفاوضات. فعلى الرغم من السلوك الصهيوني فأن السلطة الفلسطينية
تعلن صباحاً مساء التزامها بمواصلة التعاون الأمني مع الاحتلال، وهذا يقلص ردة الفعل
الفلسطينية الجماهيرية، المتوقعة على السلوك الصهيوني. فالأجهزة الأمنية التابعة للسلطة
الفلسطينية تتولى التصدي للفلسطينيين الذين ينظمون احتجاجات ضد العدوان المتواصل على
المسجد الأقصى. بكلمات أخرى، إسرائيل تتحرك بخطى ثابتة وإصرار، في حين يقدم الجانب
الفلسطيني كل المسوغات لإسرائيل لمواصلة فرض الحقائق على الأرض وتحدي مشاعر المسلمين
في جميع أرجاء العالم. لكن ما يثير الريبة والشك هو حقيقة أن الاستخفاف الرسمي الفلسطيني
والعربي بما يتعرض له المسجد الأقصى ينبع من تواطؤ شامل تجاه مصير القدس بأسرها، ولا
يتعلق الأمر بالمسجد الأقصى. فعلى سبيل المثال كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق
إيهود أولمرت أن رئيس السلطة محمود عباس وافق على أن تكون العاصمة الفلسطينية في القدس
تحت الإشراف الإسرائيلي. وفي ذات السياق يتعاطى عباس مع خطة كيري، على الرغم من أنا
تقترحه هذه الخطة عملياً هو الإعلان عن إحدى البلدات الفلسطينية المحيطة بالقدس كعاصمة
للدولة العتيدة، مثل "شعفاط" أو "أبو ديس"، أي أن عباس مستعد للتنازل
عن القدس الشرقية التي تحتضن المسجد الأقصى.
قصارى
القول، القدس تتعرض لمؤامرة كبرى، وهناك أهمية كبيرة لتحرك عربي جماهيري يظهر للصهاينة
خطورة ما يقدمون عليه. قلت تحرك "جماهيري" لأنه لا أمل في تحرك رسمي حقيقي
حتى لو تداعت الجامعة العبرية للانعقاد.