الخط العربي فنّ راقٍ يجمع بين الجمال والهندسة والدلالة اللغوية، يعكس الحضارة الإسلامية، ويُظهر المعاني الروحية والثقافية، متجذرًا في التاريخ، متنوعًا في أشكاله، ووسيلة للتواصل والإبداع والارتقاء الفكري والجمالي عبر العصور.
الخط لغةً:
الخط مشتق من الجذر الثلاثي: خطط. وفي لسان العرب: هو الطريقة المستطيلة في الشيء
والجمع خطوط، والخط: الطريق، يقال: اتِّبع ذلك الخط، ولا تظلم عنه شيئًا. وخط
القلم: أي كتبَ. وخط الشيء: كتبه بقلم غيره. والخَط: اسم، والجمع الخطوط، والخط:
السَّطر، والخط: الكتابة ونحوها مما يُخطّ باليد، والخط كل مكانٍ يخطّه الإنسان
لنفْسِه ويحفره، وهو الطريق المستطيل، وهو كل ما لَهُ طُول.
ويعرّف ابن خلدون في مقدمته الخط بقوله:
«إنه
رَسْم وأشكال حرفية تدلّ على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، فهو ثاني
رتبة من الدلالة اللغوية، وهو صناعة شريفة؛ إذ الكتابة من خواص الإنسان التي
يُميَّز بها عن الحيوان، وأيضًا فهي تُطْلِع على ما في الضمائر، وتتأدَّى بها
الأغراض إلى البلد البعيد، فتُقضَى الحاجات».
والخط والكتابة والتحرير والرقم والسطر بمعنى واحد، وقد يُطلَق الخط على عِلْم
الرمل.
قال القلقشندي صاحب كتاب صبح الأعشى:
«الخط
ما تتعرّف منه صور الحروف المفردة، وأوضاعها وكيفية تركيبها خطًّا».
وقال أمين الدين ياقوت الملكي:
«الخط
هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية، إن جودت قلمك جوَّدت خطك، وإن أهملتَ قلمك أهملتَ
خطك».
أما الخط اصطلاحًا فيُقْصَد به: تصوير اللفظ برسم حروف هجائية بتقدير الابتداء به
والوقوف عليه.
وفَنّ الخط: فنّ تحسين الخطوط وتجويد الكتابة.
والخط كتابةً: تصوير اللفظ بحروف هجائه، وقد تفنَّن العرب في أشكال الخط العربي.
كما عرفت الكتابة: على أنها نقوش مخصوصة دالة على الكلام دلالة اللسان على ما في
الجنان.
والخَطُّ عند الحكماء: ما يَقبل الانقسامَ طُولًا (لا عَرضًا ولا عمقًا) ونهايته
النُّقطة.
الخط في التراث العربي والإسلامي
يبقى الخط العربي، بالرغم من كل التطور في أدوات الكتابة ووسائل التكنولوجيا،
واحدًا من أهم روافد المعرفة الفنية.
فهو ذلك الرسم والشكل الحرفي ذو الدلالة في الكلمات المنطوقة أو المسموعة.
والخط عمومًا: هو فن الكتابة الجميلة التي تُزيّن النص، وتضيف إليه قيمة تأويلية
مميزة. ولقد كان للقرآن الكريم دور أساسي، بل وكل الفضل، في تطور الكتابة العربية،
ومِن ثَمَّ فنّ الخط العربي. كما أن كتابة القرآن بهذا الخط أدَّت إلى إعلاء شأن
هذا الأخير وإجلاله.
فالخط العربي يُعدّ من أجمل خطوط العالم، فهذا الخط البديع باختلاف أنواعه وأشكاله،
قد بهر كلّ مَن شاهَده، حتى وإن لم يكن هذا المُشاهِد يعرف كلمة عربية واحدة، لذا
فلا غرابة أن يصبح الخط العربي من الفنون الإنسانية الراقية التي يهتم بها ويحافظ
عليها أيّ شخص متذوق للفن، على امتداد الكرة الأرضية.
وليس من الغرابة كذلك أن تجد شخصًا في أيّ مكان من العالم، ومن أيّ ديانة، يُعلِّق
في ساحة بيته أو مكتبه لوحة خطية مزخرفة باللغة العربية؛ فقد تحوَّل هذا الخط من
وسيلة للتدوين والتواصل بين البشر، إلى فنّ لا يَحُدّه إقليم أو يخضع لمفاهيم
الانتماءات العرقية والشعوبية والدينية.
والخط العربي لا يُشكِّل أداة لتجسيد اللغة الحاملة للخصائص الحضارية والتاريخية
والنفسية فقط، بل يحمل هذا الخط أيضًا أقدس رسالة اختص بها العرب إلى جميع بني
البشر في الزمان والمكان، وهي آيات القرآن الكريم، وبهذا المعنى أصبح الخط العربي
يتمتع بميزة مقدّسة لم تتوافر لغيره من الخطوط لكل اللغات المتعارف عليها في
العالم، وبهذا المعنى أيضًا اجتهد العرب ليمنحوا الحروف العربية المكانة الأعلى
والمنزلة الأرفع التي نزل بها القرآن العظيم.
فالعرب بعدما تشربوا الإسلام في قلوبهم وأفئدتهم، خرجوا لينشروا النور الرباني في
جَنَبات الأرض ويفتحوا البلاد والأمصار، وهم يحملون لغتهم الأم (العربية) في كل
مكان وصلوا إليه، وهي اللغة التي استطاعت -لخصوبتها وروعتها وبلاغتها- أن تمحو
كثيرًا من اللغات، وأن تحل مكانها، وتصبح لغة الفتوحات والبلدان الإسلامية الجديدة،
ولذلك أصبح الخط العربي هو المستخدَم في هذه الأماكن المفتوحة.
كما أن اللغة العربية وخطها ساهما في تحديد أسلوب التفكير لجميع الشعوب المسلمة إلى
درجة كبيرة، ورَسَما المنحنى الفكري العربي إلى حدّ كبير، وتغلغلا في نفس المسلم
حتى انعكست على فنونه الإبداعية، فالفن التشكيلي في الإسلام ما هو إلا انعكاس
للكلمة القرآنية، ولا شيء يتطابق مع الحس الجمالي الإبداعي للمسلم مثل الكتابة
العربية، فهي تمزج بين أقصى القواعد الهندسية صرامة، وأكثر الإيقاعات نغمية، فاللغة
تتكون عمومًا من الحدث السمعي والحدث التخيلي. واللغة العربية لغة صوتية، بمعنى
أنها ربما كانت من أكثر اللغات تميزًا في هذا الجانب؛ لذا فهي تجريدية في صياغة
أسلوبها.
فمن الحقائق الثابتة أنه منذ نشأة الفن الإسلامي، صاحبت الكتابات والزخارف والرسوم
كل الأبنية (المساجد، والقصور)، والتي جاءت مليئة بالرسوم التشخيصية لكلا الفنين:
الزخرفي المجرد والتشخيصي، واللذين تطورا وشكَّلا عنصرًا أساسيًّا من حضارة الإسلام
وفنونها الجميلة. هذه الزخارف الفنية الإسلامية، التي احتلت أهمية لا نظير لها في
أيّ حضارة أخرى أصبحت العنصر البارز في الفنون الإسلامية، ولمَّا انتشر الخط العربي
وشاع وتنوَّع كان همّ الخطاط المسلم -الفنان- البحث عن تكوين جديد مُبتكَر، يتولّد
من اشتباكات قواطع الزوايا ومزاوجة الأشكال الهندسية، لتحقيق الجمال الرصين الذي
يصبغه على أشكاله الزخرفية أو الخطية.
تاريخ موجز للخط العربي
كتب العرب في مكة بخطّ يُسمَّى المكي، وهو مشتق من الخط النبطي. وبعد هجرة النبي
-صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة في عام 622م استُنْبِطَ خطّ يُسمَّى الخط المدني،
وهو يختلف قليلًا عن الخط المكي.
وبعد تأسيس مدينة الكوفة في عام 638م، ظهر الخط الكوفي الذي يُمثِّل بداية مرحلة
جديدة في تاريخ الخط العربي؛ لأنه كان بداية للتطوير والتحسين والتنوع في الخطوط.
ومع انتشار الإسلام انتشر الخط الكوفي في كلّ البلاد التي فتحها المسلمون، وطبعه كل
قُطْر بطابعه الخاص، فبدأنا نرى الخط الدمشقي أو السوري، والبغدادي أو العراقي أو
المحقّق، والمصري، والقيرواني والأندلسي.
ونُسِبَتْ بعض الخطوط إلى أُسَر حاكمة، مثل الخط الكوفي الفاطمي والأيوبي
والمملوكي، وظل هذا الخط بكل أشكاله هو الذي تُكتَب به المصاحف حتى القرن الرابع
الهجري/ العاشر الميلادي، عندما ظهر ابن مقلة، ومن بعده ابن البواب، وبدأت كتابة
المصاحف بخط النسخ.
وشهد القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي اختفاء الخط الكوفي من كتابة
المصاحف، وإن ظل يُستخدَم في زخرفة المساجد، وكتابة شواهد القبور. وبمرور الزمن
ظهرت أنواع جديدة متطورة من الخطوط؛ مثل النسخ الجديد، والرقعة، والثّلث
والديواني... إلخ.
أقوال عن الخط العربي
في الختام، نُورد هذه المقولات عن الخط العربي:
-«الخط
الحسن يزيد الحق وضوحًا»
(أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-).
-«تجميل
الخط عليك واجب؛ لأنه وسيلة المرء لقُوت يومه»
(وصية من التراث الإسلامي).
-«الخط
هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية تَقْوى بالإدمان وتضعف بالترك»
(ياقوت المستعصمي).
-«الخط
رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، فهو ثاني رتبة
من الدلالة اللغوية وهو صناعة شريفة؛ إذ الكتابة من خواصّ الإنسان التي يُميَّز بها
عن الحيوان...».
(ابن خلدون).
-«من
فضل حُسن الخط: أنه يدعو الناظر إليه إلى أن يقرأه، وإن اشتمل على لفظ مرذول ومعنى
مجهول»
(الصولي).
-«طُلِبَ
في الخط الحُسْن قبل الوضوح»
(ابن مقلة).
- وقيل:
«الخط
هو مزمار المعاني»،
و«إن
العين تستلذ بالنظر إلى الخط الحسن، والأذن تستلذ استماع الآيات».
-«الخط
لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، وسلاح الفكر، وأُنْس الإخوان عند الفُرقة،
ومحادثاتهم على بُعد المسافة، ومستودع السر وديوان الأمور»
(إبراهيم بن محمد الشيباني).
-وقيل:
«الخط
للأمير كمال، وللغني جمال، وللفقير مال».
-وقال بعض العلماء:
«الخط
إذا كان حَسَن الوصف، مليح الرصف، مُفتّح العيون، أملس المتون، كثير الائتلاف، قليل
الاختلاف، هشَّت إليه النفوس واشتهته الأرواح، حتى إن الإنسان ليقرأه وإن كان فيه
كلام دنيء، ومعنى رديء، مستزيدًا منه ولو كثر، من غير سأمٍ يَلحقه ولا ضجر. وإن كان
الخط قبيحًا مجَّته الأفهام، ولفظته العيون والأفكار، وسَئِمَه قارئه وإن كان فيه
من الحكمة عجائبها ومن الألفاظ غرائبها».