الأمثال، فن لغوي أصيل يعكس هوية الأمم ويربط المجرد بالمحسوس، تتجلى بلاغتها الفائقة في القرآن الكريم الذي وظفها ببراعة فائقة لتجسيد الحقائق العميقة وإيقاظ العقول نحو التدبر.
تتفق بعض الشعوب في لغاتها، وقد تتباين في طرق الكلام وأساليب الخطاب، ولكلّ أُمَّة
خصال وسمات معينة في المدح والذم، وقد تتعدد فنون القول بين الأمم وتختلف؛ ولكن يظل
المَثَل مُميّزًا على سائر الفنون؛ بما له من أثر في تقريب المعاني لمفهوم
المُخاطَب بكلمات معدودة ذات معانٍ عديدة.
والمَثَل ظاهرة حضارية تستعمله الشعوب في تعاملاتها، فهو مرآة صادقة تعكس سلوك
الشعوب وأخلاقها وتقاليدها الموروثة، وسمة مميزة لكل أمة من الأمم، فضلًا عن تعبيره
الصادق عن الحسّ والشعور الإنساني في المواقف المختلفة، وهو فوق ذلك يُضْفِي رونقًا
من الجمال يحسّ به السامع في حلاوة الكلام وأثره في تحقيق الدلالة.
وهذه السمة المميزة للمَثَل جعلت العرب أكثر استعمالًا له في الخطب والأشعار وكافة
شؤون الحياة الأخرى، فهم مَن وُصِفُوا بالبلاغة والفصاحة، وكانوا إذا ما ضربوا
مثلًا في أيٍّ من مناسباتهم كالأفراح أو الأحزان أو الحروب أو الغزوات، اشتهر
بينهم، وانتشر في الجزيرة العربية انتشارًا واسعًا، وكثُر استعماله بينهم بحسب
مقتضي الحال.
والقرآن الكريم -معجزة رسول الله الخالدة، والذي تحدَّى العرب بفصاحته، وأعجزهم
بيانه وأسلوبه، ولم يتمكنوا من الإتيان بمثله مع ما اتصفوا به من قبل ومن بعد من
فصاحة اللسان وبلاغة القول-؛ قد أورد الكثير من الأمثال التي تدعوهم -والبشر كافة-
للتدبر والتبصر في معانيها ودلالتها، وكانت قريبة من واقع يعيشونه ومحاكاة لطبيعتهم
وطباعهم حتى يكون لوَقْعِها أثرٌ في نفوسهم؛ فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ﰁ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون
ﭞ
وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ
الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَار} (إبراهيم: 24- 26).
المثل في اللغة
الِمثْل أو المَثَل في اللغة الشِّبْه أو الشَّبَه، والمشهور في الصيغتين المَثَل،
وسُمِّي بالمثل؛ لأن أصل المثل التماثل بين الشيئين في الكلام، ثم جعلوا كلَّ كلمةٍ
سائرةٍ مثلًا.
وتمثَّل بالشيء ضربه مثلًا، وضرب المثل جعله يسير بين الناس، وهو مأخوذ من قولهم
ضرب في الأرض إذا سار فيها[1]،
وفي المعجم الوجيز (الِمثْل) الشَّبه والنظير، (المَثَلُ) جملة من القول مقتطفة من
كلام أو قائمة بذاتها تنقل ممن وردت فيه إلى ما يشابهه دون تغيير، مثل:
«الرائد
لا يَكْذِب أهْلَه»[2].
المثل في الاصطلاح
قَوْلٌ سَائِرٌ يُشَبَّه به حالُ الثاني بالأول. وهذا التعريف يتكوَّن من حالتين
وعلاقة بين الحالتين؛ الحالة الأولى: هي أن يُضرَب بها المثل في الأصل. والحالة
الثانية: هي التي ذُكِرَ فيها المثل مرة أخرى. والعلاقة الحاصلة بين الحالتين هي
الشَّبَه الحاصل بين الحالة الأولى وبين الحالة الثانية.
ويُستعمل المَثَل في الشَّبه والصفة والذات والعبرة والآية، ومن استعماله في
الشَّبه قولهم: مَثُلَ بين يديه، إذا انتصب واقفًا أمامه؛ بحيث إنه أشبه الصورة
المنتصبة، واستعماله في الصفة نحو قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى
عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (الفتح: 29)
أي صفتهم في التوراة وصفتهم في الإنجيل.
واستعمال المَثَل في الذات كقولهم: مِثْلُك لا يفعل ذلك. واستعماله بمعنى العبرة
كما في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ}
(الزخرف: 56)؛ أي: جعلناهم متقدمين يتعظ بهم الغابرون، وعبرة يعتبر بها المتأخرون.
ويكون المثل بمعنى الآية كما في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ
أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} (الزخرف:
59)؛ أي: في صفة عيسى -عليه السلام- الذي جعله الله آية تدل على نبوته[3].
أنواع المثل
ذكر الباحثون للمثل ثلاثة أنواع:
الأول: المثل المُوجَز السائر:
وهو إما شعبي لا يراعي قواعد اللغة، وإما كتابي صادر عن ذوي الثقافة العالية كما في
قولهم: (رُبّ عَجلةٍ تَهَب ريثًا)، وقولهم: (كالمستجير من الرمضاء بالنار).
الثاني: المثل القياسي:
وهو سَرْد وصفي أو قصصي أو صورة بيانية؛ لتوضيح فكرة ما عن طريق التشبيه والتمثيل.
ويسمّيه البلاغيون التمثيل المُركّب، وهو تشبيه شيء بشيء لتقريب المعقول من المحسوس
أو أحد المحسوسين إلى الآخر، أو اعتبار أحدهما بالآخر؛ لغرض التأديب والتهذيب أو
التوضيح والتصوير، وهذا النوع فيه إطناب إذا قُورِنَ بالنوع السابق، وأكثر أمثلته
في القرآن الكريم والحديث الشريف.
الثالث: المثل الخرافي:
وهو حكاية ذات مغزى على لسان الحيوانات لغرض تعليمي، أو فكاهي، أو ما أشبه ذلك، كما
في قولهم على لسان الثور: (أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض)، والمثل الخرافي تنسب
فيه الأحاسيس إلى الحيوانات ويُراد غيرها؛ فهو يرمز إلى شيء ويراد به شيء آخر[4].
ويرى أحد الباحثين أن الأمثال تنقسم إلى قسمين: أمثال واقعية، وأمثال فرضية.
فالواقعية ما انتُزِعَت من واقع الحياة وأعمال الناس كلهم كقولهم: (رَجَع بخُفَّي
حنين)، وهي فلتات من الذهن وفلتات من اللسان تقال عفو الخاطر في شتَّى المناسبات
فتَعْلَق بالذهن؛ لاشتمالها على حكمة أو كلمة أو لدلالتها على طبع أو خُلق، وهي
قلما تسير إلا في الأُمَّة التي نشأت فيها.
والأمثال الفرضية ما افترض الناس وقوعها على ألسنة الحيوانات أو النبات، وهي أمثال
عالمية تتناقلها الأفواه من قبيل إلى قبيل، تتوارثها الأعقاب من جيل إلى جيل،
والغرض المقصود منها تقويم الأخلاق بالحكمة ورياضة النفوس بالموعظة عن طريق التعريض
والرمز.
الأمثال في القرآن الكريم
والمُتتبّع لآيات القرآن الكريم يجد أن كلمة (مَثَل)، ومشتقاتها قد وردت في كتاب
الله -تعالى- مائة وثلاثًا وستين مرة في سور متفرقة منه على التفصيل التالي[5]؛
فقد وردت كلمة (مِثْل) إحدى وثلاثين مرة في تسع عشرة سورة من القرآن، ووردت كلمة
(مَثَلُ) في إحدى وعشرين سورة، وكلمة (مَثَلُكم) سبع مرات في خمس سور، وكلمة
(مِثْلُنا) ست مرات في خمس سور، وكلمة (مَثَلُه) سبع عشرة مرة في ست عشرة سورة،
وكلمة (مثلها) ست مرات في ست سور، وكلمة (مثلهم) خمس مرات في خمس سور، وكلمة
(مَثلًا) وردت اثنتين وعشرين مرة في اثنتي عشرة سورة، وكلمة (مَثَلُه) ثلاث مرات في
ثلاث سور، وكلمة (مَثَلُهم) ثلاث مرات في سورتين، وكلمة (الأمثال) إحدى عشرة مرة في
تسع سور، وكلمة (أمثالُها) مرتين في سورتين، وكلمة (أمثالهُم) وردت مرتين في سورتين
أيضًا، ووردت كلمة (مِثْلُهن) مرة واحدة في قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12)، ومثلها كلمة
(مثليها) في قوله تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ
مِثْلَيْهَا} (آل عمران: 165)، ووردت بها أيضًا كلمة مثليهم مرة واحدة في قوله
تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} (آل عمران: 13)[6].
والأمثال الواردة في القرآن على نوعين:
النوع الأول: الأمثال الظاهرة:
وهي المُكوَّنة من المُشَبَّه والمُشَبَّه به، والعلاقة بينهما كما في قوله تعالى:
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ
الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 41)؛ فشَبَّه -سبحانه-
الذين اتخذوا من دون الله أولياء بأنهم ضعفاء، ووصف الذين اتخذوهم أولياء بأنهم
أضعف منهم، فكيف ينصرونهم؟!
وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ
ﭛ
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ
*
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (المدثر: 49- 51)؛ فشَّبه -سبحانه- المشركين في
إعراضهم ونفورهم من القرآن بأنهم يشبهون الحُمر الوحشية التي رأت الأسد والرماة
ففَّرت مرتعبة. وهذا النوع من الأمثال ورد منه في القرآن الكريم ثلاثة وأربعون
مثلًا[7].
وقد أورد العلامة ابن القيم -رحمه الله- بعضًا منها كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ
*
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﭩ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي
آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ*
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ
وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
(البقرة: 17- 20).
يقول ابن القيم:
«فضرب
الله للمنافقين بحسب حالهم مثلين: مثلًا ناريًّا، ومثلًا مائيًّا؛ لما في النار من
الإضاءة والإشراق والحياة، فإن النار مادة النور، والماء مادة الحياة.
وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة لحظهم من الوحي أنهم بمنزلة مَن استوقد نارًا لتضيء
له وينتفع بها، وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به وانتفعوا به وخالطوا
المسلمين، ولكن لما لم يكن لصُحبتهم مادة في قلوبهم من نور الإسلام طُفِئَ عنهم،
وذهب الله (بنورهم)، ولم يقل بنارهم؛ فإن النار فيها الإضاءة والإحراق، فذهب الله
بما فيها من الإضاءة، وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وتركهم في ظلمات لا يبصرون».
فهذا حال مَن أبصر، ثم عمي، وعرف ثم أنكر، ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه، فهو لا
يرجع إليه، ولذا قال تعالى: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}.
ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي، فشبَّههم بأصحاب صيِّبٍ -وهو المطر الذي
يَصُوب، أي ينزل من السماء-، فيه ظلمات ورعد وبرق، فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدَّت
عليهم زواجرُ القرآن ووعيده وتهديده، وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يُشبه الصواعق.
فحالُهم كحال مَن أصابه مطرٌ فيه ظلمة ورعد وبرق، فلِضعفِه وخوَرِه جعل إصبعيه في
أذنيه، وغمَّض عينيه خشيةً من صاعقةٍ تصيبه[8].
هذا، وقد ذكر الحق -سبحانه وتعالى- المثلين المائي والناري في (سورة الرعد)، ولكن
في حق المؤمنين قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ
أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا
يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ
مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (الرعد: 17).
يقول ابن القيم:
«شبَّه
الوحيَ الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض
بالنبات، وشبَّه القلوب بالأودية. فقلبٌ كبيرٌ يسع علمًا عظيمًا كوادٍ كبير يسع
ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٌ إنما يسع بحسَبه كالوادي الصغير، فسالت أوديةٌ بقدرها،
واحتملت قلوبٌ من الهدى والعلم بقَدْرها.
وكما أنّ السَّيل إذا خالط الأرضَ ومرَّ عليها احتمل غثاءً وزَبَدًا، فكذلك الهدى
والعلم إذا خالط القلوبَ أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويُذهبها، كما
يثير الدواءُ وقتَ شُربه من البدن أخلاطه، فيتكرَّب بها شاربُه. وهي من تمام نفع
الدواء، فإنه أثارها ليذهب بها، فإنه لا يجامعها ولا يُساكنها. وهكذا يضرب الله
الحقَّ والباطل.
ثم ذكر المثل الناري فقال: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ
ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾، وهو الخَبَث الذي يخرج عند
سَبْك الذهب والفضة والنحاس والحديد، فتُخرجه النار، وتُميِّزه، وتفصله عن الجوهر
الذي يُنتفَع به، فيُرمى ويُطرَح ويذهب جُفاءً. فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلبُ
المؤمن ويطرحها ويجفوها، كما يطرح السيلُ والنارُ ذلك الزَّبد والغثاء والخبث،
ويستقرُّ في قرار الوادي الماءُ الصافي الذي يستقي منه الناس، ويزرعون، ويسقون
أنعامهم. كذلك يستقِرُّ في قرار القلب وجِذْره الإيمانُ الخالص الصافي الذي ينفع
صاحبَه وينتفع به غيرُه. ومن لم يفقه هذين المثلين، ولم يتدبَّرهما ويعرِفْ ما يراد
منهما، فليس من أهلهما»[9].
والنوع الثاني من الأمثال القرآنية هي الأمثال الكامنة:
يقول ابن الجوزي:
«وكم
من كلمة تدور على الألسن مَثَلًا جاء بها القرآن بأحسن منها، وهي أمثال وأقوال
مشهورة عند العرب توافق معناها بعض الآيات القرآنية؛ كقولهم مثلًا: (خير الأمور
الوسط)، ورد هذا المعنى في أربعة مواضع:
الأول: في سورة البقرة في قوله تعالى: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ
بَيْنَ ذَلِكَ} (البقرة: 68).
الثاني: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ
يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67).
الثالث: قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} (الإسراء: 110).
الرابع: قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ
تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء: 29).
وكقولهم (العود أحمد) نجدها في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}(القصص: 85)، وكقولهم (القتل أنفى للقتل)
مذكور في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِيْ الأَلْبَابِ}
(البقرة: 179).
وكقولهم (ليس المُخْبَر كالمُعايِن) مذكور في قوله تعالى: {وَلَـكِن
لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة: 260)، وقولهم (ما تزرع تحصد) مذكور في قوله
تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (النساء: 123)، وقولهم: (للحيطان
آذان) مذكور في قوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (التوبة: 47)،
وقولهم: (الحمية رأس الدواء)، مذكور في قوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ
وَلاَ تُسْرِفُواْ} (الأعراف: 31)، وقولهم: (اتقِ شرّ مَن أحسنتَ إليه) مذكور
في قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ
مِن فَضْلِهِ} (التوبة: 74)، وقولهم (من جهل شيئًا عاداه) مذكور في قوله تعالى:
{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيم}
(الأحقاف: 11)، وقولهم: (مَن أعان ظالمًا سلَّطه الله عليه) مذكور في قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} (الحج: 4)،
وقوله: (لما أنضج رمد)[10]
مذكور في قوله تعالى: {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} (النجم: 34)، وقولهم:
(لا تلد الحية إلا الحية) مذكور في قوله تعالى: {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا
كَفَّارًا} (نوح: 27)[11].
وهكذا تتضح أهمية المَثل في الحياة، وفي التعامل بين البشر، وما له من أثر في
التبيين والإيضاح، وقد استخدمه القرآن في غير آية في بلاغة وفصاحة وإيضاح لكلّ ذي
عقل. إنه لسان عربي مبين نزل به الروح الأمين، وطوبى لمن علم وعقل وتدبَّر الحكمة
التي ضرب الله فيها الأمثال، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون} (العنكبوت: 43).
[1] أمثال القرآن لابن القيم الجوزية، تحقيق د. موسى علوان العليلي، ص10.
[2] المعجم الوجيز: ص572.
[3] ابن القيم، المرجع السابق، ص13.
[4] أمثال الحديث، د. عبد المجيد محمود، ص84، نقلًا عن أمثال القرآن مرجع سابق.
[5] مجلة الفيصل، العدد: 241، رجب 147هـ، من أدب الأمثال، ص68.
[6] المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، د. محمد فؤاد عبد الباقي، ص759.
[7] المدهش لابن الجوزي، طبعة بيروت، ص16.
[8] أمثال القرآن، ص35، وما بعدها.
[9] إعلام الموقعين عن رب العالمين، ط عطاءات العلم، ١/٣١٢.
[10] ذكره ابن الأثير في النهاية،
«شوى
أخوك حتى أنضج رمدًا»،
مثل يُضرَب لمن صنع المعروف ثم يُفْسِده.
[11] ابن الجوزي، مرجع سابق، ص18.