• - الموافق2025/11/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مذبحة الفاشر: حين امتزج دم السودان بالأطماع الإقليمية

يشكّل السودان اليوم ساحة لتنافس استراتيجي خفيّ، حيث تحوّلت خطوط التمويل والصراع إلى شبكة دولية معقّدة من القنوات المالية والسياسية والإعلامية التي تغذّي أطرافًا ميدانية مثل قوات الدعم السريع دون إعلان مباشر.

 

في السودان اليوم، تتقاطع الدماء بالذهب، ويمتزج التمرد بالثروة في مشهد يختزل انهيار الدولة وانكشافها أمام أطماع الداخل والخارج. لم تكن مذبحة الفاشر سوى تتويج لمسار طويل بدأ حين خرج محمد حمدان دقلو "حميدتي" من عباءة الجيش، حاملاً راية الدعم السريع ليصنع لنفسه دولةً داخل الدولة، تحرسها ميليشياته وتغذيها مناجم الذهب في جبل عامر، حيث تتشابك مصالح القوى الإقليمية الساعية وراء الثروات السودانية مع مشروع تقسيم البلاد.

وبينما تُسال الدماء في دارفور، يعود عبد الله حمدوك إلى المشهد، في محاولة لإعادة تدوير المشروع المدني بدعم خارجي يريد واجهة ناعمة لإدارة الخراب. هذا التحالف غير المعلن بين السلاح والمال والسياسة يرسم صورة جديدة للسودان: بلد تُدار حروبه بالوكالة، وتُباع ثرواته في المزاد، وتُكتب حدوده من جديد بأقلام من الخارج.

من حميدتي الذي يملك الذهب والبنادق، إلى حمدوك الذي يملك الغطاء السياسي والقبول الدولي، ومن وراءهما دعمٌ خليجي وغربي متشابك، يتبلور مشهد انقسامٍ مرعبٍ له خمسة وجوه: عسكرة السلطة، وانقسام الجغرافيا، وتهميش الهوية الدينية، واستدعاء شبح الانفصال، وتهديد الأمن القومي المصري والإفريقي.

إن ما يحدث في السودان ليس حربًا أهلية، بل هندسة جيوسياسية متعمدة، تُدار بالدم والذهب معًا.

الدعم السريع: من ذراع أمنية إلى مشروع انفصال ذهبي

تحوّلت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) من ذراعٍ أمنية أنشأها نظام البشير لقمع التمردات والاحتجاجات، إلى جيشٍ متمرّد ينازع الجيش السوداني شرعية الدولة ووحدة القرار العسكري. بدأ التحول حين منحها البشير غطاءً قانونيًا وتنظيميًا مكّنها من بناء هيكل قيادي مستقل، ثم اكتسبت استقلالًا ماليًا عبر السيطرة على مناجم الذهب في جبل عامر وطرق التهريب نحو ليبيا وتشاد، ما أدخلها في شبكة مصالح إقليمية معقّدة، حيث يختلط الذهب بالسياسة، والسلاح بالمال القادم من جهاتٍ تعرف طريقها إلى الموانئ أكثر من الخرائط.

استغل حميدتي سقوط نظام البشير عام 2019 ليثبّت موقعه في المشهد الانتقالي، ثم تحوّل لاحقًا إلى لاعبٍ يسعى لتفكيك الجيش وتأسيس سلطة موازية. ومع الدعم الخارجي غير المعلن، تمكّنت قواته من تمويل حرب طويلة المدى وتجنيد الآلاف، حتى أعلنت في أغسطس 2025 حكومة في نيالا، في خطوة تمثّل تحولها إلى كيانٍ مؤسسي يسعى لشرعية سياسية موازية.

مذبحة الفاشر مثّلت ذروة هذا المسار، إذ كشفت أن الدعم السريع لم يعد مجرد قوةٍ عسكرية، بل أداة لإعادة هندسة دارفور ديمغرافيًا وسياسيًا عبر القتل والتهجير الممنهج، في ظل صمتٍ دولي وتواطؤٍ اقتصادي يلمّع القتلة ويغسل الذهب معًا.

 

لم يعد الصراع في السودان مجرد حرب داخلية، بل منظومة مصالح تمتد من مناجم الذهب إلى العواصم الإقليمية. وكلما ازدهر اقتصاد الحرب، تراجعت فكرة الدولة.

تتجاوز خطورة الظاهرة حدود السودان؛ فوجود جيشين داخل الدولة يهدد بانهيارها الكامل، بينما يشجّع نموذج الميليشيا السيادية على تكرار التجربة في دول أخرى ذات هشاشة داخلية. ومع تمسك حميدتي بمصادر تمويله وارتباطه بشبكات مصالح عابرة للحدود، وهكذا يتحوّل الدعم السريع من أداة أمنية إلى مشروع انفصالٍ جديد، عنوانه السيطرة على الثروة وإعادة رسم الجغرافيا السياسية في قلب إفريقيا.

التدخلات الخفية في السودان:

يشكّل السودان اليوم ساحة لتنافس استراتيجي خفيّ، حيث تحوّلت خطوط التمويل والصراع إلى شبكة دولية معقّدة من القنوات المالية والسياسية والإعلامية التي تغذّي أطرافًا ميدانية مثل قوات الدعم السريع دون إعلان مباشر.

هذه الشبكة تعمل من خلال تصدير الذهب المُستخرج من مناطق النزاع في دارفور وجبل عامر إلى أسواق خارجية عبر مسارات تهريب تمر بدول الجوار، وصولًا إلى وجهات خليجية وآسيوية تشتري الذهب السوداني وتعيد تدوير عائداته لتمويل الحرب.

في موازاة ذلك، تنسج قوى إقليمية ترتيبات سياسية واقتصادية تجعل من السودان ساحة لتصفية الحسابات في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، مستندة إلى مشاريع استثمار زراعي ومعدني تمنحها نفوذًا استراتيجيًا داخل البلاد مقابل دعم ميداني غير معلن. هذه الأطراف لا تحتاج إلى إرسال جيوشها، بل تكتفي بضخ الأموال، وتأمين الغطاء اللوجستي والإعلامي الذي يُحوِّل قوات الدعم السريع إلى أداة سياسية عابرة للحدود.

أما الإعلام، فقد أصبح جزءًا من المعركة، إذ تُدار حملات دعائية عبر منصات إقليمية تُقدّم الميليشيا في صورة القوة البديلة القادرة على فرض الاستقرار، فيما تُستغل شبكات مالية في الخارج لتبييض الأموال وتمويل العمليات الميدانية تحت غطاء التجارة أو التحويلات الإنسانية.

بهذا المعنى، لم يعد الصراع في السودان مجرد حرب داخلية، بل منظومة مصالح تمتد من مناجم الذهب إلى العواصم الإقليمية. وكلما ازدهر اقتصاد الحرب، تراجعت فكرة الدولة. فالتدخلات الخفية وشبكة المصالح العابرة للحدود لا تهدف فقط إلى السيطرة على الموارد، بل إلى إعادة هندسة الجغرافيا السياسية للسودان بما يخدم القوى التي تستثمر في الفوضى وتعيد إنتاجها كل يوم.

مذبحة الفاشر في السودان:

مذبحة الفاشر تمثّل لحظة فاصلة في الحرب السودانية، إذ تجاوزت حدود النزاع على السلطة لتصبح صراعًا وجوديًا يهدد فكرة الدولة ذاتها. بعد حصار طويل، اقتحمت قوات الدعم السريع المدينة، وارتُكبت عمليات قتل جماعي واغتصاب ونهب واعتداءات داخل المستشفيات ومخيمات النزوح، في مشهد يعيد إلى الأذهان أبشع صفحات الحرب الأهلية في رواندا والبوسنة. المذبحة لم تكن عملاً انتقاميًا عابرًا، بل جزءًا من استراتيجية ممنهجة للسيطرة الكاملة على الإقليم عبر ترويع السكان وإفراغ المدينة من سكانها الأصليين.

 

المطلوب اليوم وعي مصري–إفريقي بأن الدفاع عن وحدة السودان ليس تضامنًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة وجودية لحماية الأمن القومي المصري والعربي والإفريقي.

تؤكد شهادات الناجين والمنظمات الإنسانية أن ما جرى في الفاشر يُعبّر عن تحول الصراع العسكري، إلى ميدان لإعادة رسم الخريطة الديموغرافية، حيث تتقاطع مصالح الميليشيات مع شبكات تهريب الذهب والسلاح العابرة للحدود التي تغذي الحرب وتمنحها ديمومة اقتصادية.

تداعيات المذبحة لا تقف عند حدود الفاشر، بل تمتد لتكشف عن ضعف السلطة المركزية في الخرطوم، وعجز المجتمع الدولي عن فرض أي مسار للمساءلة أو الردع. ومع تراكم المجازر وتوسع رقعة النزوح.

إن مذبحة الفاشر لم تكن مجرد مأساة إنسانية، بل جرس إنذار عن تفكك السودان سياسيًا واجتماعيًا وجغرافيًا، وعن ولادة واقع جديد تُعاد فيه صياغة الهوية الوطنية بدماء الأبرياء، بينما يقف العالم متفرجًا على آخر مراحل الانهيار.

عودة حمدوك إلى المشهد السوداني:

تشهد الساحة السودانية في الأشهر الأخيرة عودة مثيرة للجدل لرئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك إلى المشهد السياسي، في خطوة يصفها مراقبون بأنها محاولة لإعادة تدوير المشروع المدني تحت غطاء «الانتقال الديمقراطي»، بينما يرى آخرون أنها جزء من ترتيبات دولية تهدف إلى شرعنة واقع الانقسام وتهيئة السودان لمرحلة وصاية سياسية جديدة.

تأتي عودة حمدوك بدعم واضح من دوائر غربية وإفريقية ترى في شخصه واجهة لإدارة الأزمة بعد انكشاف مأساة الحرب بين الجيش والدعم السريع. لكن هذا الدعم لا ينفصل عن مصالح استراتيجية تسعى إلى ضمان نفوذ اقتصادي طويل الأمد في مناطق التعدين والزراعة والموانئ، وتخفيف التنافس العسكري لصالح سلطة مدنية شكلية تخدم ترتيبات التقسيم أكثر مما تخدم فكرة الدولة الوطنية.

القوى المدنية واليسارية التي تصدّرت المشهد من جديد ترفع شعارات الحرية والسلام، لكنها تواجه انتقادات واسعة من الشارع السوداني الذي يعتبرها جزءًا من الأزمة وليست الحل. فقد سبق أن جُرِّبت حكومة حمدوك بين عامي 2019 و2021، وانتهت إلى فشل اقتصادي وسياسي ذريع، مع ارتهان القرار الوطني للمانحين الخارجيين ومراكز التمويل الدولية، ما جعلها فاقدة للقدرة على الإصلاح الحقيقي.

العودة الحالية تُفسَّر كجزء من مشروع لإعادة هندسة السلطة في السودان عبر واجهات مدنية محدودة الصلاحيات، تُستخدم لتمرير تسويات تُبقي على الانقسام بين المركز والهامش وتُطيل أمد الفوضى. وهكذا يتحول شعار «المدنية» إلى أداة لتجميل الوصاية، فيما يبقى الشعب السوداني عالقًا بين فشل العسكر وتدوير النخب، وبين مشاريع الخارج التي تتعامل مع بلاده كساحة نفوذ أكثر منها وطنًا يسعى إلى الاستقرار.

تفكك السودان وأمن مصر القومي:

يشكّل تفكك السودان خطرًا استراتيجيًا مباشرًا على الأمن القومي المصري والإفريقي، إذ لا يمكن فصل استقرار السودان عن استقرار مصر، فالتاريخ والجغرافيا والسياسة والأمن تشكّل في هذا السياق منظومة واحدة. السودان ليس مجرد جار جنوبي، بل هو عمق مصر الاستراتيجي منذ عقود، والدليل أن القاهرة أدركت هذه الحقيقة عمليًا خلال حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967، حين تم نقل الكلية الحربية إلى السودان، كما نُقلت الطائرات العسكرية المصرية إلى العمق السوداني لحمايتها من القصف الإسرائيلي، في تأكيد على وحدة المصير والمجال الأمني بين البلدين.

إن ما يجري اليوم من انقسام في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع يهدد هذه المعادلة التاريخية، ويحوّل الجنوب إلى ساحة مفتوحة أمام النفوذ الأجنبي والمشاريع الإقليمية المتنافسة. ومع تصاعد خطر الانهيار، تتزايد المخاوف من فوضى على الحدود، ومن تهريب السلاح والذهب والبشر نحو الشمال، ما يجعل الحدود الجنوبية لمصر أكثر هشاشة منذ عقود.

أما على صعيد أمن النيل، فإن تفكك السودان يعني تفكك أحد أعمدة التنسيق المائي مع القاهرة، وفتح الباب أمام أطراف أخرىمثل إثيوبيالتوسيع نفوذها على حساب المصالح المصرية. كذلك، فإن ظهور كيانات سياسية جديدة في دارفور أو كردفان قد يعقد الموقف الإقليمي ويُربك توازن القوى في القرن الإفريقي.

الدرس الواضح هو أن أمن السودان هو أمن مصر، وأن السماح بانزلاق السودان نحو التقسيم أو الفوضى لا يهدد فقط الخرطوم، بل يمتد أثره إلى القاهرة والبحر الأحمر والقرن الإفريقي بأسره. المطلوب اليوم وعي مصري–إفريقي بأن الدفاع عن وحدة السودان ليس تضامنًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة وجودية لحماية الأمن القومي المصري والعربي والإفريقي.

الخاتمة: 

في الفاشر، حيث كانت الحياة تتشبث بأنفاسها الأخيرة، دخلت ميليشيا الدعم السريع كإعصارٍ من الدم والرماد، يقوده حميدتي بوجهٍ جامدٍ وضميرٍ من حجر. خلال أيامٍ قليلة، تحوّلت المدينة إلى مقبرةٍ مفتوحة، سقط فيها أكثر من خمسة آلاف قتيل، بينهم نساء وأطفال، بعضهم أُحرق أحياءً في البيوت أو المساجد، وبعضهم تُرك تحت الشمس لتأكله الغربان.

كان بين صفوف القتلة غرباء بلكناتٍ لا تشبه لهجة دارفور مرتزقة جاءوا من تشاد ومالي والنيجر، يقاتلون لا من أجل وطنٍ أو قضية، بل من أجل ذهب جبل عامر وثمنٍ يُدفع بالدولار.

لم تكن الفاشر مدينةً تُقصف، بل روحًا تُصلب على عتبة الجشع. نساء يهربن حفاة عبر الدخان، ورجال يسحبون أبناءهم من تحت الركام، فيما يعلو ضحك المجرمين على أصوات الاستغاثة. في تلك الليلة، ماتت الإنسانية مرتين: مرةً بالرصاص، ومرةً بصمت العالم.

أعلى