سورة الكهف تحمل أسرارًا لنجاة الأمة من فتن الدهر، تجمع بين قصص الرسل والأمم لتعلّم الإيمان الصادق والتواضع والشكر، وتُعصم قارئها من فتنة الدجال بتعزيز القيم الروحية على المادية، في زمن يسوده التضليل والخداع التكنولوجي.
ثبت في السُّنَة أنَّ النبيّ
صلى الله عليه وسلم حثَّ الأُمَّة على قراءة سورة الكهف وحِفْظها؛ وبيَّن أنّ
في ذلك عصمةً مِن الدجال. وهنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال مُهمّ؛ هو: ما الحكمة في
اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لسورة الكهف دون غيرها من سور القرآن
للعصمة من الدجال؟
تلك الفتنة التي تُعدّ الفتنة الكبرى والأخيرة، والتي قال عنها الرسول
صلى الله عليه وسلم :
«ما
بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال»[1]؛
فالنبي -صلوات الله وسلامه عليه- أعلمُ خلق الله بكتاب الله وأسراره وعلومه.
إذًا، فهناك صلة بين سورة الكهف[2]
وبين فِتَن آخر الزمان، والتي آخرها الفتنة الكبرى (فتنة الدجّال)؛ فالقرآن الكريم
زاخر بالسور الطوال والقصار، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم خصَّها بذلك؛ لما
تشتمل عليه من أسرار تتصل بفِتَن آخر الزمان، والتي على رأسها أو آخرها فتنة
الدجّال، وكذلك فإنها تحتوي على أكبر مقدار من الترياق الذي يحمي المؤمن من سموم
الدجّال، وتجعله يَبْرَأ منها؛ حيث إن مَن يتشرَّب قلبه منها عن طريق الحفظ لها، أو
حتى لعشر آيات منها، أو بالإكثار من قراءتها، يَعْصمه الله من هذه الفتنة، وينجو من
الوقوع في شباكها، فشِبَاك الدجّال منصوبة ومعقودة، في كلّ زمان ومكان، وأعوانه من
الإنس والجن مستعدون ليوقعوا فيها كلّ مَن تزل قدَمه، إلا مَن عصم نفسه بالإيمان
أولًا، ثم بالآيات السابقة حفظًا وقراءةً.
من مقاصد سورة الكهف
سورة الكهف وما تحمله من قصص وعِبَر يجمعها جميعًا خطّ واحد أو موضوع واحد، وهو ما
يمكن أن نسميه
«الصراع
الأبدي بين الإيمان والمادية»[3]،
وبذلك يظهر لنا جانب جديد من جوانب الإعجاز القرآني وصدق نبوءة الرسول الكريم،
فالقرآن كتاب الله، الذي نزل في القرن السادس الميلادي على قلب النبي الأمي، والذي
جاء قبل ثلاثة عشر قرنًا وزيادة، يحمل لنا الصور الصادقة والناطقة والمُعبّرة عن
المدنية المزعومة (مدنية العصر الحديث)، تلك المدنية التي ازدهرت في القرن العشرين
وما بعده، مدنية الرأسمالية، التي لا تحمل أيّ رحمة أو شفقة لفقير أو محتاج، بل
تهدف إلي إحياء الجوانب المادية على حساب الجوانب الروحية، مدنية الأوبئة والأمراض
والأسلحة الفتّاكة، التي لا ترحم صغيرًا أو كبيرًا.
فقد جاءت لنا الآيات القرآنية لتُصوِّر لنا نهاية تلك المدنية، ونهاية ذُروتها
وزعيمها، الذي يسميه النبي صلى الله عليه وسلم في إعجاز وإيجاز بـ«الدجّال»؛
فلفظ الدجّال من الدجل أو التدجيل، أي الخداع والتلبيس، أليس الخداع والتلبيس هما
من أهمّ ما تتَّسم به الحضارة المادية الحديثة في عصرنا الحاضر؟ أليست الوسائل
الحديثة والوسائل التكنولوجية تتصف بتمويه الحقائق وخداع الناس، بالتلبيس والتدليس
عليهم؟ وإطلاق الأسماء والألفاظ البراقة، التي هدفها خداع العقول وإخفاء الباطل
بمظاهر خارجية خداعة.
وكذلك الحال فيما أطلق عليه بالشعارات الفلسفية والمناهج العلمية، التي جعلوها، أو
بمعنى أدق أرادوا أن يجعلوها، تحلّ محل الأديان، ولكي تسحر عقول الناس أحاطوها
بهالات من التمجيد والتقديس، وأطلقوا الاتهامات على كلّ مَن لا يؤمن بها؛ حيث
اتهموا كلّ مَن يتمسك بدينه بالرجعية والتخلُّف، ممَّا أدَّى إلى التباس الأمر حتى
على بعض كبار المفكرين (إلا من رحم ربي)، فصاروا يتغنون بتلك الشعارات ويدعون إليها
بكل حماس، من غير تدقيق أو تمحيص، أو حتى التأكُّد من نية أصحاب تلك الشعارات، أو
حتى التأكد من نتائج تلك الشعارات على عامة الناس، في العمل والتطبيق الفعلي، أو
إخضاعها للمقارنة الصحيحة المحايدة، بين ما كسبته الإنسانية والأمم الضعيفة، وبين
ما خسرته من سعادة حقيقية وحقوق فطرية، ألم تخسر الأمم الضعيفة حتى حقّها في
الحياة؟ وصارت أراضيها مقابر لدفن مخلفات ونفايات الدول القوية، وصارت صدورها
مجالًا لتجارب تلك الدول من أسلحة وأدوية، وغيرها.
ولعل ذلك كله قد فاق، ويفوق الدجّال الأكبر على جميع الدجالين والمدلسين، الذين
عرفهم التاريخ البشري.
فقد سرت روح الدجّال من حيث التدجيل والتدليس في عروقهم وعروق تلك الحضارة؛ وذلك
لتعارض خط النبوة والإيمان والثقة في قدرة الله المطلقة واحترام تعاليمه وشرائعه،
ليجعلوا البشر يعتمدون اعتمادًا كاملاً على الحواس الظاهرية والمادية، ويزيد عندهم
الشغف باللذة البدنية والمنافع العاجلة والظاهرة، وتلك هي النقطة الرئيسية التي
تدور حولها سورة الكهف، وما جاء بها من قصص وعِبَر ودلالات.
لذلك، ونتيجةً لما سبق يمكننا القول: إنه يوجد وجه آخر لنزول الآيات يمكننا أن
نُوجِزه فيما يلي: فمن أوجه المناسبة بين قصة أصحاب الكهف والمقاصد الرئيسية لسورة
الكهف: أنها خطت لنا طريق النجاة من الفتن، حيث تعرض الفتية لفتنة عظيمة عصمهم الله
منها، حين سعى المَلِك إلى فتنتهم في دينهم واستغل سلطانه في مساومتهم على الحق،
وإغرائهم بكل المغريات كما استخدم فتنة التهديد والوعيد، فضلًا عن فتنة الضغوط
العائلية؛ فهم من أُسَر لها مكانتها ووجاهتها، فعصَمهم الله تعالى من كل تلك الفتن
حينما خلصت نيتهم وصَفَت سريرتهم، وصدَق توجّههم إلى الله تعالى.
وهكذا نجد السورة الكريمة تُبرز لنا طريق النجاة من جميع الفتن: فتنة السلطان،
وفتنة الأهل والعشيرة، وفتنة المال، وفتنة الولد، وفتنة العلم، وفتن الأعداء، وفتنة
إبليس اللعين. فتنة العلم والمُلك والولد من خلال قصة أصحاب الكهف وصاحب الجنتين
وقصة موسى مع الخضر. وفتنة القوة والتمكين من خلال قصة ذي القرنين، وفتنة يأجوج
ومأجوج وفتنة الفِرَق الضالة الناكبة عن الحق كالخوارج وغيرهم، والذين قال عنهم رب
العالمين في ختام سورة الكهف: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ
أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ
لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا
كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 103- 106]، لذلك فلا
عجب أن نجد من خواص هذه السورة الكريمة، ومن جملة فضائلها، أنها عصمة لقارئها من
الفتن.
سبب نزول سورة الكهف
نزلت سورة الكهف على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرًا له من الله تعالى؛ فقد
تحدَّاه الملأ من قريش -بنصيحة من يهود يثرب- أنه إن كان نبي الله حقًّا، ويهبط
عليه الوحي من السماء، فإن عليه أن يُجيبهم عن ثلاثة أسئلة: السؤال الأول عن فتية
مؤمنين كانوا في الزمان الغابر، والسؤال الثاني عن مَلِك صالح بلغ مشارق الأرض
ومغاربها، والسؤال الثالث عن الروح.
وعندما سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة، هبط عليه الوحي
من الله -عز وجل- يُوضّحها للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولهم، وكان أول هذه الأمور
هو قصة الفتية المؤمنين الذين هم أصحاب الكهف، وقصتهم أنهم كانوا يؤمنون بالله في
مدينة وثنية، وهربًا من الاضطهاد تركوا المدينة ومعهم كلبهم، ولجأوا إلى الكهف، وقد
لبثوا في كهفهم هذا 309 سنوات قمرية، حتى بعث الله أرواحهم من جديد، فخرجوا من
كهفهم، وعلم القوم بأمرهم، فصاروا آيةً في الناس.
وتحكي السورة أيضًا: أن رجلًا كان يملك جنتين واسعتين بهما من النخيل وأشجار العنب
والزرع الكثير والكثير، وكان الرجل فخورًا بنفسه مغترًّا بها، وظن أنه بماله
وأولاده هو خير من جاره الذي لم يكن لديه مثل ما يملك صاحب الجنتين، فذهب الله بما
رزقه، وصار الرجل يتحسَّر ويتندم على كُفره بنعم الله عليه، وعدم الشكر عليها.
ومما عالجته السورة أيضًا أن النبي موسى -عليه السلام- كان يُحدِّث قومه، فسأله
أحدهم: مَن أعلم أهل الأرض؟ فأجابه نبي الله موسى قائلًا: أنا، فعاتبه الله أنه لم
يَكِل الأمر إلى إليه تعالى، وأمره أن يذهب إلى العبد الصالح الذي هو أعلم منه،
فخرج موسى بحثًا عنه حتى وجده، وطلب منه أن يصحبه معه، فوافق العبد الصالح، وقد مر
كليهما بمواقف مختلفة أثبت فيها العبد الصالح لموسى أنه لا يعلم الكثير من الأمور.
وآخر القصص التي وردت في سورة الكهف، تحكي عن ذي القرنين الذي وصل إلى قوم طلبوا
منه أن يبني لهم سدًّا، والسبب في ذلك أن قوم يأجوج ومأجوج كانوا يُؤذونهم، فبنى
لهم ذو القرنين سدًّا يعجز يأجوج ومأجوج عن هدمه، ومن علامات الساعة أن ينجح هؤلاء
القوم في هدم هذا السد.
أربعة دروس مختلفة
تحتفظ سورة الكهف بمكانة متميزة في نفوس المسلمين؛ لكونها سورة تعطي العديد من
الدروس، أهمها أربعة دروس مختلفة، يجب على كلّ مسلم تعلُّمها.
الدرس الأول: إيمان أهل الكهف:
وذلك في القصة الأولى المذكورة في السورة هي قصة أصحاب الكهف. كانوا مؤمنين، وعاشوا
في بلد ملحد، وعندما لاحظوا أن الناس تُهدِّد حياتهم بسبب إيمانهم، تركوا المدينة
وذهبوا إلى كهف هربًا بإيمانهم في سبيل الله، وهناك أنعم الله -سبحانه وتعالى-
عليهم بالنوم، وعندما استيقظوا، وبحلول ذلك الوقت كان الناس في مدينتهم قد أصبحوا
مؤمنين، وبذلك تظهر لنا هذه القصة أنه عندما يتوكل المسلم على الله -سبحانه
وتعالى-، ثم على إيمانه به، يكون الله دائمًا معه لنجدته ومساعدته في تخفيف
الصعوبات التي يواجهها.
والدرس الذي نتعلمه من هذه القصة، هو أن الله -سبحانه وتعالى- يضع الإيمان في الشخص
ليعرف المؤمن الصامد في إيمانه، ثم يساعده الله بطرق يصعب على العبد الضعيف فهمها.
علاوة على ذلك، تعطي السورة درسًا بأنه يجب على المسلم أن يبقى دائمًا في صحبة
الناس الذين هم على خير وصلاح؛ حيث كان أصحاب الكهف كلهم صالحين، وبالتالي، فوجودهم
معًا هو واحد من العوامل التي جذبت الرحمة والتأييد من الله -سبحانه وتعالى- لهم.
وهكذا، ينبغي أن يكون المسلم صامدًا في إيمانه، مرافقًا للصالحين والطيبين، كما قال
تعالى في سورة الكهف: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ
ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: ٢٨].
الدرس الثاني: شكر النعم:
ويظهر ذلك في القصة الثانية من السورة، وهي قصة الشخص الذي كان له حديقتان، وكان من
الأثرياء والأغنياء. ومع ذلك، أدَّت به ثروته للتشكيك في إيمانه، وبسبب ذلك حرَمه
الله -سبحانه وتعالى- من كل حيلة وخير دنيوي، مما جعله يدرك طبيعة زوال النعم في
هذا العالم.
وهذه القصة في حدّ ذاتها تُعلِّم المسلم درسين منفصلين:
الأول:
هو أن كل ثروة هي اختبار من الله -سبحانه وتعالى-. لذلك، على الأثرياء والأغنياء
خصوصًا أن يعلموا أن النعم التي تُمنَح لهم هي في الواقع اختبار لهم؛ إذا كانوا
سيشكرون الله عليها أم لا.
الثاني:
يجب على المسلم أيضًا أن يعلم أن النعم في هذا العالم كلها مؤقتة وعابرة، لذلك
عندما تصبح متاحة له يجب أن يشكر الله عليها، خصوصًا وأن هناك أناسًا آخرين ليست
لديهم هذه المتع الدنيوية. فالقرآن الكريم يُوضِّح أن الأمور الدنيوية لا تدوم
وأنها بطبيعتها زائلة؛ حيث قال تعالى في سورة الكهف: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [سورة الكهف الآية: ٤٥].
الدرس الثالث: تواضع العلماء مهما بلغوا من العلم:
حتى وإن كان العَالِمُ نبيًّا مرسلًا من عند الله تعالى، ويتجلى هذا في قصة نبي
الله موسى مع الخضر -عليهما السلام-؛ حيث اعتقد موسى -عليه السلام- ألَّا أحد في
هذا العالم أعلم منه، فبعث الله -سبحانه وتعالى- له الخضر، الذي أثبت أنه يعرف أكثر
من موسى -عليه السلام- في كثير من القضايا، والدرس الذي يمكن تعلُّمه من هذه القصة
هو أن المعرفة دائمًا نسبية، وأن هناك دائمًا شخص أكثر دراية، ولديه فَهْم أفضل
للأشياء من الآخرين.
الدرس الرابع: حسن استعمال السلطة
وهي قصة الملك العظيم ذي القرنين الذي سافر في جميع أنحاء العالم؛ لمساعدة الناس
الذين كانوا في حاجة له، ولينشر الخير أينما ذهب، وكان أحد الذين قدموا الإعانة
والإغاثة إلى قوم عانوا من خطر يأجوج ومأجوج.
والدرس الذي يمكن تعلُّمه من هذه القصة هو أن السلطة هي مِنْحة واختبار من الله إلى
أولئك الذين يتقلدونها، والذين تجب عليهم مقارنة حالهم مع الآخرين، واستخدام هذه
القوة لفعل الخير وجعل حياة الناس أسهل، ومحاربة الشر.
العلاقة بين القوة المُصَرِّفَة للكون والقوة المادية
يمكن القول: إن القصص القرآني جاء في السورة الكريمة متنوعًا، ولكن (تلك القصص) وإن
تنوعت في أساليبها وسياقها، فإنها تتحد في الغرض والغاية والروح التي تجمعهم جميعًا
وتربطهم ربطًا معنويًّا، بخيط واحد عميق ووثيق، ألا وهو (العلاقة بين القوة
المُصَرِّفَة للكون والقوة المادية)، أو بمعنى أدقّ العلاقة بين (القدرة الإلهية
والقدرة المادية).
فالكون (بطبيعته) خاضِع لأسباب طبيعية، قد خلقها الله لضمان ثباته واستقراره، وهي
قوى كونية تتحكم وتسيطر على النظام، وهي عبارة عن الأسباب والمسببات، وخواص الأشياء
التي وضعها الخالق العظيم بقدرته، ولكن هناك مِن الناس مَن يقصر عقله على النظر في
تلك الأسباب دون أن يربطها بقدرة الله، أي أنه يكتفي بالعالم المادي المحسوس، ويرى
أن المسببات والنتائج تابعة دائمًا لأسبابها وعِلَلها، وملازمة لها دائمًا، ولا
يوجد في الكون مَن يَحُول بين هذه الأسباب ومسبباتها.
وأصحاب هذا الفكر من الماديين ينكرون وجود القدرة الإلهية المعجزة؛ فالله -سبحانه-
هو القادر على خلق تلك الأسباب والمسببات، وهو أيضًا القادر على إيجاد المسببات
والظواهر من غير أسباب، وهو واضع القوانين التي تُنظِّم الكون، وهو القادر على
كَسْر تلك القوانين؛ لأنه هو القادر الكامل المعجز.
ومن أدق الأمثلة على ذلك: ما قدمته لنا السورة من قصص ومواقف قمنا بعرضها أثناء
حديثنا عن قصص سورة الكهف.
* * *
في النهاية، ندعو الله أن ينفعنا بكل آية، بل وبكل حرف من حروف القرآن الكريم،
فبطبيعة الحال كل آية من القرآن هي معجزة في حدّ ذاتها، وتعادل لؤلؤة لا يمكن
العثور على مِثلها في أيّ كتاب آخر غير هذا الكتاب الكريم. وكل آية من القرآن تحمل
مجموعة فريدة من الدروس، يترتب على ذلك من الفوائد والخشوع في قلوب المسلمين ما
الله -سبحانه وتعالى- به عليم.
فاللهم انفعنا بالقرآن الكريم، وعَلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل
وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.
[1] رواه مسلم عن عمران بن حصين، صحيح مسلم، باب فضل سورة الكهف.
[2] لسورة الكهف فضائل كثيرة، جمعها، أو جمع أكثرها الشوكاني في فتح القدير؛ حيث
قال: وقد ورد في فضلها أحاديث:
منها: ما أخرجه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن أبي
الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من
حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عُصِمَ من فتنة الدجال».
وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن حبان، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم :
«من
قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، عُصِمَ من فتنة الدجال».
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن البراء قال: قرأ رجل سورة الكهف، وفي الدار
دابة، فجعلت تنفر، فنظر، فإذا سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ،
فقال: اقرأ فلان؛ فإن السكينة نزلت للقرآن. وهذا الذي كان يقرأ هو أُسَيد بن
حُضَير، كما بيَّنه الطبراني.
وأخرج الترمذي، وصححه، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«من
قرأ ثلاث آيات مِن أول سورة الكهف، عُصِم من فتنة الدجال».
وفي قراءة العشر الآيات من أولها، أو من آخرها أحاديث؛ فقد أخرج ابن مردويه،
والضياء في المختارة، عن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«من
قرأ الكهف يوم الجمعة، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كلّ فتنة تكون، فإن خرج
الدجال، عُصِمَ منه».
وأخرج الطبراني في الأوسط، والحاكم، وصححه، وابن مردويه، والبيهقي، والضياء، عن أبي
سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«مَن
قرأ سورة الكهف، كانت له نورًا من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها، ثم
خرج الدجال، لم يضرّه».
وأخرج الحاكم، وصححه، من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من
قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين».
وأخرجه البيهقي أيضًا في السنن من هذا الوجه، ومن وجه آخر.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«من
قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له
يوم القيامة، وغُفِرَ له ما بين الجمعتين».
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«ألا
أخبركم بسورة ملأ عظمتها ما بين السماء والأرض، ولكاتبها من الأجر مثل ذلك، ومن
قرأها يوم الجمعة، غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام، ومن
قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه، بَعثه الله من أي الليل شاء؟ قالوا: بلى -يا رسول
الله-، قال: سورة أصحاب الكهف».
وأخرج ابن مردويه، عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«البيت
الذي تُقرَأ فيه سورة الكهف، لا يدخله شيطان تلك الليلة».
[3] من كتاب الصراع بين الإيمان والمادية (تأملات في سورة الكهف)، لأبي الحسن علي
الحسني الندوي.