• - الموافق2025/09/18م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أنقرة في قلب العاصفة.. كيف تستعد تركيا لسيناريو الحرب مع إسرائيل؟

بعد العدوان الإسرائيلي على قطر، رفعت الدول الإقليمية حالة التأهب واتخذت تدابير استراتيجية لمواجهة أي تصعيد محتمل من جانب العدو الصهيوني، وهذا ما تقوم به تركيا حاليًا، وقد اتخذت عددا من الخطوات السياسية والعسكرية والأمنية ضمن هذا السياق.



في خضم صراع متصاعد لا يقتصر على المواجهات العسكرية فقط، بل يمتد إلى ساحات دبلوماسية وإعلامية وتقنية، تجد تركيا نفسها أمام لحظة فاصلة في حساباتها الاستراتيجية، خاصة بعد الضربة الأخيرة التي شنتها إسرائيل على مكتب وفد حركة "حماس" في الدوحة أثناء إجراء محادثات وقف إطلاق النار، فلم تكن هذه الضربة مجرد حادث عابر، بل إشعار بأن الصراع قد تجاوز حدود غزة وفلسطين، ليطال مفاهيم السيادة والتدخل والهجوم العابر للحدود الدبلوماسية، ولذلك عززت أنقرة استعداداتها العسكرية والسياسية للدفاع عن مصالحها وأمنها القومي مبكرًا، وعملت منذ زمن على تطوير منظومات دفاعية محلية، وشرعت مؤخرًا في البناء التدريجي للملاجئ داخل الولايات الكبرى، بالتزامن مع إطلاق ردود فعل قوية على المستويين الرسمي والشعبي.

منظومة "القبة الفولاذية" المحلية

أعلن الرئيس التركي"أردوغان" في نهاية شهر أغسطس الماضي عن تسليم أول منظومة دفاع جوي محلية الصنع يُطلق عليها "القبة الفولاذية" إلى ترسانة الجيش التركي، في خطوة وصفها بأنها تمثل "نقطة تحول" في أمن البلاد.

جاء الإعلان عن القبة خلال حفل أقيم في مقر شركة الصناعات الدفاعية "أسيلسان" -المُؤسَسَة من قبل مؤسسة القوات المسلحة التركية- وأوضح أردوغان أن نظام "القبة الفولاذية" يضم 47 مركبة بما في ذلك النظام الدفاعي المحلي "SIPER" بقيمة قدرها 460 مليون دولار، وصرح أردوغان بأن هذا النظام الدفاعي الجديد سيعزز ثقة الأصدقاء ويبعث الخوف في نفوس الأعداء، حيث إن منظومة "القبة الفولاذية" قادرة على تدمير التهديدات الجوية "المنخفضة والمتوسطة والمرتفعة" المدى بفعالية كبيرة، كما أنها مدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي.

ويُعد مشروع "القبة الفولاذية" الذي أُطلق في أغسطس 2024، جزءًا من خطة أنقرة لبناء دفاع جوي "رادع" متعدد الطبقات، وقد صُمم جزئيًا على غرار "القبة الحديدية" للاحتلال، ويهدف نظام "القبة الفولاذية" إلى رصد واعتراض التهديدات الجوية، في ظل ما وصفه أردوغان بـ"التحديات الأمنية المتزايدة في المنطقة".

وقال أردوغان خلال حفل تسليم "القبة الفولاذية" للجيش التركي: "لا يمكن لدولة أن تنظر إلى مستقبلها بثقة ما لم تطور راداراتها وأنظمة دفاعها الجوي بنفسها عبر الاعتماد على التكنولوجيا المحلية".

وبالتزامن مع تسليم المنظومة الدفاعية المحلية الجديدة، افتتح أردوغان أعمال إنشاء قاعدة تكنولوجية دفاعية كبرى بقيمة (1.5 مليار دولار)، وقد وُصفت بأنها أكبر استثمار منفرد في تاريخ الجمهورية بقطاع الصناعات الدفاعية، ومن المقرر أن تصبح القاعدة أكبر "منشأة متكاملة للدفاع الجوي" في أوروبا، على أن تدخل مرحلتها الأولى الخدمة بحلول منتصف عام 2026، وأكد أردوغان أن هذه الخطوة ستجعل تركيا لاعبًا عالميًا في مجال "أنظمة الدفاع" وليس مجرد "قوة إقليمية" فحسب.

بناء الملاجئ في جميع الولايات التركية

جانب آخر مهم في إطار الاستعداد العسكري/المدني لتركيا تجاه أي حرب قادمة، وهو مشروع بناء الملاجئ في جميع الولايات التركية التي يبلغ عددها 81 ولاية، حيث تمت الموافقة على المشروع خلال اجتماع للحكومة التركية بحضور الرئيس التركي في نهاية أغسطس الماضي، وتم إسناد تنفيذ المشروع لهيئة الإسكان الوطنية الحكومية (TOKİ) المختصة ببناء المساكن والتي اشتهرت بجودة إنشاءاتها.

الغرض من هذه الملاجئ هو توفير شبكة أمان مدني في حال وقوع هجمات مباشرة أو تحليق مكثّف من الطائرات أو القصف أو الصواريخ، لإيواء المدنيين وتخفيف الأضرار البشرية، وكذلك يتضمن المشروع أن تكون الملاجئ مُجهزة تجهيزًا مناسبًا من حيث التحصين والاتصال وتفعيل أنظمة الإنذار المبكر، ويُعتبر مشروع الملاجئ من توصيات تقرير الأكاديمية التابعة لجهاز الاستخبارات الوطنية والصادر بعنوان "حرب الاثني عشر يومًا والدروس المستفادة لتركيا".

وهناك أيضًا خطوات أخرى موازية لذلك من أجل تعزيز أمن الحدود والمجال الجوي، وتشديد الرقابة على الفضاء الجوي، وتحسين الدفاع المضاد للطائرات وتهديدات الطائرات المسيرة، وكلها يتم الإسراع في تطويرها للاستعداد لأي حرب إقليمية قادمة، خاصة في ظل الاحتمالات التي تتحدث عن قرب المواجهة مع إسرائيل.

الموقف التركي من استهداف قطر

في رد فعل سريع وحاسم على استهداف إسرائيل لمكتب وفد حركة "حماس" بالعاصمة القطرية الدوحة، عبّرت أنقرة عن إدانتها الشديدة للهجوم الذي تزامن مع محادثات وقف إطلاق النار، معتبرةً أن استهداف وفد تفاوضي يشير إلى نية مبيّتة لإفشال المساعي السلمية لوقف الحرب في غزة، كما وصف الرئيس التركي "أردوغان" الضربة بأنها انتهاك صارخ للقانون الدولي وسيادة قطر، واتهم حكومة "نتنياهو" بأنها تتبع سياسة "إرهاب الدولة" وتتبنى عقلية "إرهاب توسعي" تهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة، كما أكدت التصريحات الرسمية الصادرة عن وزارة الخارجية التركية أن الهجوم يظهر أن إسرائيل لا تنوي السلام وإنما تمدّد الحرب عبر استهداف المفاوضين أثناء الحديث عن السلام.

تبع ذلك حضور "أردوغان" للقمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة؛ ليعزز بذلك الموقف السياسي الرافض لهمجية الاحتلال الإسرائيلي وسياسته التوسعية، وقد رافق الرئيس أردوغان خلال توجهه إلى قطر، وفد رفيع يشمل رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية (MIT) إبراهيم كالن، ومستشارين كبار للشؤون الأمنية والسياسات الخارجية، ورئيس دائرة الاتصال بالرئاسة برهان الدين دوران، إلى جانب وزراء معنيّين على رأسهم وزير الخارجية التركي "هاكان فيدان"، وذلك للمشاركة في القمة الاستثنائية التي شاركت بها الدول العربية والإسلامية؛ دعمًا لقطر وتنديدًا بالعدوان الإسرائيلي عليها.

طالب أردوغان خلال القمة باتخاذ خطوات عملية منها العزل الاقتصادي لإسرائيل والمساءلة القانونية للمسؤولين الإسرائيليين أمام المحاكم الدولية، مؤكدًا أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تبقى صامتة أمام ما وصفه بالاعتداء الذي يستهدف حق التفاوض وكرامة الشعوب.

معركة كلامية حادة

شهدت الساعات التي تبعت الضربة الإسرائيلية على وفد "حماس" في قطر، معركة كلامية حادة بين بعض المسؤولين في تركيا وإسرائيل، واتخذت منحنى تصاعدي متسارع بشكل غير مسبوق.

بداية هذا السجال الكلامي كانت بعد تغريدة لأردوغان نشرها على منصاته الرسمية وأعلن عبرها عن إدانته لهذا الهجوم الدنيء مهاجمًا إسرائيل بقوله: "نؤكد أن تركيا تقف بكل إمكاناتها إلى جانب أشقائها الفلسطينيين ودولة قطر الحليفة والشريكة الاستراتيجية والصديقة، أما الذين حوّلوا الإرهاب إلى سياسة دولة فلن يبلغوا أهدافهم أبدًا".

بعدها بساعات معدودة خرج الأكاديمي الإسرائيلي "مئير مصري" وكتب تغريدة يهاجم من خلالها تركيا حيث غرد قائلًا: "اليوم قطر وغدًا تركيا.. إسرائيل تحارب الإرهاب" مرفقًا مع التغريدة صورة أرشيفية تجمع الرئيس أردوغان والقائد الشهيد "إسماعيل هنية"، ليهدد بذلك تركيا ويعلن أنها الهدف القادم لإسرائيل بعد الاستهداف الأخير لقطر.

ولأول مرة في إطار المناوشات الكلامية خرج كبير مستشاري أردوغان "أوكتاي سرال" عن صمته ورد على تهديدات الأكاديمي الإسرائيلي بتغريدة له احتوت على ألفاظ ثقيلة في مضمونها وغير مسبوقة، خاصة أنها صادرة عن شخصية ذات مستوى رفيع بالدولة، حيث وصف "أوكتاي" عبرها مئير بـ"كلب إسرائيل" وجاء نص التغريدة على هذا النحو:

"إلى كلب إسرائيل الصهيونية.. من الواضح أنك لا تعرف تركيا والشعب التركي اعلم أن الأمر ليس بعيدًا! قريبًا سيحظى العالم بالسلام مع محوكم من الخريطة، وإذا كنت تتساءل من سيفعل هذا؟"، فهي الدولة التي تفكر في مهاجمتها غدًا!".  

تصعيد شعبي غير مسبوق

وفي سياق متصل بهذا الموضوع كشفت أيضًا وسائل إعلام عبرية أن مجموعة هاكرز "أتراك" تمكنت من نشر رقم الهاتف الشخصي لوزير الدفاع الإسرائيلي "إسرائيل كاتس" وأجرت معه مكالمة فيديو قصيرة، وقد أجاب كاتس على الاتصال قبل أن يتعرض لشتائم من أحد الهاكرز، الذي التقط صورة لوجهه ونشرها لاحقًا، كما أرسلت مجموعة الهاكرز رسائل تهديد له عبر تطبيق "واتساب"، وتضمنت عبارات مثل "موتك قريب" و"سندفنكم في التاريخ"، قبل أن يقوم كاتس بحظر الرقم.

وتعليقًا على ما قامت به هذه المجموعة من الهاكرز التركي، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي "كاتس" مهددًا "أردوغان" بشكل غير مباشر بقوله: "عصابات إسلامية مُنظَّمة من مختلف دول العالم تتصل بهاتفي الشخصي، وتترك رسائل مليئة بالكراهية والتهديدات، سيواصلون الاتصال بي وتهديدي، وسأواصل إصدار الأوامر بتصفية قادتهم".

نتنياهو يتحدى أردوغان

وفي أحدث تطور للسجالات الكلامية التي تحدث بين تركيا وإسرائيل، ففي كلمة ألقاها بالقدس المحتلة روى رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" تفاصيل لقاء جمعه عام 1998 برئيس الوزراء التركي الراحل "مسعود يلماز"، وقال نتنياهو إنه عرض على "يلماز" تبادل قطعة أثرية يهودية قديمة بآلاف القطع العثمانية الموجودة في المتاحف الإسرائيلية، لكن يلماز رفض بشدة، مبررًا ذلك بوجود قاعدة إسلامية صاعدة في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان، الذي كان حينها رئيس بلدية إسطنبول الكبرى.

وأضاف نتنياهو خلال كلمته بالقدس: "بعد 2000 عام استعدنا مدينتنا واستعدنا استقلالنا وأقمنا دولة فريدة وجيشًا قويًا"، ثم وجه كلامه إلى الرئيس التركي "أردوغان" قائلًا: "القدس مدينتنا يا أردوغان، ليست مدينتكم.. ستبقى مدينتنا دائمًا ولن تُقسم مرة أخرى".

ويأتي كلام نتنياهو هذا ردًا على تصريحات أردوغان في أكتوبر 2020 بالبرلمان التركي، حين قال: "القدس مدينتنا ومنّا"، مشيرًا إلى أنها إرث عثماني ورمز إسلامي ومؤكدًا التزام تركيا بقضية فلسطين والقدس.

كلمة أخيرة

في المحصلة، تبدو تركيا وهي تخطّ طريقها نحو مرحلة جديدة من الاستعداد الشامل، مدركةً أن معركة المستقبل مع إسرائيل لن تُحسم فقط في ميادين النار، بل في عمق المجتمع وبنيته التحتية ومجاله الرقمي أيضًا، ولذلك فإن خطوات كتسليم الجيش منظومة "القبة الفولاذية" المحلية، والشروع في بناء شبكة ملاجئ على امتداد 81 ولاية، ليسا مجرد خطوات تقنية، بل رسائل سياسية مفادها أن تركيا عازمة على حماية شعبها وتأمين جبهتها الداخلية في مواجهة أي سيناريو محتمل.

وفي المقابل فإن موقف تركيا الرافض لاستهداف إسرائيل لقطر ووفد حركة "حماس" المفاوض، وما تبع ذلك من سجالات كلامية وتصعيد إلكتروني وحتى مواجهة مفتوحة على مستوى الرمزية الدينية حول "القدس"، كلها تكشف أن الصراع بين تركيا وإسرائيل دخل طورًا متعدد الأبعاد تتداخل فيه الأسلحة مع الأفكار والجبهات مع الرموز، ليصبح التحدي الأكبر أمام تركيا اليوم ليس فقط في امتلاك أدوات الردع العسكري، بل في تثبيت معادلة متكاملة توازن بين الردع الصلب والقوة الناعمة، لتُثبت أن معركتها ليست معركة دولة ضد دولة، بل معركة هوية وكرامة أمة بأسرها.

أعلى