• - الموافق2025/09/02م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تركيا ومعركة الخروج من

القرن الحالي لن يُدار بالسلاح التقليدي فقط، بل بالقدرة على التحكم في البيانات والمعلومات والبنى الرقمية، وتشكل الخطوات التي اتخذتها تركيا، مثل إطلاق منصة "نيكست سوسيال"، بداية جادة، فهل هي كافية لتحقيق الاستقلال الكامل في هذا القطاع الهام.


كان مفهوم السيادة الوطنية يرتبط منذ عقود بالحدود الجغرافية والعسكرية والاقتصادية، لكن في القرن الحادي والعشرين أُضيف بُعد جديد لا يقل خطورة عنهم، وهو السيادة الرقمية، فالعالم اليوم يعيش في فضاء تتحكم فيه الخوارزميات، وتدير تفاصيله منصات التواصل العملاقة، وتُختزن بياناته في مراكز معلومات بعيدة عن سيطرة الدول، وبالتالي فلم يعد تهديد الأمن القومي محصورًا في الطائرات والدبابات، بل صار يمتد إلى إمكانية تعطيل البنى التحتية عبر هجوم إلكتروني أو تسريب بيانات ملايين المواطنين، وفي هذا السياق تبرز تركيا كإحدى الدول الطامحة إلى تقليل تبعيتها للنظام الرقمي الغربي، عبر مشاريع وطنية وخطوات عملية تهدف إلى بناء منظومة مستقلة تحفظ لها ما تسميه بـ"السيادة الرقمية".

الهيمنة الرقمية الغربية وأبعادها

تهيمن شركات أمريكية وأوروبية كبرى مثل "جوجل" و"مايكروسوفت" و"ميتا" على الجزء الأكبر من حركة الإنترنت العالمية، وتتحكم هذه الشركات في مسارات البحث والتواصل والتجارة الإلكترونية وتخزين البيانات، كما أنها تدير المنصات التي يستخدمها مليارات البشر يوميًا، وتكفي الإشارة إلى أن تطبيق "واتساب" مثلًا يضم أكثر من 2.7 مليار مستخدم حول العالم، وأن تطبيق "فيسبوك" يستخدمه نحو 3 مليارات شخص شهريًا، ما يمنحه قدرة هائلة على تشكيل الوعي الجمعي والتحكم في تدفق المعلومات.

هذه الهيمنة ليست اقتصادية فقط، بل سياسية وأمنية أيضًا، فالغرب قادر عبر هذه الأدوات على ممارسة ضغوط غير مباشرة على الدول الأخرى، وتجربة روسيا بعد حربها مع أوكرانيا أوضح مثال، إذ فُرضت عليها قيود رقمية هائلة، بدءًا من حرمانها من أنظمة الدفع العالمية وصولًا إلى تقييد عمل منصات كبرى داخل أراضيها، هذه التجربة وغيرها جعلت "أنقرة" تدرك أن الاعتماد الكلي على هذه المنصات الغربية يضعها في موقع هش، وقد يُستخدم كسلاح ضدها مع أقرب خلاف سياسي أو أمني.

دروس حرب الاثني عشر يومًا

أخذت تركيا مؤخرًا خطوة جادة في إعادة تقييم موقعها داخل النظام الرقمي العالمي، بعد نشر الأكاديمية الوطنية للاستخبارات تقريرًا بعنوان "حرب الاثني عشر يومًا والدروس المستفادة لتركيا"، وقد تناول التقرير الحرب الأخيرة التي وقعت بين "إسرائيل وإيران"، والتي كشفت عن حجم التفوق التكنولوجي الإسرائيلي نتيجة الدعم الكبير من منصات عالمية مثل "فيسبوك وانسجرام وواتساب وإكس"، وما وفرته من بيانات وتحليلات دقيقة ساعدت في استهداف شخصيات بعينها وإصابة الهدف بدقة فائقة أثناء هذه الحرب.

وقد أبرز التقرير كيف جرى اغتيال قيادات ميدانية في "إيران وفلسطين" عبر تتبع تحركاتهم الرقمية، مثل الناطق الرسمي باسم سرايا القدس "أبو حمزة" الذي استُهدف بعد استخدامه لتطبيقات التواصل الاجتماعي، هذا النموذج كان بمثابة جرس إنذار لتركيا، التي رأت في هذه التجربة دليلًا على خطورة التبعية المطلقة للشركات الغربية، وضرورة بناء أدوات محلية تُمكّنها من التحكم في بياناتها وحماية مواطنيها من الاستغلال الرقمي الخارجي.

منصات محلية وتجارب بديلة

انطلاقًا من هذه الرؤية، بدأت تركيا تتخذ إجراءات عملية لتحقيق استقلال نسبي في المجال الرقمي، وتمثلت واحدة من أبرز هذه الخطوات في إطلاق منصة "نيكست سوسيال" في شهر يوليو الماضي على يد "سلجوق بيرقدار" بصفته رئيس مؤسسة التكنولوجيا التركية، وقد حظيت المنصة بدعم حكومي مباشر، إذ كان أردوغان أول من دشّنها بمشاركة رسمية، ليعلن بذلك تبني الدولة لهذا المشروع كجزء من معركة السيادة الرقمية، وقد استطاعت منصة "نيكست سوسيال" أن تجذب خلال أسابيع قليلة أكثر من مليون مستخدم، بينهم وزراء ومسؤولون كبار، وهو رقم يُظهر اهتمامًا رسميًا وشعبيًا لا يمكن تجاهله.

 

تجد تركيا نفسها محصورة بين هذين النموذجين، فهي لا ترغب في أن تكون مجرد مستهلك للتكنولوجيا الغربية، لكنها في الوقت نفسه لا تريد أن تستبدل التبعية لواشنطن وبروكسل بتبعية لبكين

إلى جانب ذلك، أطلقت وزارة التربية الوطنية خطة للتحول من استخدام مجموعات "واتساب" المدرسية إلى تطبيق تركي محلي يُعرف باسم "BiP"، على أن يبدأ اعتماده رسميًا في العام الدراسي (2025 2026)، وتشير الأرقام إلى أن أكثر من (20 مليون ولي أمر و1.2 مليون معلم) يعتمدون على مجموعات واتساب لتبادل المعلومات حول الطلاب، بما في ذلك صور ورسائل رسمية، وقد أثارت هذه البيانات الحساسة مخاوف بشأن إمكانية تسربها إلى جهات أجنبية، لذا فإن الانتقال إلى منصة محلية وطنية يُنظر إليه باعتباره خطوة مهمة نحو تعزيز السيادة الرقمية والخصوصية وحماية المعلومات الشخصية، خاصة بالنسبة للأطفال في المراحل الدراسية المختلفة.

التحديات والعقبات

على الرغم من هذه الخطوات الطموحة، فإن طريق تركيا نحو "الاستقلال الرقمي" ليس مفروشًا بالورود، فالمشروعات المحلية مثل منصة "نيكست سوسيال" تواجه تحديًا كبيرًا يتمثل في كسب ثقة المستخدمين خارج القاعدة الموالية للحكومة، فالكثير من الشباب والمعارضة يتخوفون من الرقابة الحكومية، ويخشون أن تتحول المنصة إلى أداة لمتابعة آرائهم بدلًا من أن تكون مساحة حرة للتواصل، وهذا القلق قد يعيق توسعها لتصبح منافسًا حقيقيًا لعمالقة التواصل مثل "إكس" أو "انستغرام" أو "فيس بوك".

أما على مستوى تطبيق "BiP" المحلي، فرغم أنه بديل مقبول يقدم خدمات مشابهة لتطبيق "واتساب"، إلا أن مسألة الانتقال الكامل من تطبيق عالمي إلى آخر محلي ستتطلب وقتًا طويلًا وثقة راسخة من المستخدمين، وقد تلجأ الحكومة إلى فرضه إداريًا في المؤسسات التعليمية، لكنه سيظل بحاجة إلى تطوير مستمر وإضافة ميزات مبتكرة إذا أراد أن يتحول إلى منصة رئيسية لا مجرد أداة إلزامية.

تُضاف إلى ذلك عقبات أخرى مثل الفجوة التكنولوجية بين تركيا والدول الغربية، فشركات مثل "جوجل" و"ميتا" تستثمر سنويًا أكثر من 200 مليار دولار في البحث والتطوير، وهو رقم ضخم يفوق ميزانيات دول بأكملها، كما أن تطوير بدائل محلية في مجالات مثل أنظمة التشغيل أو محركات البحث أو الذكاء الاصطناعي يتطلب استثمارات طويلة الأمد، وهو الأمر الذي قد لا يتناسب دائمًا مع وضع الاقتصاد التركي الذي يعاني من تحديات مثل التضخم وتراجع قيمة العملة المحلية.

البعد الجيوسياسي للاستقلال الرقمي

لا شك أنه لا يمكن فصل التحرك التركي عن السياق الدولي الأوسع في ملف "السيادية الرقمية"، فالعالم يعيش سباقًا محمومًا بين القوى الكبرى للهيمنة على المستقبل الرقمي، فمن جهة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يسعيان للحفاظ على تفوقهما في هذا المجال، بينما تطرح الصين نموذجًا مختلفًا قائمًا على "السيادة الرقمية" المشددة، عبر شركات مثل "هواوي" ومنصات مثل "وي تشات" و"تيك توك".

ولذلك تجد تركيا نفسها محصورة بين هذين النموذجين، فهي لا ترغب في أن تكون مجرد مستهلك للتكنولوجيا الغربية، لكنها في الوقت نفسه لا تريد أن تستبدل التبعية لواشنطن وبروكسل بتبعية لبكين، لذلك تميل إلى خيار ثالث يقوم على بناء منظومة محلية مستقلة، تضمن من خلالها الحفاظ على بيانات مواطنيها وتعزيز خصوصية معلوماتهم خاصة في أوقات الحروب، حيث تتأهب تركيا لحرب إقليمية قد تندلع في أي وقت، خاصة مع توحش الاحتلال الإسرائيلي وسعيه لتحقيق خريطة "إسرائيل الكبرى" المزعومة والتي تشمل احتلال العديد من دول المنطقة وإضعاف عدد آخر من الدول التي تحاول الاستقلال والنهوض، ومن الدول التي تسعى إسرائيل لإضعافها وإيقاف تقدمها "تركيا"، وذلك حسب تقارير الاستخبارات التركية الأخيرة.

مستقبل مشروع "الاستقلال الرقمي" التركي

السؤال الأهم الآن هو: هل تستطيع تركيا فعلًا تحقيق قدر ملموس من الاستقلال الرقمي؟ والجواب يرتبط بعدة عوامل، أولها الإرادة السياسية، إذ يتطلب المشروع رؤية طويلة المدى تتجاوز الحسابات اللحظية قصيرة الأمد، وثانيها الشراكة مع القطاع الخاص، فالحكومة وحدها لن تستطيع منافسة شركات عالمية تملك خبرات عميقة ورؤوس أموال ضخمة، وثالثها بناء الكوادر البشرية عبر تطوير التعليم وتشجيع البحث العلمي، إذ لا يمكن تحقيق استقلال رقمي دون جيل من المبرمجين والمهندسين القادرين على الابتكار.

وبحسب تقارير اقتصادية، فإن قطاع التكنولوجيا في تركيا نما بنسبة تقارب 16% سنويًا خلال العقد الأخير، ووصلت قيمة الاستثمارات في الشركات الناشئة التركية إلى أكثر من 1.5 مليار دولار في عام 2022، وهذه الأرقام تعكس بالطبع إمكانات لا يُستهان بها، لكنها تظل متواضعة مقارنة بحجم الإنفاق الغربي في هذا القطاع الهام والحساس.

كلمة أخيرة

يمكن القول إن معركة تركيا مع "الهيمنة الرقمية الغربية" تعكس إدراكًا عميقًا بأن القرن الحالي لن يُدار بالسلاح التقليدي فقط، بل بالقدرة على التحكم في البيانات والمعلومات والبنى الرقمية، وتشكل الخطوات التي اتخذتها تركيا حتى الآن، مثل إطلاق منصة "نيكست سوسيال" واعتماد التطبيق المحلي "BiP" في المدارس، بداية جادة، لكنها ليست كافية لتحقيق الاستقلال الكامل في هذا القطاع الهام، فالطريق طويل ومعقد ويحتاج إلى استثمارات ضخمة وثقة شعبية وتحفيز دائم وتطوير على مستوى الهدف المنشود.

ولكن على الرغم من تلك التحديات فإن ما يميز التجربة التركية هو وضوح الرؤية والإصرار على أن السيادة الوطنية لم تعد تنحصر في الحدود الجغرافية أو القرار السياسي، بل تشمل أيضًا القدرة على حماية الفضاء الرقمي من الهيمنة الخارجية وخاصة الغربية، وإذا نجحت تركيا في تحويل هذه الرؤية إلى واقع مع مرور الوقت، فقد تقدم نموذجًا ملهمًا لدول أخرى تبحث عن استقلالها الرقمي في عالم تتحكم فيه الشركات العملاقة والدول الكبرى.

أعلى