أجبرت حرب السابع من أكتوبر دولة الكيان على إعادة التفكير الجذري في نظريتها الأمنية، حيث لم تعد الأسس التقليدية كافية في عالم تتشابك فيه التهديدات بين الجبهات المختلفة، وتلعب فيه الجماعات غير النظامية دورًا محوريًا
تعدّ النظرية الأمنية
الصهيونية أحد الركائز الأساسية في بناء الدولة العبرية منذ تأسيسها عام 1948، وهي
تتأثر بشكل مباشر بالبيئة الإقليمية والدولية، ومع تطور التهديدات الخارجية، سواء
من الدول أو من الفاعلين (حركات المقاومة) مثل حزب الله وحماس، شهدت النظرية
الأمنية الصهيونية تغييرات استراتيجية وتكتيكية تهدف إلى الحفاظ على التفوق العسكري
والأمن القومي الصهيوني.
أولاً: الأسس التقليدية
للنظرية الأمنية الصهيونية.
تشكلت النظرية الأمنية
الصهيونية تقليديًا حول ثلاث ركائز رئيسية:
1. الردع: عبر بناء قوة
عسكرية متفوقة وضربات عقابية ضد أي تهديد، ومنع العدو الخارجي من شن هجوم من خلال
إقناعه بكلفة الرد العسكري الصهيوني.
2. الإنذار المبكر: من
خلال قدرات استخباراتية عالية المستوى، لتحديد نوايا الأعداء قبل أي تصعيد، ورصد أي
نية أو استعداد للهجوم قبل وقوعه.
3. الحسم السريع: عبر
عمليات عسكرية خاطفة وسريعة تنهي التهديد في أقصر وقت ممكن، ونقل المعركة إلى أراضي
العدو، وإنهاء الحرب بسرعة نظراً لضعف العمق الجغرافي الصهيوني.
وقد تم تطوير هذه الركائز
بناء على خبرة الحروب الكبرى (1948، 1967، 1973)، وهي حروب كانت في أغلبها مع دول
نظامية.
لقد مثلت عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023،
تحولًا صادمًا وغير مسبوق في مسار الصراع الفلسطيني–
الصهيوني، حيث كشفت عن خلل بنيوي عميق في العقيدة الأمنية الصهيونية،
وخاصة في
ركائزها الثلاث: الردع، والإنذار المبكر، والحسم العسكري فقد ساهمت في:
1- انهيار الردع: فقد
فشلت دولة الكيان الصهيوني في ردع حماس، رغم سنوات من العمليات العسكرية
والتهديدات، وأظهرت محدودية فعالية القوة العسكرية وحدها في كبح الجماعات المسلحة
غير النظامية، فإن الهجوم المفاجئ وواسع النطاق من غزة أسقط هيبة الردع التي بنتها
دولة الكيان منذ عقود.
|
لقد أجبرت الصدمة الاستراتيجية للسابع من أكتوبر المؤسسة الأمنية الصهيونية
على مراجعة عميقة لمفاهيمها، فلم تعد الحدود الهادئة تعني "استقرارًا
أمنيًا"،
وظهر التركيز على الاستعداد لحرب طويلة الأمد بدلًا من حسم سريع |
2- فشل الإنذار المبكر:
حيث كشف هجوم السابع من أكتوبر عن تقصير استخباري كبير، وتم تجاهل إشارات تحذيرية
مسبقة، وتبين اعتماد مفرط على التكنولوجيا مقابل ضعف في الفهم السياقي والإنساني
للعدو، في الوقت الذي اعتمدت فيه دولة الكيان بشكل كبير على تقنيات استخبارية
متطورة لرصد أي تهديدات.
3- تراجع الحسم العسكري:
في الوقت الذي اعتمدت فيه العقيدة الأمنية الصهيونية على قدرة سريعة للحسم وإنهاء
المعارك في وقت قصير، إلا أن العملية البرية في غزة، والتي استغرقت سنوات وما زالت،
كشفت عجزًا في تحقيق أهداف الحسم السريع، فالمقاومة الفلسطينية، وخصوصًا في بيئات
حضرية ومعقدة كغزة، حدّت من قدرة الجيش الصهيوني على تحقيق نصر واضح.
ولقد أجبرت الصدمة الاستراتيجية للسابع من أكتوبر المؤسسة الأمنية الصهيونية على
مراجعة عميقة لمفاهيمها، فلم تعد الحدود الهادئة تعني "استقرارًا أمنيًا"،
وظهر التركيز على الاستعداد لحرب طويلة الأمد بدلًا من حسم سريع، وإعادة
الاعتبار إلى التواجد البشري والميداني بدلًا من الاعتماد الكلي على التكنولوجيا،
والتفكير في دمج الجبهة الداخلية في النظرية الأمنية، باعتبارها عرضة مباشرة
للتهديد، وقد دعا مسؤولون سابقون مثل رؤساء الشاباك والجيش إلى صياغة نظرية أمنية
جديدة تعكس طبيعة التهديدات الحديثة، خصوصًا من الفاعلين غير الدوليين(حركات
المقاومة)، وتستند إلى شمولية في التعامل مع التهديدات المركبة (عسكرية، سيبرانية،
داخلية).
ثانياً: التحولات في طبيعة
التهديدات الخارجية.
منذ التسعينيات، واجهت
دولة الكيان تحولاً في نوعية التهديدات:
- التهديدات من الفاعلين
غير الدوليين: (حركات المقاومة) مثل حركة حماس وحركة الجهاد في غزة.
- الصواريخ الدقيقة
والطائرات المسيّرة: والتي شكلت تهديداً مباشراً للبنية التحتية والمراكز السكانية
الصهيونية.
- البرنامج النووي
الإيراني: والذي تعتبره دولة الكيان تهديداً وجودياً يتطلب سياسة وقائية وربما
ضربات استباقية.
- التهديدات السيبرانية:
تصاعدت في الآونة الأخيرة، وتعدّ ساحة جديدة للعمليات الأمنية.
ثالثاً: متغيرات في
النظرية الأمنية الصهيونية.
1. تعزيز القدرات الدفاعية
إلى جانب الهجومية: على عكس العقيدة السابقة التي ركزت على الهجوم، فقد بدأت دولة
الكيان بالاستثمار في أنظمة دفاعية متقدمة، أبرزها: القبة الحديدية: لاعتراض
الصواريخ قصيرة المدى، ومقلاع داوود وحيتس: لمواجهة الصواريخ المتوسطة والطويلة
المدى.
2. التحول إلى "الردع
الذكي": فقد أصبح الردع الصهيوني أكثر تعقيداً، حيث يشمل رسائل سياسية وعسكرية
مركبة، ويعتمد أحياناً على "الغموض البنّاء"، كما في ملف إيران.
3. العمليات السرية
والاغتيالات النوعية: حيث ازدادت العمليات غير التقليدية (الحرب الرمادية) ضد
الأعداء، سواء داخل إيران أو في سوريا أو لبنان أو غزة.
4. الحرب السيبرانية: فقد
باتت دولة الكيان قوة عالمية في مجال الحرب السيبرانية، وتستخدم هذه القدرات لشل
بنى تحتية معادية وصد هجمات إلكترونية محتملة.
5. بناء تحالفات إقليمية:
ومن أبرز المتغيرات الاستراتيجية اتفاقيات التطبيع (اتفاقيات إبراهيم) التي وسعت
دائرة الحلفاء الإقليميين، ما خلق محوراً مضاداً لإيران ومهد لتنسيق أمني
واستخباراتي واسع.
رابعاً: تحديات النظرية
الأمنية الصهيونية الجديدة.
- صعوبة الحسم ضد الفاعلين
غير الدوليين (حركات المقاومة)، نظراً لتغلغلهم داخل السكان المدنيين.
- تصاعد الانتقادات
الدولية في حال حصول أضرار مدنية كبيرة أثناء العمليات.
- عدم الاستقرار الإقليمي
(لبنان، سوريا، العراق، اليمن)، والذي يصعّب عملية التنبؤ بالتهديدات من جهتها.
- المجتمع الصهيوني
الداخلي، حيث تتزايد الأصوات التي تنتقد السياسات الأمنية المكلفة والمغامرات
العسكرية.
خامساً: انعكاسات التغير
في النظرية الأمنية الصهيونية.
1- على دولة الكيان نفسها:
- الأمن الداخلي
والاستقرار المجتمعي: زيادة التوترات الاجتماعية والسياسية، والتحول نحو تشديد
الإجراءات الأمنية (مثل سياسات القمع أو التوسع في الاستيطان) الذي قد يؤدي إلى
تصاعد الانقسامات داخل المجتمع الصهيوني، خاصة بين اليهود العلمانيين والمتدينين،
أو بين العرب واليهود داخل دولة الكيان، وتنامي الاحتجاجات بسبب السياسات الأمنية
الأكثر تطرفا،ً والتي قد تولد معارضة داخلية واسعة، خصوصاً إذا رافقها تقييد
للحريات، أو توسيع صلاحيات الجيش والأجهزة الأمنية على حساب المدنيين.
- العلاقات المدنية -
العسكرية، وتعاظم دور المؤسسة العسكرية: فأي تغير نحو سياسة أمنية أكثر عدوانية أو
تدخلًا قد يعزز من نفوذ الجيش في الحياة السياسية، وقد يثير مخاوف بشأن التوازن بين
السلطات العسكرية والمدنية، وتصاعد النفوذ الأمني قد يؤدي إلى تآكل بعض المبادئ
الديمقراطية، مثل حرية التعبير أو الرقابة البرلمانية على السياسات الأمنية.
- الاقتصاد الوطني: زيادة
الإنفاق العسكري والتحول في العقيدة الأمنية لصالح الردع أو الهجوم الاستباقي
غالباً ما يتطلب ميزانيات دفاعية أعلى، مما يؤثر سلباً على تمويل القطاعات
الاجتماعية والاقتصادية، وتراجع الاستثمار الأجنبي وخوف المستثمرين إذا ارتبطت
التغيرات الأمنية بعدم استقرار أو توتر إقليمي دائم.
- الهوية الوطنية
والانقسام السياسي: السياسات الأمنية عادة ما تكون موضع جدل داخل الكنيست وبين
القوى السياسية، وتغيرها قد يعمق الخلاف بين اليمين واليسار، وتصاعد الانقسام
الحزبي، وإضعاف الثقة في القيادة السياسية خاصة إذا فشلت السياسات الأمنية الجديدة
في تحقيق أهدافها (كما يحدث في حرب غزة أو العمليات في لبنان).
- الردع الإقليمي ومستوى
التهديدات: ففي حال تكررت الاختراقات الأمنية أو فشلت العمليات العسكرية الصهيونية
في تحقيق أهدافها، قد يؤدي ذلك إلى تقويض صورة دولة الكيان كقوة لا يُستهان بها،
وفقدان الردع التقليدي، ويدفع أطرافاً مثل إيران، وحزب الله، أو حماس إلى تطوير
استراتيجيات مضادة قد تزيد من المخاطر الأمنية طويلة الأمد.
- العلاقات الدولية: توتر
العلاقات مع الحلفاء الغربيين، خاصة إذا اتُهمت السياسات الأمنية بانتهاك حقوق
الإنسان، أو خالفت القانون الدولي، وعزلة دبلوماسية محتملة خاصة إذا ترافق التغير
الأمني مع تصعيد دائم في الضفة الغربية أو في غزة، ما قد يؤدي إلى فقدان الدعم
الدولي، أو تعرض دولة الكيان لضغوط متزايدة في الأمم المتحدة.
2. على محور المقاومة:
- تعزيز ثقة الفصائل: أظهر
فشل دولة الكيان في منع أو احتواء هجوم حماس، وإمكانية ضرب العمق الصهيوني بأساليب
غير تقليدية، مما أعطى دفعة معنوية واستراتيجية لفصائل أخرى مثل حزب الله
والحوثيين.
- اتساع ساحات المواجهة:
باتت دولة الكيان تتعامل مع جبهات متعددة في آن واحد ما يرهق قدرتها على الرد
والحسم في وقت واحد.
3. على حلفاء دولة الكيان
في الإقليم:
- قلق من تراجع الردع
الصهيوني: حلفاء الكيان باتوا يراجعون رهاناتهم، خوفًا من أن تكون تل أبيب غير
قادرة على ضبط التهديدات المشتركة (مثل إيران أو الجماعات المسلحة المتحالفة معها).
- فتور في التطبيع: أعادت
بعض الدول التفكير في سرعة التطبيع، خاصة بعد المجازر الصهيونية في غزة، ما أضعف
الزخم السياسي لاتفاقات إبراهام.
4. على ترتيبات الأمن
الإقليمي:
- التحول من سياسة
"الردع" إلى إدارة التهديدات المركبة.
- تعزيز دور الولايات
المتحدة في تهدئة التوتر الإقليمي، مقابل تراجع فعالية "الاحتواء الصهيوني".
- صعود دعوات لإنشاء
منظومات أمن إقليمية مشتركة، خصوصًا لحماية الممرات البحرية والخطوط الجوية من
التهديدات الجديدة.
تشهد النظرية الأمنية
الصهيونية تحولات عميقة تعكس تغير البيئة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، فبينما لا
تزال دولة الكيان تعتمد على تفوقها العسكري والتكنولوجي، فإنها باتت أكثر ميلاً نحو
الدفاع والتعاون الإقليمي والردع الذكي، في محاولة للتكيّف مع تهديدات متغيرة وأكثر
تعقيداً من ذي قبل، ومع استمرار تلك التهديدات، من المرجح أن تستمر في تطوير
نظريتها الأمنية ضمن إطار استباقي متجدد، فقد أجبرت حرب السابع من أكتوبر دولة
الكيان على إعادة التفكير الجذري في نظريتها الأمنية، حيث لم تعد الأسس التقليدية
كافية في عالم تتشابك فيه التهديدات بين الجبهات المختلفة، وتلعب فيه الجماعات غير
النظامية دورًا محوريًا، أما على المستوى الإقليمي، فإن تغير العقيدة الأمنية
الصهيونية يعكس تحولات أعمق في ميزان القوى، ستؤثر حتمًا في مستقبل الصراع العربي–الصهيوني،
وفي ترتيبات الأمن الإقليمي لعقود قادمة.