لم تكن الخطط المتعلقة بتهجير الفلسطينيين وليدة اللحظة، إذ تسعى إسرائيل منذ سنوات إلى تقويض قدرة سكان غزة على البقاء، من خلال فرض حصار خانق، وشن عمليات عسكرية متكررة، وتدمير البنية التحتية
على مدار
العقود الماضية، بقيت مسألة التهجير واحدة من أخطر القضايا التي تهدد الوجود
الفلسطيني، لا سيما في قطاع غزة الذي يتعرض بشكل متواصل لضغوط سياسية وعسكرية
واقتصادية هائلة، ومع تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع منذ أكثر من
عام ونصف العام حتى الآن، بدأت تتكشف ملامح مخطط يهدف إلى إعادة توطين سكان غزة
خارج أرضهم، التقارير المتزايدة والتصريحات العلنية تشير إلى أن الولايات المتحدة،
بقيادة دونالد ترامب، وإسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو، يعكفان على تنفيذ خطة تستند
إلى فرض واقع جديد يؤدي في نهاية المطاف إلى تفريغ القطاع من سكانه. فكيف يمكن فهم
هذه الخطة؟ وما هي الشواهد التاريخية التي تبرهن على أن هذا المخطط ليس جديدًا؟ وما
هي السيناريوهات المتوقعة لمستقبل غزة في ظل هذه التطورات؟
خطط ودعم مفتوح
منذ وصوله إلى
السلطة في فترته الأولى، أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دعمًا غير مسبوق
للسياسات الإسرائيلية، بدءًا من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مرورًا بدعم
الاستيطان في الضفة الغربية، وصولًا إلى فترته الثانية التي بدأها بالتعامل مع غزة
باعتبارها "عبئًا يجب التخلص منه". في الآونة الأخيرة، ظهرت تقارير تتحدث عن نقاشات
سرية بين واشنطن وتل أبيب حول إمكانية إعادة توطين الغزيين في دول أخرى،
وفي
28 مارس 2025،
كلّف نتنياهو جهاز الموساد بالبحث عن دول تقبل استقبال أعداد كبيرة من الفلسطينيين
النازحين من غزة. حيث تم إنشاء مديرية خاصة للإشراف على ما يُسمى بـ"المغادرة
الطوعية" لسكان غزة،
من خلال توفير تسهيلات مالية ودبلوماسية لتلك الدول مقابل استقبال اللاجئين
الفلسطينيين، ولم تجد هذه المقترحات حتى الآن سوى الرفض التام، حيث أعربت بعض الدول
عن عدم معرفتها بهذه المحادثات، في حين رفضت دول أخرى الفكرة تماما.
|
في عام 1948م، شهدت فلسطين واحدة من أكبر عمليات التهجير القسري في التاريخ
الحديث، حيث أُجبر ما بين 750 ألف إلى مليون فلسطيني على مغادرة ديارهم
بسبب العمليات العسكرية التي شنتها الميليشيات الصهيونية |
لم تكن الخطط
المتعلقة بتهجير الفلسطينيين وليدة اللحظة، إذ تسعى إسرائيل منذ سنوات إلى تقويض
قدرة سكان غزة على البقاء، من خلال فرض حصار خانق، وشن عمليات عسكرية متكررة،
وتدمير البنية التحتية، مما يجعل القطاع غير قابل للحياة، وقد زادت وتيرة هذا
التخريب والدمار الواسع خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القطاع، تصريحات بعض
المسؤولين الإسرائيليين كشفت عن نوايا واضحة لإجبار الفلسطينيين على مغادرة القطاع
عبر الضغط المستمر، وهو ما يتوافق مع ما يُعرف في الأدبيات الصهيونية بمفهوم
"الترحيل الطوعي"، وقد كشفت تقارير متعددة عن لقاءات دبلوماسية بين مسؤولين
أمريكيين وإسرائيليين مع حكومات بعض الدول الإفريقية والآسيوية، ومنها دول عربية،
لمناقشة مدى استعدادها لاستقبال أعداد من اللاجئين الفلسطينيين، كما تزامنت هذه
اللقاءات مع تكثيف العمليات العسكرية في غزة، وهو ما يُعد بمثابة تهيئة ميدانية
لإجبار السكان على المغادرة.
شواهد تاريخية
على التهجير
في عام 1948م، شهدت فلسطين واحدة من أكبر عمليات التهجير القسري في التاريخ الحديث،
حيث أُجبر ما بين 750 ألف إلى مليون فلسطيني على مغادرة ديارهم بسبب العمليات
العسكرية التي شنتها الميليشيات الصهيونية، هذا التهجير لم يكن مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل كان جزءًا من خطة
منهجية لإفراغ فلسطين من سكانها الأصليين. تم تدمير أكثر من 500 قرية فلسطينية،
ومُسحت من الوجود، في محاولة لطمس الهوية الفلسطينية وتغيير التركيبة الديموغرافية
للمنطقة. كما ارتُكبت مجازر مروعة، مثل مذبحة دير ياسين في 9 أبريل 1948م، التي
أسفرت عن مقتل عشرات المدنيين، مما أدى إلى خلق حالة من الذعر دفعت المزيد من
الفلسطينيين إلى الفرار.
في يونيو
1967م، شنت إسرائيل حربًا ضد الدول العربية المجاورة، انتهت باحتلالها للضفة
الغربية، وقطاع غزة، وسيناء، وهضبة الجولان. نتج عن هذا الاحتلال تهجير ما بين
280,000 إلى 325,000 فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى نزوح حوالي
100,000 سوري من الجولان، هذا التهجير لم يكن فقط نتيجة للعمليات العسكرية، بل تلاه
فرض سياسات تهدف إلى تغيير الواقع الديموغرافي، مثل بناء المستوطنات وتوسيعها، مما
أدى إلى تقليص المساحة المتاحة للفلسطينيين وزيادة الضغط عليهم للهجرة.
بالإضافة إلى
التهجير المباشر، استخدمت إسرائيل سياسات ممنهجة للتضييق على الفلسطينيين في قطاع
غزة والضفة الغربية، بهدف دفعهم إلى الهجرة الطوعية. شملت هذه السياسات فرض حصار
اقتصادي خانق، تقييد حركة الأفراد والبضائع، وتقليص فرص العمل، وفي بعض الحالات تم
تقديم حوافز مالية للاجئين الفلسطينيين لمغادرة القطاع. على سبيل المثال، في عامي
1956-1957، خصص وزير المالية الإسرائيلي ليفي أشكول نصف مليون دولار لتمويل هجرة
200 عائلة فلسطينية لاجئة من غزة. كما كشفت تقارير عن برامج سرية إسرائيلية تهدف
إلى تشجيع هجرة الفلسطينيين من غزة، من خلال تسهيل سفرهم إلى دول أخرى وتقديم دعم
مالي لهم، هذه السياسات مجتمعة ساهمت في خلق بيئة معيشية صعبة، تدفع الفلسطينيين
إلى البحث عن حياة أفضل خارج وطنهم.
العوامل الدافعة
نحو التهجير
هناك مجموعة
من العوامل التي تحمل في طياتها استراتيجية متعددة الأوجه تهدف إلى دفع سكان غزة
نحو الهجرة، من خلال خلق ظروف معيشية قاسية وتضييق الخيارات المتاحة أمامهم، مما
يجعل البقاء في القطاع تحديًا يوميًا، أبرز هذه العوامل:
* التدهور
الإنساني:
يواجه قطاع
غزة أزمة إنسانية خانقة نتيجة للحصار المستمر منذ أكثر من 16 عامًا، والذي تفاقم
بشكل كبير بسبب الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على القطاع منذ أكتوبر 2023
واستمرت لأكثر من عام ونصف. أدت هذه الحرب إلى تدمير واسع للبنية التحتية، حيث تشير
التقارير إلى أن إعادة إعمار غزة قد تستغرق عقودًا في ظل الظروف الحالية.
* معدلات
بطالة مرتفعة:
تجاوزت معدلات
البطالة في غزة 79% قبل اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، مما جعل تأمين لقمة العيش
أمرًا بالغ الصعوبة لسكان القطاع، تسببت الحرب في مزيد من التدهور الاقتصادي، حيث
انخفض النشاط الاقتصادي بشكل حاد، مما أدى إلى تفاقم معدلات الفقر والبطالة.
* انهيار
البنية التحتية الصحية:
تعرض النظام
الصحي في غزة لأضرار جسيمة نتيجة للعمليات العسكرية المستمرة، وقد أدى تدمير
المرافق الطبية ونقص الإمدادات والأدوية إلى تقويض قدرة المستشفيات على تقديم
الخدمات الأساسية، مما جعلها غير قادرة على تلبية احتياجات السكان المتزايدة.
* قطع
الكهرباء والمياه:
يواجه سكان
غزة انقطاعًا مستمرًا في التيار الكهربائي، مما يؤثر سلبًا على جميع جوانب الحياة
اليومية، بما في ذلك تشغيل المستشفيات ومحطات معالجة المياه، وبالإضافة إلى ذلك أدى
تدمير البنية التحتية للمياه إلى نقص حاد في المياه النظيفة، مما يزيد من تفاقم
الأزمة الإنسانية.
* تكثيف
الضغوط السياسية والدبلوماسية:
بالإضافة إلى
الحصار والعمليات العسكرية، تمارس إسرائيل ضغوطًا سياسية ودبلوماسية على الدول
المجاورة والمجتمع الدولي لقبول فكرة إعادة توطين سكان غزة في دول أخرى، تسعى هذه
الجهود إلى خلق بيئة تدفع الفلسطينيين إلى مغادرة القطاع، مستخدمة الأزمة الإنسانية
المتفاقمة كوسيلة للضغط.
* التحريض
الإعلامي والترويج للهجرة:
تستخدم بعض
المنصات الإعلامية الموالية لإسرائيل حملات دعائية تروج لفكرة أن الهجرة من غزة
تمثل "فرصة لحياة أفضل" لسكان القطاع، وتهدف هذه الحملات إلى تشجيع الفلسطينيين على
مغادرة وطنهم، مستغلة الظروف المعيشية الصعبة والأزمات المتلاحقة التي يواجهونها. ومع ذلك يبدي
الغزيون مقاومة منقطعة النظير في تمسكهم بأرضهم.
السيناريوهات
المتوقعة
تدخل مخططات
تهجير سكان غزة في مرحلة حرجة، حيث يتشابك العامل العسكري مع السياسي والاقتصادي
لإعادة رسم الجغرافيا السكانية للقطاع. ورغم أن المشروع الإسرائيلي الأمريكي لم يصل
بعد إلى نقطة الحسم، إلا أن الأسئلة الكبرى تفرض نفسها: ماذا لو نجحت إسرائيل في
تنفيذ خطتها؟ وماذا لو فشلت؟ وما هي التداعيات الإقليمية والدولية لكل سيناريو
محتمل؟
إذا نجحت
إسرائيل، بدعم أمريكي، في فرض مخطط التهجير الجماعي، فإن غزة ستتحول من بؤرة صراع
إلى منطقة مستباحة للمشاريع الاقتصادية الإسرائيلية والدولية. إدارة ترامب، التي
لطالما قدمت رؤى اقتصادية موازية للحلول السياسية، قد تعيد طرح فكرة تحويل غزة إلى
"ريفييرا الشرق الأوسط"، وهو التصور الذي تم الترويج له سابقًا في خطة "السلام من
أجل الازدهار"، حيث يجري استبدال السكان الفلسطينيين بمشاريع استثمارية ضخمة، تشمل
منتجعات سياحية وموانئ ومناطق تجارية تخدم مصالح إسرائيل وحلفائها.
النجاح
الإسرائيلي في تهجير سكان غزة قد يُعزز فكرة "الحل الإقليمي"، بحيث يتم توسيع
المخططات الاستيطانية داخل أراضي 1948 والضفة الغربية، مع تهيئة الظروف لفرض حل
نهائي على الفلسطينيين خارج إطار الدولة المستقلة، ومن الناحية الجيوسياسية قد
يُشجّع ذلك إسرائيل على إعادة النظر في تركيبتها الديموغرافية داخل الخط الأخضر،
وربما تحاول فرض نموذج مشابه على فلسطينيي الداخل، تحت ذرائع أمنية أو ديموغرافية.
أما إقليميًا،
فقد يؤدي نجاح المخطط إلى إعادة رسم التحالفات، حيث ستجد بعض الدول العربية نفسها
أمام ضغط هائل لتبرير موقفها من القضية الفلسطينية، خاصة إذا ما تورطت في استيعاب
اللاجئين المهجّرين. وقد تكون هناك تداعيات أمنية، حيث سيشكل الفلسطينيون في الشتات
الجديد بؤرة توتر قابلة للانفجار، بما يذكر بمخيمات اللجوء الفلسطينية التي أصبحت
على مدار عقود مفجّرًا للأحداث السياسية في المنطقة.
على الجانب
الآخر، إذا فشلت إسرائيل في فرض سيناريو التهجير، فإن تداعيات ذلك ستكون عميقة
واستراتيجية، فالفشل الإسرائيلي سيعني أن الفلسطينيين تمكنوا مرة أخرى من تجاوز
المخططات الإسرائيلية وفرض أنفسهم كأصحاب أرض وحق، كما حدث في الانتفاضات السابقة،
كما سيتبع ذلك تآكل هيبة الردع الإسرائيلي، حيث ستواجه تل أبيب واقعًا جديدًا يتمثل
في استحالة القضاء على المقاومة الفلسطينية عبر الوسائل العسكرية فقط، وسيؤدي الفشل
لا محالة إلى تغييرات سياسية داخل إسرائيل نفسها، حيث سيزداد الضغط على الحكومة من
قبل التيارات المتطرفة لفرض حلول أكثر تطرفًا، مما قد يُعجّل بأزمة سياسية داخلية
تهدد استقرار النظام الحاكم، وقد تؤدي الهزيمة الإسرائيلية في غزة إلى تصعيد أكبر
في الضفة الغربية، وربما حتى في الداخل الفلسطيني المحتل. أما بالنسبة للإدارة
الأمريكية، فقد تجد نفسها أمام معضلة جديدة خاصة إذا تصاعدت الضغوط الدولية ضد تل
أبيب، أو إذا بدأت بعض الدول المتحالفة مع واشنطن في مراجعة مواقفها بشأن القضية
الفلسطينية.
المشهد في غزة
لا يتحرك وفق سيناريو واحد، بل هو ساحة لصراع مفتوح يمكن أن يتطور بعدة اتجاهات. قد
لا تنجح إسرائيل بالكامل في تنفيذ مخطط التهجير، لكنها قد تحقق تهجيرًا جزئيًا
يُبقي القضية مفتوحة لسنوات قادمة، وقد لا تفشل بالكامل، لكنها قد تواجه مقاومة
تجعل تنفيذ مخططها صعبًا ومكلفًا كما هو الحال منذ عقود، أما ما هو مؤكد فإن غزة لن
تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب. السؤال الحقيقي الآن ليس ما إذا كان التهجير
سيحدث أم لا، بل كيف ستتطور المقاومة ضده، وما هو الثمن الذي ستكون إسرائيل
وحلفاؤها مستعدين لدفعه بغية تحقيقه.