على مدى أربعة عقود لم تتوقف لغة البنادق بين الأكراد والحكومات التركية المتعاقبة، والتي لم تسفر إلا عن مزيد من الدمار والموت، واليوم تأتي دعوة عبد الله أوجلان لإلقاء السلاح والاستماع لصوت الحوار لتمثل مرحلة جديدة فهي تنجح، أم ستذهب أدراج الرياح؟
المتابع لمستجدات الساحة السياسية الداخلية في تركيا يدرك جيدًا حجم التغيير غير
المسبوق الذي تنتظره البلاد؛ لإغلاق أعقد ملف في تاريخها، وهو ملف حساس نظرًا
لطبيعته من حيث الصراع الدموي مع الأكراد المسلحين على مدار عقود متتالية، وقد
أثارت دعوة زعيم تنظيم حزب العمال الكردستاني "عبد الله أوجلان" لأنصاره بحل
التنظيم وإلقاء السلاح جدلًا واسعًا حول مستقبل التنظيم والصراع الكردي في تركيا،
وبينما يرى البعض أن هذه الدعوة تمثل تحولًا تاريخيًا نحو إنهاء الصراع المسلح،
يشكك آخرون في مدى التزام الأذرع العسكرية التابعة للتنظيم -وخاصة القيادات القابعة
منها في جبال قنديل- بهذه الدعوة، فهل تمثل هذه الخطوة نهاية التنظيم بشكل جاد، أم
أنها مجرد إعادة تموضع في سياق جديد؟ هذا ما سنجيب عليه في هذا المقال مع ذكر
سيناريوهات هذا المشهد ومستقبل هذه المصالحة.
الخلفية التاريخية للتصالح
شهدت تركيا مواجهات مسلحة وتهديدات أمنية متواصلة على مدار أكثر من أربعة عقود كان
مصدرها حزب العمال الكردستاني "PKK"،
وامتداداته في سوريا والعراق.
حيث انطلقت أولى هجمات التنظيم ضد قوات الأمن التركية في ولايتي "سيرت وهكاري"،
تحديدًا في أغسطس 1984، لتسجل سنوات المواجهة الطويلة في رصيد الخسائر أكثر من 50
ألف قتيل، بالإضافة إلى عرقلة عملية التنمية في ولايات جنوب شرق تركيا؛ بسبب حالة
الطوارئ الممتدة بها على إثر المواجهات التي شهدتها دون انقطاع.
وعلى مدار عقود المواجهات المسلحة كانت هناك محاولتان لحل الصراع، المحاولة الأولى
كانت عام 1993، والثانية امتدت من عام 2013 إلى 2015، لكن المحاولتين باءتا بالفشل
بعد خوض مسارات التصالح لفترة من الزمن.
|
استقبل الفصيل الكردي -أحد مكونات المجتمع التركي- دعوة أوجلان بفرحة
غامرة، وتعامل مع البيان بإيجابية واضحة، وذلك بعد أن تم إقامة شاشات عرض
عملاقة في ولايتي "ديار بكر وفان" التركيتين ذاتا الأغلبية الكردية |
أما محاولة "التصالح" الأخيرة والأحدث في تاريخ المصالحات، فكانت في أكتوبر الماضي،
عندما أشار رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، في كلمته أمام الكتلة النيابية
لحزبه، إلى إمكانية إطلاق سراح زعيم التنظيم "عبدالله أوجلان"، المسجون منذ عام
1999 والمحكوم في عدد من القضايا المتعلقة بالإرهاب بالسجن مدى الحياة، وذلك في حال
دعوته أتباعه إلى حل التنظيم وإلقاء السلاح.
دعوة أوجلان
عقب كلمة زعيم حزب الحركة القومية "دولت بهتشلي" التي أطلق عبرها مبادرته لإتمام
مصالحة بين التنظيم -المصنف إرهابيًا في تركيا- مع الدولة التركية، تم على الفور
تشكيل وفد من حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب "DEM"
-المعروف في تركيا كونه الذراع السياسي للأكراد المسلحين- وقام هذا الوفد بجولات
مكثفة ما بين سجن "إمرالي" الموجود فيه أوجلان، وإقليم كردستان العراق للقاء رئيس
الحزب الديمقراطي الكردستاني "مسعود بارزاني" في أربيل، بجانب لقاء زعيم الاتحاد
الكردستاني "بافل طالباني" في السليمانية.
وقد أسفرت هذه الجهود عن البيان المهم الذي خطه أوجلان من محبسه، وتمت قراءته
بواسطة وفد حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب في مؤتمر صحفي للرأي العام التركي، وهو
البيان الذي أذاعته عدة وسائل إعلام تركية للشعب التركي بكل مكوناته بما فيها
الفصيل الكردي.
استجابة مبدئية
وفي خطوة مهمة لإنهاء هذا الصراع المستمر منذ 40 عامًا مع الحكومة التركية، وبعد
مرور يومين فقط على الدعوة التاريخية التي أطلقها الزعيم الكردي المسجون "عبد الله
أوجلان" عبر بيانه لحزبه بحل نفسه وإلقاء السلاح، أتى الرد بالإيجاب والقبول من قبل
تنظيمه.
وبالفعل أعلن حزب العمال الكردستاني في بيان له أنه سيمتثل لدعوة أوجلان، وسينفذ
نداءه إلى تحقيق السلام ووقف إطلاق النار مع السلطات التركية، حيث قالت اللجنة
التنفيذية للتنظيم في بيان نقلته وكالة (إيه إن إف) الإخبارية المؤيدة للحزب: "في
سبيل تمهيد الطريق لتنفيذ دعوة القائد "آبو" (لقب أوجلان) من أجل السلام ومجتمع
ديمقراطي، نعلن وقف إطلاق النار اعتبارًا من اليوم"، وأضافت اللجنة: "لن تقوم أي من
قواتنا بأي عمل مسلح ما لم تتعرض للهجوم".
ترحيب كردي بدعوة أوجلان
بداية
استقبل الفصيل الكردي -أحد مكونات المجتمع التركي- دعوة أوجلان بفرحة غامرة، وتعامل
مع البيان بإيجابية واضحة، وذلك بعد أن تم إقامة شاشات عرض عملاقة في ولايتي "ديار
بكر وفان" التركيتين ذاتا الأغلبية الكردية،
وذلك لمشاهدة البيان وما يحتوي عليه، وقد طغت الأجواء الاحتفالية بشكل واضح على
تجمعات الأكراد في هاتين الولايتين؛ فرحًا بقرب إغلاق صفحات مؤلمة من تلك الحقبة
الصعبة في تاريخ البلاد.
وقال رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود بارزاني، إن السلام هو "السبيل
الصحيح الوحيد لحل الخلافات"، وذلك تعليقًا على دعوة "أوجلان"، وأعرب بارزاني في
بيان له عن أمله بأن "تكون رسالة أوجلان بداية لوضع عملية السلام في مسارها والتوصل
إلى نتيجة تصب في مصلحة جميع الأطراف".
كما رحب أيضًا رئيس إقليم كردستان العراق، نيجيرفان بارزاني، برسالة زعيم حزب
العمال الكردستاني "أوجلان" التي دعا خلالها حزبه لنزع السلاح وحل نفسه، ووصف في
بيان له الخطوة بأنها "مهمة نحو تحقيق السلام والحل السلمي في المنطقة".
|
تشير مواقف جميع الأطراف المعنية بالمسألة الكردية في تركيا والمنطقة إلى
رغبة مشتركة في إتمام المسار السياسي، ولكن رغم كل ذلك فإنه يصعب توقع حل
سريع دون عقبات بخصوص المسألة الكردية المستمرة منذ عقود، والتي تتداخل
فيها الحسابات المحلية مع الإقليمية والدولية |
كما أعلن السياسي الكردي البارز، صلاح الدين دميرطاش، هو الآخر من محبسه دعمه لدعوة
أوجلان، بقوله: "أخاطب إخوتي الأتراك والأكراد في هذه المرحلة التاريخية، والتي
نأمل أن تؤدي إلى إنهاء الحرب وإسكات صوت السلاح وإيقاف الإرهاب والدم والدموع
والدمار"، مضيفًا: "أنا أدعم هذه المبادرة وأرى أنها يجب أن تستمر، وأن يدعمها إطار
قانوني في البرلمان التركي".
والجدير بالذكر أن "صلاح الدين دميرطاش" هو سياسي كردي يتمتع بشعبية كبيرة داخل
أوساط المجتمع الكردي في تركيا، وقد حلَّ في المركز الثالث في الانتخابات الرئاسية
التركية لعام 2014، رغم كونه كان مرشحًا من داخل محبسه؛ ما يظهر حجم شعبيته لدى
الأكراد في تركيا.
من المُخاطَب بدعوة أوجلان؟
كان أوجلان واضحًا في بيانه الذي خطه بيده من داخل محبسه حيث دعا "جميع الفصائل"
المرتبطة بتنظيمه إلى إلقاء السلاح وإنهاء الصراع المسلح، ومن المعروف أن الهيكل
الإداري لتنظيم حزب العمال الكردستاني يضم جميع الوحدات العاملة في سوريا، مثل
وحدات الحماية الكردية "YPG"،
والفرع النسائي لوحدات الحماية "YPJ"،
وحزب الاتحاد الديمقراطي "PYD"،
بالإضافة إلى تنظيم قوات سوريا الديمقراطية "قسد".
وقد سارع قائد تنظيم "قسد" مظلوم عبدي إلى إخراج تنظيمه من المُخاطبين بهذه الدعوة
بقوله: "إن إعلان أوجلان يتعلق بحزب العمال الكردستاني، ولا علاقة له بنا في
سوريا".
وباستقراء تصريح عبدي فإنه يشير إلى إصراره على الاحتفاظ بقوات تنظيمه المسلحة
ومواجهة تركيا، بجانب مواصلة السيطرة على أجزاء واسعة من سوريا، وهو الأمر الذي
يشكل تهديدًا صريحًا لكل من تركيا وسوريا، خاصة مع فشل الحوار بين التنظيم ودمشق في
التوصل إلى رؤية تحفظ للدولة تماسكها واستقلالها.
عوامل حاسمة وهامة
هناك فارق كبير بين إعلان
تنظيم حزب العمال الكردستاني حل نفسه وقبول دعوة زعيمه "أوجلان"، وبين تطبيق هذا
الأمر ميدانيًا، بما في ذلك إلقاء السلاح، ولذلك فالدولة التركية تنتظر كي ترى ذلك
فعليًا في الميدان.
ومن هنا نستطيع أن نفهم
سبب عدم توقف عمليات تركيا العسكرية بعد دعوة أوجلان، حيث لم ينزع التنظيم سلاحه
بشكل فعلي في كافة الساحات الموجود بها، وقد تمكنت القوات التركية قبل عدة أيام من
تحييد "تحركات إرهابية" للتنظيم، وقتلت على إثرها نحو 10 من عناصره.
كما أن هناك عاملا آخر يجب
وضعه في الحسبان وهو أن تركيا لا يمكنها حتى إذا عقد التنظيم مؤتمره وأعلن عن حل
نفسه وإلقاء سلاحه، أن تسحب قواتها من العراق وسوريا بشكل عاجل، لسببين رئيسيين
هما:
الأول:
هو رغبة تركيا في إبقاء قواتها في سوريا والعراق لمراقبة الوضع الميداني بعد أن
ينزع الحزب سلاحه، لضمان عدم وجود تحركات إرهابية أو أسلحة متفلتة قد تستخدم في دعم
تحركات عناصر الحزب، وهو أمر قد يستغرق شهورًا.
الثاني:
يتمثل في وجود تفاهمات بين أنقرة وبغداد وإقليم كردستان، بالإضافة إلى دمشق وعمان،
لتشكيل قوة إقليمية رباعية لمكافحة الإرهاب، بدءًا من داعش ثم حزب العمال
الكردستاني وصولًا إلى كافة أذرعه المسلحة.
وبالتالي لا يمكن سحب
القوات العسكرية التركية من العراق وسوريا في الوقت الحالي إلا وفق ترتيبات محددة،
وهو الأمر الذي يجب أن يتفهمه التنظيم وقياداته من البداية والقبول به؛ لإظهار حسن
نواياه وإثبات عدم وجود مخططات لديه للمراوغة ومحاولة الالتفاف من الخلف ومواجهة
تركيا عسكريًا من جديد كما حدث سابقًا.
السيناريوهات المتوقعة
الواقع الحالي يقول بأننا أمام سيناريوهين لا ثالث لهما فيما يخص مستقبل المصالحة
الكردية مع الدولة التركية.
السيناريو الأول:
يتمثل في عدم إتمام المصالحة وذلك لأسباب منها، أن عبدالله أوجلان، رغم كونه القائد
المؤسس لحزب العمال الكردستاني، فإنه فقد نفوذه الفعلي داخل التنظيم منذ اعتقاله
عام 1999، حيث باتت القرارات الحاسمة، مثل استمرار القتال أو وقفه، بيد القيادة
العسكرية في جبال "قنديل" على الحدود التركية العراقية الإيرانية، والتي مازالت
تتمسك بالصراع المسلح.
وقد أظهرت تجارب سابقة أن دعوات أوجلان لوقف إطلاق النار لم تُنفذ بالكامل، مما
يثير الشكوك حول مدى التزام التنظيم ببيانه الأخير، كما أن وحدات حماية الشعب
الكردية في سوريا، والتي باتت تمتلك مشروعًا سياسيًا مستقلًا عن حزب العمال
الكردستاني داخل تركيا، قد تكون أقل التزامًا بتوجيهات أوجلان.
بالإضافة إلى أن هناك عناصر داخل الحزب ترتبط بعلاقات وثيقة مع إيران، وتستخدم
النزاع الكردي كأداة ضغط في الصراعات الإقليمية، وهو ما قد يجعلها غير معنية بإنهاء
القتال، كما أن إعلان حل التنظيم قد لا يعني بالضرورة تفكيك بنيته التنظيمية
بالكامل، حيث قد تستمر بعض فصائله في تنفيذ عمليات مسلحة بطرق مختلفة، سواء عبر
خلايا نائمة أو من خلال جماعات جديدة تحمل أسماء مغايرة.
السيناريو الثاني:
يتمثل في إتمام المصالحة وذلك لأسباب منها، أن دعوة عبدالله أوجلان تمثل فرصة كبيرة
لإنهاء الصراع الذي استمر لعقود وخسر خلاله الأكراد الكثير، ولا سيما أن هذه الدعوة
تحظى بدعم حلفاء أردوغان القوميين، ممن كانوا يقفون سابقًا كعقبة أمام إعادة إحياء
جهود السلام، كما أن بيان أوجلان لم يضع شروطًا للحكومة التركية واقتصر على توجيه
كلامه لتنظيمه؛ مما يمنح نداءه مصداقية أكثر ويرفع من سقف التوقعات بخصوص المسار
السياسي الحالي.
أضف إلى ذلك أن الموافقة من قيادة العمال الكردستاني أتت على مضمون بيان أوجلان
الذي تضمن دعوته لحل التنظيم، وذلك بعد أيام قليلة فقط من النداء، حتى وإن كانت
الموافقة فيها نوع من الاشتراط الضمني بإطلاق سراح أوجلان وبعض الضمانات القانونية
والسياسية.
ومن أهم الشواهد أيضًا تصريح "دولت بهتشلي" الذي دعا ضمنًا لإطلاق سراح أوجلان
لإتاحة الفرصة له ليلقي خطابًا تحت قبة البرلمان التركي، وتنبع أهمية ذلك من أن
بهتشلي هو زعيم التيار القومي في البلاد، وشريك الرئيس أردوغان في تحالف "الجمهور"
الحاكم منذ 2017، وذو علاقة وطيدة بالدولة العميقة في تركيا، وقد كان دائمًا من أشد
المعارضين لحل المسألة الكردية في السابق، وهو تحول يشير إلى سعي حثيث لإتمام
المصالحة.
كلمة أخيرة
تشير مواقف جميع الأطراف المعنية بالمسألة الكردية في تركيا والمنطقة إلى رغبة
مشتركة في إتمام المسار السياسي، ولكن رغم كل ذلك فإنه يصعب توقع حل سريع دون عقبات
بخصوص المسألة الكردية المستمرة منذ عقود، والتي تتداخل فيها الحسابات المحلية مع
الإقليمية والدولية، وتشمل
فاتورتها عشرات آلاف الضحايا حسب الأرقام الرسمية التركية.
ولعل من أهم التحديات أمام
المسار الحالي ضمان التزام العمال الكردستاني بوقف العمليات المسلحة والانضمام
للمسار السياسي، كما أن مطالبة اللجنة التنفيذية للحزب بأن يدير أوجلان نفسه
المؤتمر لتنفيذ حل الحزب ونزع السلاح، تعد اشتراطات أولية ومرتفعة السقف منها.
ويمكننا القول أنه بعد عشر
سنوات من آخر محاولات سياسية جادة للحل، تُظهر مختلف الأطراف المعنية وذات التأثير
في الملف مواقف إيجابية واستعدادًا للعب أدوار داعمة للمسار السياسي الذي مازال غير
واضح المعالم والخطوات، ولذلك مازال من المبكر الحكم على فرص نجاح هذه المصالحة
وتداعياتها محليًا وإقليميًا ودوليًا.