مع النجاح الذي يحققه الجيش السوادني والانتصارات العسكرية على مليشيا الدعم السريع إلا أن وفي الجهة المقابلة تصاعدات أزمة سياسية جديدة وهي محاولة الأخيرة صنع حكومة موازية في تصعيد سياسي خطير.
استحوذت التطورات بالغة
الأهمية على الصعيدين العكسري والسياسي في السودان على الاهتمامات المحلية
والإقليمية والدولية، لما لها من مردودات بالغة الأهمية على تلك المحاور أيضًا،
وهي تطورات متزامنة مع معطيات دولية وإقليمية دالة على أن تلك التطورات ليست وليدة
لصدفة بل من وراءها محركات قوية وفاعلة.
التطورات على الصعيد الميداني والعسكري:
على الصعيد العسكري، فبعد
ما يقرب من 22 شهرًا من اندلاع الحرب، وتحديدًا منذ أبريل 2023 تسيطر ميليشيا الدعم
السريع على كل إقليم دارفور تقريبًا في غرب السودان، وهي منطقة شاسعة يسكنها ربع
سكان السودان البالغ عددهم 50 مليون نسمة، ومعظم منطقة كردفان المجاورة.
ويسيطر الجيش على شمال
وشرق السودان وحقق مؤخرًا مكاسب ضخمة وكبيرة في العاصمة الخرطوم، فيما بقيت سيطرة
الدعم السريع فقط على القصر الرئاسي، وعدة مناطق أخرى متفرقة في العاصمة، بالاضافة
إلى الفاشر، عاصمة شمال دارفور وهي آخر موطئ قدم متبقٍ للجيش في تلك المنطقة التي
تعد معقلاً لميليشا الدعم السريع.
هذه التطورات العسكرية
جعلت كفة الجيش السوداني راجحة في معظم البلاد، لاسيما العاصمة الخرطوم، واستعادت
زمام السيطرة والمبادرة الميدانية، فيما انحسرت ميليشيا الدعم السريع في منطقتي
دارفور وكردفان،
وهو ما يوحي بأن السودان على شفا تقسيم بحكم الواقع العسكري إلى منطقة نفوذ واسعة
تحت قيادة الجيش الوطني بقيادة عبد الفتاح
البرهان،
وأخرى منشقة تحت قيادة
قائد ميليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف باسم حمدتي.
كان لهذا التطور العسكري مردوده السياسي في كلا المعسكرين:
فمن ناحيتها،
كشفت الحكومة العسكرية
السودانية، عما أسمته خارطة طريق لحكومة انتقالية تسعى لإعانة الدولة على إنجاز ما
تبقى من الأعمال العسكرية، والمتمثلة في تطهير كل السودان من المتمردين،
والإعداد
لمرحلة ما بعد الحرب واستئناف العملية السياسية الشاملة التي ستتوج بعقد الانتخابات
العامة الحرة والنزيهة، وتشكيل حكومة كفاءات، واختيار رئيس وزراء مدني، وإطلاق حوار
وطني.
|
من المهم التأكيد على أن موقع السودان الجغرافي ما زال يشكل أهمية بالغة
لبعض القوى الدولية وفي مقدمتها روسيا التي فقدت عما قريب نفوذها السياسي
والعسكري بالغ الأهمية في سوريا،
وباتت تبحث عن (أماكن شاغرة) يمكن أن تستغلها في دعم نفوذها |
وهي خطوة فيما يبدو أنها
استباقية تهيئ الشعب السوداني والمجتمعين الإقليمي والدولي إلى القبول بسودان مقسم
(إلى حين)، وأن الحرب قريبة من أن تضع أوزارها (عند هذا الحد)،
في انتظار تطورات أخرى مفاجئة قد تغير المعادلات الحربية على الأرض، أو أخرى سياسية
تجعل الطرف الآخر مجبرًا على الاستسلام للشروط التي وضعتها الحكومة والتي تمثلت في
رفع الحصار عن الفاشر، ووقف إطلاق النار، والانسحاب من الخرطوم بصورة تامة، وغرب
كردفان، وولايات دارفور.
هذه الخطوة السياسية
المتقدمة يمكن قراءتها في ضوء أن البرهان يريد استثمار الزخم والانتصارات الأخيرة
في مناطق هامة من العاصمة الخرطوم لوقف الحرب، ثم البحث عن حلول لتهديدات ميليشيا
الدعم السريع عسكريًا، والبحث عن حل مستدام في السودان حتى لا تعود الحرب مرة أخرى.
في إطار الرد على هذه
الخطوة السياسية الاستباقية
أعلنت ميليشيا الدعم السريع عن توقيع ما سمته بـ "ميثاق سياسي" لإنشاء حكومة موازية
في المناطق التي تسيطر عليها، مع الإعلان عن تشكيل مجلس الوزراء بعد ذلك بوقت قصير،
وهو ما يعني الإصرار على
مزاحمة الحكومة التي يقودها الجيش في الإطار السياسي الحاكم للسودان، كما هو الحال
تمامًا في المجال العسكري.
وربما يأتي السؤال
المهم، عن ماهية الدور الدولي في تلك التطورات التي حدثت في السودان مؤخرًا على
الصعيدين السياسي والعسكري؟
ربما
من المهم التأكيد على أن موقع السودان الجغرافي ما زال يشكل أهمية بالغة لبعض القوى
الدولية وفي مقدمتها روسيا التي فقدت عما قريب نفوذها السياسي والعسكري بالغ
الأهمية في سوريا،
وباتت تبحث عن (أماكن شاغرة) يمكن أن تستغلها في دعم نفوذها، لاسيما على سواحل البحر
الأحمر، وقد وجدت ضالتها في السودان المتلهف إلى المساعدت العسكرية والإنسانية
والتنموية.
ولا يغيب عن أنظار
المتابعين أن تلك التطورات المتسارعة في السودان في الجانبين العسكري والسياسي جاءت
متزامنة مع تفاهمات متقدمة جدًا لإنشاء قاعدة عسكرية بحرية روسية في مدينة
بورتسودان، ويتيح الاتفاق، الذي ينتظر أن تتبلور ملامحه النهائية قريبًا، توسيع
حرية الحركة للسفن الحربية الروسية في البحر الأحمر، ومنح موسكو الحق في نشر 300
عسكري و4 سفن في القاعدة، في المقابل تعمل روسيا على دعم الجيش السوداني بالأسلحة
والمعدات الحربية اللازمة لتطويره.
وهذا الاتفاق يتيح
مزايا بالغة الأهمية للجيش السوداني؛ من جانبين:
الجانب الأول العسكري، لأن
الجيش السوداني في حاجة ماسة إلى الأسلحة والذخائر وقطع الغيار لطائراته المقاتلة
روسية الصنع، كما لا يخفى أن وقوف روسيا عسكريًا إلى جانب الجيش الوطني يعني قلب
المعادلة الميدانية لصالح هذه القوات في مواجهة ميليشيا الدعم السريع التي باتت
تفقد الدعم الخارجي حتى من بعض الدول الإقليمية، وعلى وجه التحديد دولة الإمارات
المتهمة بأنها واحدة من أكبر الرعاة للحرب والتي تسرب إليها اليقين بأنها تقف في
الجانب الخاسر من المعركة ومن ثم بدات- وفي محاولة لتبييض موقفها وانقاذ الموقف -
تنادي بهدنة إنسانية، وإسكات البنادق في شهر رمضان المقبل!
الجانب الثاني السياسي، إذ
أن تقديم قاعدة بحرية لموسكو يعني أن روسيا ستكون بالمرصاد لأية قرار دولي يدين أو
يفرض عقوبات أو يهدد الجيش السوداني أو الحكومة المنتظرة والمتولدة منه، وستجهض
بقوتها الدولية، وبحق الفيتو الذي تملكه في مجلس الأمن الدولي أية قرارات مصيرية
غير محسوبة ضد الجيش ومكوناته وأدواته السياسية الفاعلة.
وماذا عن الموقف
الأمريكي؟
معلوم أن إدارة الرئيس
الجمهوري، دونالد ترامب، غير مكترثة بما يدور في إفريقيا بالعموم، إذا يرى الرئيس
ترامب في دولها مجرد (حفر قذرة)، وليس من المتوقع على نطاق واسع أن إدارته مهتمة
بمسألة الحرب في السودان، إلا من زاوية واحدة وهي ألا تكون ملجأ آمناً للإرهاب،
بحيث ترتد مشاكله على الداخل الأمريكي.
وهي أبعد ما تكون عن دعم
قوات الدعم السريع التي وصفها وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، أمام الكونغرس،
بأنها ميليشيا ارتكبت جرائم إبادة جماعية؛ لذلك لا يعتقد على نطاق واسع أن تتعامل
معه الولايات بوصفها حكومة شرعية، أو أن أن تدخل معها في مفاوضات.
حاصل القول إن الجيش
السوداني استغل إلى حد كبير التطورات على الساحة الدولية لصالحه، واستطاع أن يقلب
المعادلة الميدانية إلى جانبه، واتخذ خطوة متقدمة في الإطار السياسي توحي بأن الحرب
تلفظ أنفاسها الأخيرة، ووضع ميليشيا الدعم في خندق الدفاع، وهي تطورات جد خطيرة
وهامة، لكن الأخطر من ذلك كله ، فيما نرى، أن السودان كدولة -وانبثاقًا من تلك
التطورات- بات بحكم الواقع مقسم فعليًا بين قوات البرهان وميليشيا حمدتي في أنموذج
مكرر لانفصال الجنوب عن الشمال.