تتسارع الأحداث في سوريا، على نحو غير متوقع، وتنوعت ردود الأفعال الإقليمية والدولية، وهنا يبرز دور الولايات المتحدة الذي ترددت أنباء عن تأييده لهذه التطورات وآراء أخرى تنفى ذلك فما حقيقة الموقف الأمريكي من تطورات الأحداث في سوريا وما تأثيره على مغيرات الوق
منذ عدة أيام اجتاحت قوات المعارضة
السورية بلدات في ريف إدلب وريف حلب، في عملية أطلقت عليها صد العدوان، ثم فوجئ
الجميع باستدارة تلك القوات إلى مدينة حلب فاجتاحتها بسهولة في ساعات قليلة.
هذا التقدم الذي تقوده الفصائل السورية
المعارضة، وصفته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية بأنه أول تحد خطير لبشار الأسد
وداعميه، منذ أن تم الاتفاق على وقف إطلاق النار شمال غرب سوريا منذ عام 2020.
وسرعان ما اتهم نظام بشار الأسد
الطائفي والقوى المساندة له سواء كانت روسيا أو إيران، اتهمت أمريكا والكيان
الصهيوني بأنهما من يقف وراء الجماعات التي بدأت القتال، خاصة أن عملية "صد
العدوان" والتي قامت بها فصائل الثورة السورية، اشتعلت في اليوم التالي لإيقاف
الحرب بين الصهاينة وذراع إيران في المنطقة وهو حزب الله.
ولذلك يثار سؤال يتعلق بحقيقة تلك
الاتهامات، وهل أمريكا بالفعل تساند المعارضة السورية؟ أم هذه الادعاءات ما هي إلا
استمرار لمسلسل الأكاذيب التي دأب على استخدامها النظام والقوى الداعمة له لتبرير
هزائمها؟
لكي نستطيع الإجابة على هذه الأسئلة،
لابد من معرفة نظرة أمريكا وسلوكها إزاء سوريا، ثم رصد وتحليل ردود الأفعال
الأمريكية وموقفها من التطورات الأخيرة.
أمريكا واللعبة السورية
مرت الإستراتيجية الأمريكية في سوريا
بعدة مراحل:
ففي الثمانية عشر شهرًا الأولى منذ
اندلاع الانتفاضة السورية، رفض الرئيس الأمريكي حينها أوباما توصيات من كبار
مساعديه في فريق الأمن القومي بتسليح وتدريب المعارضة السورية، وعلى ما يبدو فإن
غلبة الطابع الإسلامي عليها كان هو الدافع الرئيسي لإحجام أوباما.
ومع الوقت، وحينما تراجعت قوات النظام
السوري أمام المعارضة، ركزت إدارة أوباما جهودها على الدبلوماسية؛ ففي عام 2013 جعل
وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مفاوضات جنيف محوراً أساسيّاً لإستراتيجية واشنطن
تجاه الأزمة السورية.
ولكن منذ يونيو 2014 عندما سقطت الموصل
في العراق في قبضة داعش تغيرت الإستراتيجية الأمريكية، وبدأت بالقصف الجوي
والصاروخي لداعش في سوريا والعراق، وخصصت نصف مليار دولار سنويا لتكون جزءا من
المساعدات التي تقدمها وزارة الدفاع الأمريكية إلى المعارضة السورية، إلى جانب
تدريب 5000 مقاتل سنوياً، وذلك لمدة ثلاثة أعوام على أمل في إحداث تغيير في النظام
السوري.
وبدا في وقت من الأوقات في عهد أوباما أن هناك إستراتيجية خفية للإدارة الأمريكية
تتمثل في تفكيك سوريا إلى كيانات طائفية، وعبَّرت عن ذلك دراسة تحت عنوان (تفكيك
سوريا... نحو إستراتيجية إقليمية لبلد كونفدرالي) أصدرها (مركز
القرن الواحد والعشرين للأمن والاستخبارات) التابع لمعهد بروكينجز، وهذه الدراسة
ترى أن المسار الوحيد الجدير بالثقة في هذا الوقت، هو إستراتيجية لتفكيك سوريا،
وجعلها دولة كونفدرالية تتكون من مناطق حكم ذاتي بدلا من أن تكون تحت حكومة مركزية
قوية، ويشير الباحث إلى أن هذه الإستراتيجية قد تُخفف من معارضة إيران وروسيا للنهج
القائم في سوريا، وربمـا تُقلل من ميلهما لزيادة الدعم للأسد. فالإستراتيجية
الجديدة توازن في تعاملها مع الدولتين ولا تجعل لهما دوراً أساسياً، كما أن طهران
وموسكو يدعمان الكونفدرالية في سوريا طالما هي البديل عن الإطاحة الكاملة بالأسد أو
القضاء على نفوذ العلويين في أي حكومة مستقبلية، أو البديل عن حرب أهلية مستمرة
لأجل غير مسمى.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية حينها
حاولت السير في ذلك المسار عن طريق تدريب مقاتلين سوريين في تركيا والأردن والدول
الأخرى الصديقة للولايات المتحدة ومن ثَمَّ تأسيس مناطق آمنة في سوريا ودعم هؤلاء
المقاتلين جوا وبرا عن طريق القوات الخاصة.
أما في بداية عهد ترامب في فترته
الأولى، فقد لخص وزير الخارجية الأمريكي وقتها ريكس تليرسون هذه الإستراتيجية في
محاضرة ألقاها في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد الأمريكية عام ٢٠١٨ على النحو
التالي: وجود أمريكي في شرقي سوريا إلى أجل غير مسمى لمواجهة النفوذ الإيراني،
ومنعها من إقامة ممرها البري الذي يربط بين إيران ولبنان، ومنع عودة ظهور تنظيمات
متطرفة مثل الدولة الإسلامية والقاعدة، والوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية
تنهي حكم عائلة الأسد.
ولكن عندما عيَّن ترامب مـايك بومبيو
وزيرا للخارجية عمل على صياغة إستراتيجية جديدة لأمريكا في سوريا؛ فتم إعادة تقويم
الأهداف الإستراتيجية في سوريا وتحديدها بدلا من هدفين فقط وهما مكافحة الإرهاب
وتعديل النظام، إلى وضع هدفين جديدين تمثلا في الحد من الانتشار الإيراني في
المنطقة والمحافظة على النفط.
ولذلك أعادت القوات الأمريكية تموضعها،
لتقتصر على مناطق النفط.
والحقيقة فإن الإستراتيجية الأمريكية
بالانسحاب من سوريا والتمركز فقط في مناطق النفط حققت لترامب حينها أهدافا
إستراتيجية مهمة، أولها: حرمان النظام السوري من استخدام أموال النفط في تثبيت
الأسد من دون إجراء تعديلات في هيكلية النظام برحيل رأسه.
أما الأمر الثاني: فهو محاولة تقويض
التفاهم التركي الروسي في شرق سوريا، بشكل يسمح للأكراد ببقاء دورهم ركيزةً لبقاء
النفوذ الأمريكي بما يضمن مصالحه، كما أن بقاء القوات الأمريكية يضمن لأمريكا الحد
من التمدد الإيراني في المنطقة، ويضمن في الوقت نفسه القضاء بشكل نهائي على داعش؛
فما يزال كثير من محاربي التنظيم في سوريا أو محتجزين لدى الأكراد أو مختبئين.
مواقف أمريكا بين المعلن
والسري
يجب أن نفرق بين الموقف الأمريكي
المعلن من اجتياح فصائل المعارضة السورية الأراضي التي يسيطر عليها النظام، وبين
حقيقة موقفها الحقيقي.
في الموقف المعلن، نجد أن هناك بيانًا
صدرًا عن البيت الأبيض، ثم تصريح لمستشار الأمن القومي جاك سوليفان.
يؤكد بيان البيت الأبيض أنه لا علاقة
للولايات المتحدة بالهجـوم الذي تقوده هيئة تحرير الشام "الإرهــابية"(كما يصفها)
في سوريا، كما أكد على مراقبته الوضع هناك، وتم إجراء اتصالات مع عواصم إقليمية
خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية، وستواصل الولايات المتحدة حمـاية أفراد
ومواقع عسكــرية أمــريكـية ضرورية، لضمان عدم ظهور تنظــيم الــدولة مجددا في
سوريا، ثم ذكر أن سبب ما حدث هو رفــض نظــام الأسد المشاركة في العــملية السياسية
واعتماده على روسيا وإيران مما أدى لانـهيار خطوطه.
وفي اليوم التالي ظهرت تصريحات لمستشار
الأمن القومي جيك سوليفان، فذكر أن أمريكا لم تفاجئ باستغلال المعارضة السورية
المسلحة للظروف الجديدة، وأن النظام السوري وداعميه يعانون من أجل تحقيق مكاسب على
الأرض.
وأرجع سوليفان أن ما يحدث في سوريا
نتاج فعل الأسد، لكن أمريكا قلقة من أن هيئة تحرير الشام المصنفة إرهابية لها دور
فيما يحدث.
وأكد سوليفان على أن التركيز الأمريكي
يتعلق بوضع القوات الأمريكية في سوريا، وأن هدفها هو محاربة داعش، فأمريكا ليست
طرفا فيما يحصل على حد قوله، ولكن الجملة الأهم في تصريحات مستشار الأمن القومي
الأمريكي قوله، أنه لا يعتقد أن ما يحدث يشكل خطرا إضافيا على القوات الأمريكية.
وأضاف بالنص، "نراقب عن كثب ما يحدث في
سوريا ونحن على تواصل مع شركائنا في المنطقة بهذا الشأن".
ومن تحليل هذين الموقفين نجد أنه يتضمن
أربعة مضامين رئيسة:
1.
حرص البيانات الأمريكية الرسمية على نفي أي صلة بما يجري على الأرض، وتحريض فصائل
المعارضة في هجومها المفاجئ.
2.
توجيه اللوم الى النظام بمسئوليته عن الهزيمة التي لحقت به، وذلك لتحالفه مع الروس
والإيرانيين.
3.
الحرص الأمريكي على نعت أكبر فصيل في الثورة السورية، وهي هيئة تحرير الشام
بالإرهاب.
4.
الفعل الأمريكي سيقتصر على مراقبة الأمر، لأن تلك الحرب لا تمثل خطرا على القوات
الأمريكية المتواجدة في سوريا.
وفحوى المضامين العلنية أن أمريكا غير
معترضة على ذلك الهجوم، وهذا يعزز التكهنات المنتشرة، أن هناك توافقا تركيا أمريكيا
على هذه العملية، بقصد إخراج الروس والإيرانيين من سوريا، مثل التوافق الأمريكي
التركي في ليبيا عام 2020، عندما جرى التدخل التركي لدعم الجماعات المسلحة في
طرابلس لصد هجوم حفتر المدعوم بالفاغنر الروسي.
ويبقى السؤال الأهم هل ستقف أمريكا
مكتوفة الأيدي إذا جرى الصدام بين قوات الثورة السورية والأكراد المتحالفين مع
الأمريكيين في سوريا؟
هناك تقارير غربية تتحدث عن خلاف بين
وكالة المخابرات المركزية ((CIA
ووزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) حول دعم الميليشيات
الكردي.
فالبنتاجون يحبذ ذلك التحالف مع
الأكراد باعتباره ورقة ضاغطة على تركيا، بينما لا ترغب المخابرات المركزية في ذلك
وتندد بتحالف الأكراد مع الإيرانيين، وتحبذ التوافق مع الأتراك.
ولكن في أعقاب الهجوم الحالي، عندما
طلب البنتاغون من قيادة الميليشيات الكردية دخول بلدتين في شرق الفرات مازالتا بيد
الميلشيات الشيعية وهما (حطلة والحسينية)، رفضت الميليشيات الكردية ذلك، مبررة أنها
لن تطلق طلقة على النظام وحلفائه.
هنا ارتفعت أسهم
وكالة المخابرات المركزية ضد وزارة الدفاع الداعمة
لتلك الميليشيات.
الوضع في سوريا يتطور سريعا، والجماعات
المعارضة السورية تتقدم سريها ولا أحد يدري كيف ستؤول الأوضاع غير أن الشعب السوري
قدم تضحيات عظيمة وهو يستحق أن ينعم بالاستقرار والأمن.