عمود الإسلام (لذة المناجاة)

: الاستعداد للصلاة، وحسن الضوء لها، والتبكير للمسجد، واستحضار موقف القيامة، وتذكر الوقوف بين يدي الله تعالى للحساب، والتفكر في كلام الرب سبحانه للعبد يوم القيامة يقرره بذنوبه، ليس بينه وبينه ترجمان، كل أولئك مما يعين على الاستعداد للمناجاة قبل تكبيرة الإح


الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان؛ ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 2 - 4]، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فرض الصلاة على المؤمنين، وجعلها عماد الدين، ورتب عليها الأجر العظيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يجد راحته في الصلاة، ويتلذذ فيها بالمناجاة؛ فيطيل القيام حتى تتفطر قدماه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا له صلاتكم، وتمسكوا بدينكم، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، وهي أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله يوم القيامة. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43].

أيها الناس: لا لذة في الحياة تعدل لذة مناجاة الله تعالى في الصلاة، ولا أنس في الدنيا أكثر من أنس المصلين بربهم سبحانه وتعالى، ومن ذاق لذة مناجاة الله تعالى بحضور قلبه في الصلاة لم يمل من الصلاة، فيطول قيامه في صلاته، وتكثر قراءته؛ كما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم البقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة.

والنصوص النبوية تدل على أن العبد في صلاته يناجي ربه سبحانه، سواء كانت فرضا أم كانت نفلا، ولو استحضر المصلي ذلك لتغيرت حاله في صلاته؛ ولخشع قلبه وجوارحه، ووجد أنسا ولذة لا يعدلها شيء، ورخصت الدنيا في عينيه، فلا يقدم منها شيئا على صلاته، ولا يشغل بها وهو في صلاته؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الراتبة للفجر: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» رواه مسلم.

ومما يدل على أن الصلاة مناجاة بين العبد وربه سبحانه حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ» رواه الشيخان. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ» رواه الشيخان. فإذا استحضر العبد أنه إذا أحرم بصلاته كان الله تعالى قبل وجهه فهل يسهو أو يغفل أو يفكر في شيء من الدنيا، مع علمه أن الله تعالى مقابله؟ وما أعظمه من شرف أن يكون الله تعالى قبالة المصلي، ويظل كذلك في كل صلاته، ما لم يلتفت في صلاته؛ لحديث أَبُي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على أصحابه رضي الله عنهم إحسان صلاتهم؛ لأنهم يناجون فيها ربهم عز وجل، وفي حديث المسيء صلاته أمره النبي صلى عليه وسلم ثلاث مرات بإعادة الصلاة؛ لأنه كان عجولا فيها، ولم يطمئن في أركانها، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: يَا فُلَانُ، أَلَا تُحْسِنُ صَلَاتَكَ؟ أَلَا يَنْظُرُ الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّى كَيْفَ يُصَلِّي؟ فَإِنَّمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ...» رواه مسلم. «يعني: أن نفع الصلاة لنفس المصلي، فمن واجبه أن يتقن أعمالها؛ لأنه إنما يصلي لنفسه، ومعلوم أن كل من يعمل لنفسه يتقن عمله؛ حيث إن نفعه يعود له، لا لغيره». وفي رواية لابن خزيمة قال أَبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَى رَجُلًا كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ، أَلَا تَنْظُرُ كَيْفَ تُصَلِّي؟ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي إِنَّمَا يَقُومُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يُنَاجِيهِ، إِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي لَا أَرَاكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى مِنْ خَلْفِ ظَهْرِي كَمَا أَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ»، ومعنى قوله: فلينظر كيف يناجي ربه، «أَي: يتَأَمَّل فِيمَا يناجيه من القَوْل على سَبِيل التَّعْظِيم وَالْأَدب، ومواطأة الْقلب اللِّسَان، وتفريغه للذّكر والتلاوة». وبوب الإمام ابن خزيمة بذلك فقال: «باب الأمر بالخشوع في الصلاة؛ إذ المصلي يناجي ربه، والمناجي ربه يجب عليه أن يفرغ قلبه لمناجاة خالقه عز وجل، ولا يشغل قلبه التعلق بشيء من أمور الدنيا يشغله عن مناجاة خالقه».

ولأجل أن المصلي يناجي ربه عز وجل فلا ينبغي إشغاله عن ذلك أو إزعاجه؛ ولذا نهي عن رفع الصوت بالقرآن في حضرة من يصلي؛ لئلا يشوش عليه في مناجاته لربه عز وجل، وفي ذلك  حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ، وَقَالَ: أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ -أَوْ قَالَ-: فِي الصَّلَاةِ» رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة. وفي حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ بِمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ» رواه أحمد. وبعض الناس يخالف هذا الحديث؛ فإذا بكّر للجمعة أو الجماعة، أو مكث للتلاوة عقب الصلاة؛ يرفع صوته بالقراءة فيشوش على المصلين والقارئين للقرآن، ويقطع عليهم لذتهم بالخشوع في الصلاة، أو تدبر القرآن، وهذا من الأذى الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مدخلا للرياء إذا استحسن القارئ صوته، فأسمعه غيره؛ لذا فإنه ينبغي أن يخفض صوته، فيسمع نفسه، ولا يسمع غيره ولو كان بجواره.

ولأهمية المناجاة في الصلاة، والخشوع فيها؛ كان السلف الصالح يستحضرون المناجاة قبل التكبير بالصلاة؛ ليستجلبوا باستحضارها الخشوع، فمن كبر وهو مستحضر أنه ينقطع عن الخلق ليتصل بالخالق سبحانه لن تكون صلاته كصلاة من لم يستحضر ذلك. ومن استشعر في صلاته أنه يناجي علام الغيوب سبحانه لن تكون صلاته كصلاة من لم يستشعر ذلك، ومن رأى أنه بتكبيرة الإحرام ينتقل من العالم السفلي الدنيوي ليحلق بقلبه في العالم العلوي، ويتذكر العالم الأخروي، ليس كمن يصلي وهو لا يرى بقلبه شيئا من ذلك؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: «سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ قُلْتُ: الرَّجُلُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، أَيَّ شَيْءٍ يَنْوِي بِقِرَاءَتِهِ وَصَلَاتِهِ؟ قَالَ: يَنْوِي أَنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ» وقال ابن جريج: «قلت لعطاء: أيجعل الرجل يده على أنفه أو ثوبه؟ قال: لا، قلت: من أجل أنه يناجي ربه؟ قال: نعم، وأحب ألا يخمر فاه، سمعت أبا هريرة يقول: إذا صليت فإنك تناجي ربك، وربك أمامك».

نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، إنه سميع مجيب.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

  الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: 123].

أيها المسلمون: الاستعداد للصلاة، وحسن الضوء لها، والتبكير للمسجد، واستحضار موقف القيامة، وتذكر الوقوف بين يدي الله تعالى للحساب، والتفكر في كلام الرب سبحانه للعبد يوم القيامة يقرره بذنوبه، ليس بينه وبينه ترجمان، كل أولئك مما يعين على الاستعداد للمناجاة قبل تكبيرة الإحرام، وهو مما يستجلب الخشوع، وللإمام محمد بن نصر المروزي كلام فائق في مناجاة المصلي لربه سبحانه وتعالى، وكان مما قال: «فَالْمُصَلِّي كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا، إِذَا كَانَ بِجَمِيعِ قَلْبِهِ وَجَمِيعِ بَدَنِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ ثُقْلَ بَدَنِهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُنَاجِي الْمَلِكَ الْأَكْبَرَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْلِطَ مُنَاجَاةَ الْإِلَهِ الْعَظِيمِ بِغَيْرِهَا، وَكَيْفَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمَنْ صَدَّقَ بِأَنَّ اللَّهَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ أَنْ يَلْتَفِتَ أَوْ يَغِيبَ أَوْ يَتَفَكَّرَ أَوْ يَتَحَرَّكَ بِغَيْرِ مَا يُحِبُّ الْمُقْبِلُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ فِي صَلَاتِهِ بِغَيْرِهَا مِنَ الِالْتِفَاتِ أَوِ الْعَبَثِ أَوِ التَّفَكُّرِ فِي شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا هُوَ إِعْرَاضٌ عَمَّنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَمَا يَقْوَى قَلْبُ عَاقِلٍ لَبِيبٍ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ مَنْ لَهُ عِنْدَهُ قَدْرٌ فَيَرَاهُ يُوَلِّي عَنْهُ بِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَكُلُّ مُقْبِلٍ سِوَى اللَّهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَى ضَمِيرِ مَنْ وَلَّى عَنْهُ بِضَمِيرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُقْبِلٌ عَلَى الْمُصَلِّي بِوَجْهِهِ، يَرَى إِعْرَاضَهُ بِضَمِيرِهِ، وَبِكُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ، سِوَى صَلَاتِهِ الَّتِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ مِنْ أَجْلِهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ عَاقِلٍ أَنْ يَمَلَّهَا أَوْ يَلْتَفِتَ أَوْ يَتَشَاغَلَ بِغَيْرِ الْإِقْبَالِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ إِذْ أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَهَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ إِلَّا قِلَّةَ مُبَالَاةٍ بِالْمُقْبِلِ عَلَيْهِ، أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ لِمَنْ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَاجٍ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ» انتهى كلامه. فالأولى بالمؤمن أن يعتني بصلاته عناية فائقة؛ فإنها سعادته في الدنيا، وفوزه بالآخرة، وأن يستحضر أنه يناجي ربه سبحانه فيها، فكل كلمة يقولها فإنما يخاطب بها ربه عز وجل؛ فإنه إن فعل ذلك وجد لصلاته لذة لا يجدها في غيرها ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 45- 46].

وصلوا وسلموا على نبيكم...

أعلى