السودان.. حربٌ منسية وشعبٌ لا بواكي له

تتفاقم الأوضاع في السودان وتتزايد الخسائر البشرية ويتساقط كل يوم المزيد من الضحايا في براثن الجوع والمرض، الغريب أن معاناة الشعب السوداني لا تحظى بالمقدار المناسب من التغطية الإعلامية أو الاهتمام الإقليمي والدولي.

                   

في السودان؛ يتواصل الصراع المحتدم منذ أيام في العاصمة الخرطوم ومحيطها، دون أن يجد صداه في الضمير العالمي الذي يبدو وكأنه نسي هذا الشعب المغلوب على أمره، فمنذ أن فشلت المناقشات الهادفة إلى توحيد الجيش واستعادة المسار الديمقراطي، اندلعت شرارة حرب دامية بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا الدعم السريع، وبمرور الوقت اشتدت وطأتها خاصة في قلب الخرطوم، ودفعت هذه الحرب الضروس أكثر من عشرة ملايين سوداني إلى النزوح الداخلي أو اللجوء إلى الدول المجاورة، في ظل وضع إنساني وصحي متدهور، فيما خرجت ثلاثة أرباع المرافق الصحية عن الخدمة وسط تفاقم الأمراض والأوبئة التي زادتها السيول الأخيرة سوءًا، ومع استمرار هذه الحرب الضروس وسقوط أكثر من 20 ألف ضحية وتدمير البنى التحتية، يبقى السودان ـ رغم مأساته ـ خارج دائرة الاهتمام الدولي، في حربٍ قد تكون منسية، لكن آثارها العميقة ستظل جرحًا نازفًا في جسد الأمة.

قتال شرس

بينما تتصدر حروب أوكرانيا وغزة ولبنان عناوين الأخبار، تندلع في السودان حرب أخرى مروعة، بدأت منذ أبريل 2023 ولا تزال مستمرة، بالرغم من ذلك فإنها تبقى بعيدة عن أنظار الكثيرين حول العالم، بدأت مأساة هذه الشعب بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام البشير، بعدها تطورت الأمور حتى وصل الأمر إلى مرحلة خطيرة خلال الأيام الأخيرة، حيث احتدم القتال حول الفاشر وفي عدد من محاور العاصمة الخرطوم ومنطقة الفاو، وسط تزايد ملحوظ في أعداد الضحايا المدنيين، ويخاطر الاحتدام الحالي للقتال بتوسيع وترسيخ الصراع المسلح؛ واستقطاب عرقي أعمق للمجتمع السوداني، وبالمزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة.

 

 توقف ما بين 70% إلى 80% من المستشفيات في مناطق الصراع في السودان عن العمل، بسبب استهداف الدعم السريع المباشر المرافق الصحية بشكل مباشر، وبات الناس يموتون بسبب نقص الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية الضرورية

وفي الأيام الأخيرة شهدت العاصمة السودانية الخرطوم واحدة من أشرس المعارك البرية حتى الآن، حيث عبرت قوات الجيش السوداني من مدينة أم درمان إلى وسط الخرطوم، لتبدأ مواجهة قوية مع مليشيا الدعم السريع، النقطة الأسخن للصراع تركزت في منطقتي السوق العربية والمقرن، بعد أن تمكنت قوات الجيش من الوصول إليهما، وينفذ الجيش هجمات مكثفة على مواقع الدعم السريع باستخدام الطائرات الحربية والمدفعية، ما يضع الخرطوم في خضم قتال شرس، وحتى الآن لا يبدو أي من الجانبين قادرًا على تحقيق نصر حاسم، والسودان الذي خسر بالفعل جنوب السودان بسبب الاستقلال في عام 2011م بات معرضًا إلى مزيدٍ من الانقسامات، وفيما تم تدمير قطاعي الزراعة والثروة الحيوانية.

مأساة متفاقمة

قبل الصراع، كان السودان يعاني بالفعل من أزمة إنسانية حادة، وفي ظل تصاعد الحرب الأخيرة، أطلق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تحذيرات خطيرة بشأن تفاقم الأوضاع الإنسانية، حيث يواجه الملايين الجوع والنزوح وانتشار الأمراض، ويمكن إبراز الأوضاع المأساوية في النقاط التالية:

* مجاعة تاريخية: يعاني السودان من مجاعة طاحنة أصابت 25 مليون شخص، نصفهم يعيشون تحت خطر الجوع الشديد، وسط عجز عن توصيل المساعدات الإنسانية بسبب منع وصول الغذاء، ورغم جهود برنامج الأغذية العالمي الذي يسعى لتقديم المساعدة لـ 8.4 ملايين شخص بنهاية العام، لا تزال الاحتياجات تفوق الدعم المتاح، حيث تم تقديم المساعدة لأكثر من 5 ملايين شخص، بينهم 1.2 مليون في دارفور حيث تعم المجاعة حتى مخيمات النازحين مثل زمزم، وتزداد المعاناة لدرجة أن العديد من العائلات أُجبرت على أكل أوراق الأشجار والحشرات، مما خلق إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في الذاكرة الحديثة، وفقًا للأمم المتحدة.

* أزمة صحية: توقف ما بين 70% إلى 80% من المستشفيات في مناطق الصراع في السودان عن العمل، بسبب استهداف الدعم السريع المباشر المرافق الصحية بشكل مباشر، وبات الناس يموتون بسبب نقص الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية الضرورية، في الوقت الذي تعمل فيه اليونيسف على علاج 215 ألف طفل من سوء التغذية الحاد وتوفير مياه شرب آمنة لأكثر من 6.6 ملايين شخص، تم تعطيل التطعيمات الروتينية للأطفال ومراقبة الأمراض ومكافحة النواقل والكوارث الطبيعية، أدى إلى خلّق بيئة مواتية لتفشي الأمراض، وتفاقمت الأزمة الصحية بفعل الفيضانات الموسمية وتفشي وباء الكوليرا الذي أودى بحياة 165 شخصًا على الأقل، فيما أعلن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، أن حرب السودان أسفرت عن مقتل ما يزيد عن 20 ألف شخص، محذرًا من أن العدد الفعلي للضحايا قد يكون أكبر بكثير.

 

 فالسودان الذي يتخبط منذ عقود من الزمان، يمتلك موارد تتوق إليها البلدان الأخرى، مثل الذهب والأراضي الصالحة للزراعة وامتداد طويل من نهر النيل والأهم من ذلك 750 كيلومترًا من ساحل البحر الأحمر، هذه العوامل وغيرها تجعله مطمعًا لكثيرين.

* أزمة النزوح: يواجه السودان أكبر أزمة نزوح في العالم، وفقًا لتقارير المنظمة الدولية للهجرة، حيث أجبر أكثر من 13 مليون شخص على ترك منازلهم، منهم 2.3 مليون لاجئ فروا إلى الدول المجاورة. فيما تواجه الجهود الإنسانية نقصًا حادًا في التمويل، حيث لم يتم جمع سوى 347 مليون دولار من أصل 1.5 مليار دولار المطلوبة لدعم اللاجئين في سبع دول مجاورة.

* شح المساعدات: لا تزال خطة الاستجابة الإنسانية ممولة بأقل من النصف، حيث تم توفير 1.3 مليار دولار من أصل 2.7 مليار دولار مستهدفة، ورغم التحديات تم إدخال 113 شاحنة محملة بالمساعدات عبر معبر أدري لتلبية احتياجات أكثر من 250 ألف شخص، وبينما يستمر الصراع في السودان في الانتشار، أصبح الوصول الإنساني أكثر محدودية، حيث منعت أعمال العنف الشديدة والقيود المفروضة على حركة الجهات الفاعلة الإنسانية تسليم المساعدات.

مسار سياسي هشّ

حتى الآن، لم تسفر مبادرات الوساطة عن أكثر من وقف إطلاق نار غير مكتمل أو قصير الأجل، فالسودان الذي يتخبط منذ عقود من الزمان، يمتلك موارد تتوق إليها البلدان الأخرى، مثل الذهب والأراضي الصالحة للزراعة وامتداد طويل من نهر النيل والأهم من ذلك 750 كيلومترًا من ساحل البحر الأحمر، هذه العوامل وغيرها تجعله مطمعًا لكثيرين.

رغم دعوات مجلس الأمن الدولي في قراره رقم 2736 لوقف الحصار وتهدئة الأوضاع فورًا، وفي ظل تصاعد المطالبات الدولية بضرورة التدخل الإنساني العاجل، يبقى الوضع الميداني في السودان رهينًا بحرب مستمرة تتجاهل الحقوق الإنسانية الأساسية، وتدفع البلاد نحو كارثة إنسانية، ويبدو المسار السياسي هشًا وغير قادر على مواكبة التصعيد العسكري المروع في البلاد.

مغذيات الصراع

إن الحرب ـ على الرغم من كل ما أدى إليها ـ لم تكن حتمية، ولم تكن المصير المتوقع لبلد حيث كانت الاختلافات العرقية تستلزم الصراع في مناسبات عديدة ولكنها لم تحدث، فالجيش ونظامه الحاكم هما من أسس قوات الدعم السريع في المقام الأول من بقايا قوات الجنجويد سيئة السمعة التي تعاونت معهما في دارفور لمساعدته في قمع التمرد بوحشية في المنطقة، لم يتمكن حتى الآن الجيش من الانتصار على الميلشيا التي أنشأها بنفسه، والنتيجة هي وضع مائع، وعدم وجود خط جبهة واضح، والنتيجة هي ضحايا من المدنيين السودانيين، ولم تكن حياتهم بحاجة إلى الحرب التي جاءت لتزيد من هذا معاناتهم، فمن الخرطوم إلى دارفور، يتعرض المدنيون للقتل والنزوح، وقد أُجبروا على ترك كل ما بنوه وراءهم. البنية التحتية الحيوية، التي كانت بالفعل ضعيفة، انهارت تحت وطأة المعارك، والمستشفيات أصبحت عاجزة عن تقديم الرعاية الصحية.

مع استمرار الصراع، تجد الأطراف المتنازعة دعمًا من قوى خارجية، فهناك من يدعم الجيش بقيادة الجنرال عبدالفتاح البرهان، وهناك من يدعم مليشيا الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، والذي قاد ميليشيات الجنجويد التي ارتكبت فظائع في دارفور، وعلى الرغم من الحظر الأممي المفروض على دارفور منذ عام 2004م، تتدفق الأسلحة من دول مثل الصين وروسيا وصربيا والعديد من الدول الإقليمية، وينكر الجميع تورطه بشكل روتيني مما يعمّق النزاع ويزيد من تعقيد المشهد. في هذا المناخ العسكري المتوتر، حيث تنتشر الأسلحة أكثر من الغذاء، تتفاقم التوترات العرقية القديمة، لذا فإن الحل الوحيد الممكن يكمن في وقف التدخلات الخارجية، وإعطاء الكلمة للشعب بعد أن تتوفر له الظروف المناسبة ليقول كلمته، وأن يتخلص من الخونة الذين سطو على انتفاضته، وباعوا أحلامه.

أعلى