بعد ردّ حزب الله: تراجع الخطاب وتدهور الردع

بعد المناوشات العسكرية الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل ما الذي تبقى من أجل العودة إلى قواعد الاشتباك القديمة بين الطرفين قبل اندلاع طوفان الأقصى، وهل عاد حزب الله إلى قواعده، وأمن العدو الصهيوني بوائقه؟


انتهى ردّ حزب الله على إسرائيل يوم الأحد في 25 أغسطس، تحت اسم "عملية الأربعين" بعد مرور 26 يوماً على اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. ولم تتعهّد إسرائيل بالردّ على الردّ، بل اعتبرت أنها أجهضت الهجوم بسلسلة من الضربات الاستباقية، طالت مخازن الصواريخ في عمق البقاع شرق لبنان، قبل أيام من موعد الردّ، وكان آخرها ضدّ منصات صواريخ الكاتيوشا في الجنوب، فجر يوم الأحد، وقبيل انطلاقها نحو شمال فلسطين المحتلة، والتي كانت مجرّد إشغال للقبة الحديدية وأنظمة الدفاع الإسرائيلية الأخرى كي تتمكّن المسيّرات من الوصول إلى مقر الاستخبارات قرب تل أبيب. ولا دليل حسياً على إصابة الهدف النوعي، ولا على حجم الأضرار اللاحقة به، بسبب التعتيم الإعلامي المطبق، بل النجاح الملموس هو في وصول المسيّرات إلى هدفها. ولم يَعِد الحزب بشكل حازم باستكمال الردّ في موجة ثانية، مع أنه لوّح بإمكانية ذلك.

وفي الإجمال، نجح الضغط الأمريكي سواء بإرسال حاملات الطائرات إلى المنطقة، أو إرسال الموفدين إلى لبنان، وإسرائيل، في كبح المسار الذي أطلقه رئيس الحكومة الإسرائيلية قبل أقل من شهر، لإشعال حرب إقليمية. فلا الحزب راغب بتوسيع الحرب ولا هو قادر على تحمّل كلفتها البشرية والمادية الهائلة، ولا إيران تريد التورّط في حرب مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة.

وإن كان إطفاء الحرب الإقليمية بهذا السيناريو المعدّ مسبقاً وبعناية فائقة، يأكل من قوة الردع للحزب ولإيران ولكافة أذرعها الأقل شأناً في المنطقة، فإن المشكلة الأكبر تكمن في سرديّة النصر التي باتت غير مقنعة لجمهور الأتباع والأنصار لهذا المحور، ليس بالمعنى المباشر فقط، وكذلك في الخطاب الأيديولوجي المتراكم منذ انتصار ثورة الخميني عام 1979، بشأن تبنّي قضية فلسطين. لذلك، فإن معركة الإسناد لغزة الذي تبنّاه الحزب في لبنان، هي محاولة للحفاظ على هذه السردية وعلى الخطاب، قدر الإمكان، وذلك كله من دون أثر واضح في مسار الأمور في قطاع غزة، سواء الضغط الحقيقي على الجيش الإسرائيلي هناك وإرباكه، أو في غرف المفاوضات بين إسرائيل والوسطاء الأمريكيين والقطريين والمصريين، لإجبار نتنياهو على إبرام صفقة التبادل والهدنة.

 

عدم قدرة حزب الله على تحمّل أثمان أيّ حرب مدمّرة مع إسرائيل، على نطاق أوسع مما حدث في حرب تموز 2006، لا سيما وأنّ لبنان يعاني من انهيار اقتصادي وتدهور كبير لسعر عملته

قيود الحرب الموسّعة

ولفهم أبعاد هذه المسألة البالغة الأهمية، لا بدّ من توضيح المعطيات التالية، والتي تقيّد حركة الحزب أكثر مما تقيّده حسابات إيران في الإقليم، أو سياق علاقاتها المعقّدة مع الولايات المتحدة، كما مع الغرب عموماً:

لا تتوافر للحرب على إسرائيل انطلاقاً من جنوب لبنان، سواء لإسناد غزة أو لأبعد من ذلك، بيئة حاضنة وملتزمة في لبنان، ولا يقتصر الأمر على البيئة الشيعية العامة أو حتى الأوساط القريبة من الحزب. فالطوائف المسيحية ترفضها جملة وتفصيلاً، ولا تعنيها قضية فلسطين أصلاً، بل ترى إيران العدو الأقرب، الواجب التصدّي له. أما أهل السنة في لبنان، فهم متردّدون بين أمرين: الأول، تعاطفهم المطلق مع أهل غزة، والثاني، شكّ شريحة لا بأس بها منهم بنيّات محور المقاومة في المنطقة، ولم ينسوا بعد ما جرى لسنّة العراق وسوريا واليمن، فضلاً عن ما جرى لهم أنفسهم في لبنان، منذ عام 2005.

وإن كانت الجماعة الإسلامية قد انضمّت رمزياً إلى معركة الإسناد، لكنها الواجهة اللبنانية لأنصار حركة حماس في المخيمات الفلسطينية والمناطق ذات الأغلبية السنية. ودخول الجماعة على خط المواجهة خفّف من الاحتقان السني الشيعي إلى درجة كبيرة، دون أن يطفئه. وفي العموم، دلّت استطلاعات الرأي في الآونة الأخيرة، أنّ أكثرية ساحقة من اللبنانيين من جميع الطوائف لا تريد التورّط في حرب موسّعة مع إسرائيل.

عدم قدرة حزب الله على تحمّل أثمان أيّ حرب مدمّرة مع إسرائيل، على نطاق أوسع مما حدث في حرب تموز 2006، لا سيما وأنّ لبنان يعاني من انهيار اقتصادي وتدهور كبير لسعر عملته الوطنية بإزاء العملات الأجنبية، مع تراجع مستوى علاقاته مع الدول المانحة لا سيما دول الخليج. وقد توقفت المساعدات الخليجية السخيّة ومنها إيداعات بالدولار في المصرف المركزي، منذ أكثر من عشرة أعوام، فضلاً عن تراجع عدد المشاريع المموّلة عادة من دول الاتحاد الأوروبي إلا بشروط صارمة نظراً للفساد المستشري في النظام اللبناني.

وقد يكون الضغط الاقتصادي من الوسائل الفعّالة أمريكياً وأوروبياً لتطويع الحزب وبيئته، وتحريض الطوائف الأخرى عليه، وهو ما جرى بنجاح كبير إبّان ما سُمّي بثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر عام 2019. وإنّ توقف المساعدات الخليجية، ومنع مواطني المملكة العربية السعودية خاصة من السفر إلى لبنان، من الأسباب الأساسية لانهيار الاقتصاد اللبناني عام 2019، وتراجع قطاعي السياحة والخدمات، وهما من القطاعات الحيوية لردم الفجوة بين الإنتاج المحلي والاستيراد الخارجي. ورافق ذلك انهيار تاريخي لقطاع المصارف الذي كان الرافعة الأساسية للاقتصاد الكلّي اللبناني منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1943. فإن نشبت الحرب الموسّعة، فلا قدرة على دفع أثمانها، ولا اللبنانيون بقادرين على تحمّل نوائبها.

عدم استجابة مجمل الميليشيات العراقية بشكل حاسم في إسناد غزة، وتلكؤ النظام السوري عن الانخراط في المعركة، لحسابات خاصة في العراق وسوريا. فميليشيات الحشد الشعبي ليست جسماً واحداً، والمصالح السياسية لقادتها لا تسمح لهم بالدخول بشكل فعّال في المعركة، كما هي تماماً مصلحة النظام السياسي الذي تهيمن عليه الأحزاب الشيعية. أما الوضع في سوريا فأكثر تعقيداً. فمساحات شاسعة من الجغرافية السورية الاستراتيجية تتقاسمها قوات أجنبية: أمريكية، وروسية، وإيرانية، وتركية؛ ولكل دولة من هذه الدول، حلفاؤها، ووكلاؤها المحلّيون، وكذلك أدواتها داخل النظام المهترئ، ما عدا تركيا، والصراعات محتدمة بين الحلفاء والأعداء. فالروس والإيرانيون حليفان مقرّبان، لكن أوضح ما يكون تجلّي هذا التحالف هو في أوكرانيا منه في سوريا. وروسيا وتركيا ليسا حليفين في سوريا، ولا في أوكرانيا، غير أنّ مشتركات تجمعهما في صراعات مختلفة، لكنهما ينسّقان خطواتهما معاً في سوريا، وكانت الجهود مشتركة بين موسكو وأنقرة للتقرّب من بشار الأسد والتفاهم معه على خطوات الإصلاح السياسي وعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، إلا أنه حتى الغاية تبدو بعيدة المنال.

هذا الوضع الشديد التشابك والتعقيد، يحرم حزب الله وإيران حرية الحركة والمناورة في سوريا بما يجعلها جبهة قتالية رئيسية من خلال هضبة الجولان، وقاعدة خلفية آمنة للإمداد البرّي من إيران إلى لبنان، والتذخير من المستودعات الموزّعة في مناطق قريبة من الحدود اللبنانية السورية، وإيواء النازحين اللبنانيين من مناطق القتال. فروسيا التي هي الداعم الرئيسي للنظام، لا تريد تورّطه في الحرب حتى لا يتعرّض لضربات إسرائيلية قاضية، تكون روسيا بسبب ذلك من أكبر الخاسرين. أما إيران التي استثمرت مليارات الدولارات لحماية النظام السوري، واستنزفت العلاقات مع السنة في العالم من أجل الهيمنة عليها، فتجد صعوبة بالغة في الإفادة من هذه الاستثمارات في حرب مصيرية بالنسبة لمحور المقاومة ككلّ كما بالنسبة لإسرائيل. وحزب الله خاصة، يخسر عمقاً استراتيجياً مريحاً في أيّ حرب موسّعة مع إسرائيل، إن لم ينضمّ نظام الأسد إلى المعركة.

خلاصة الأمر أنّ إسرائيل تستنزف حزب الله الذي خسر المئات من مقاتليه والعشرات من كوادره والقيادات، ومنها قيادات أساسية وتاريخية. وبالمقابل، فإن الحزب يستنزف إسرائيل اقتصادياً وسياسياً ونفسياً من خلال نهجير عشرات الآلاف من المستوطنين في شمال فلسطين المحتلة، وتهديد المنطقة الصناعية الأساسية لإسرائيل في المنطقة المحاذية للبنان، فضلاً عن تأثيرات الحرب النفسية. لكن الأهم من ذلك، أنه ثمّة صعوبة وفق موازين القوى الراهنة عقب عملية طوفان الأقصى، في استرداد قواعد الاشتباك السابقة، أو استعادة ميزان الردع بين الحزب وإسرائيل، وخاصة بردود عسكرية تحاول الموازنة بين مستحيلين: العودة إلى واقع ما قبل 7 أكتوبر، وتجنّب حرب حقيقية بكل الأسلحة المتاحة مع إسرائيل.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                               

 

أعلى