انتهاك حرمة رمضان بالإفطار
الحمد لله الولي
الحميد؛ العلي المجيد؛ خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل
الوريد، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له؛ جاد بفضله على عباده، وفتح لهم أبواب جوده وعطائه، فشمر
الصالحون له عبادة وتقربا، وبذلوا أموالهم إطعاما وتصدقا، فهذا الشهر الكريم موسمهم،
والله تعالى معينهم وجازيهم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كَانَ أَجْوَدَ
النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،
وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ
رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» صلى الله وسلم وبارك
عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله
تعالى وأطيعوه، واستثمروا أوقاتكم في طاعته عز وجل، وخذوا من رمضان حظكم، فقريبا
يفارقكم، والسعيد من أودعه عملا صالحا كثيرا، والمغبون من حرم فضله فما عمل إلا
قليلا، و«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ
حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
أيها
الناس: تعظيم شعائر الله تعالى وحرماته، والتزام
أوامره، والوقوف عند حدوده من تعظيمه عز وجل. { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:
229] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
وحدود
الله تعالى وحرماته وشعائره هي أوامره سبحانه ونواهيه، وتعظيمها هو التزامها،
والبعد عن انتهاكها.
وكلما
كان الحد أو الشعيرة أو الحرمة أكبر كان احترامها والتزامها آكد وأوجب، وكان
انتهاكها أعظم وأخطر، سواء في الأوامر أو في النواهي، وليس تعطيل الشعيرة الكبرى
أو الإخلال بها كالإخلال بما يجب لها؛ فالصلاة شعيرة كبرى فانتهاكها بالترك،
وإلغاء حرمتها بالتعطيل؛ موصل إلى الكفر عند بعض العلماء، ويعاقب على ذلك بالقتل
كفرا أو حدًّا، أو بالحبس حتى الموت. وعذابه في الآخرة أشد وأنكى، لكن من قصَّر
فيما يجب لها ليس كمن انتهك حرمتها، وأهان شعيرتها؛ ولذا عذب في قبره من لم يستتر من
بوله، وويل للأعقاب من النار، ولا يكفر بذلك، ولا يقتل عليه، وعذابه في القبر
والآخرة أقل من عذاب تارك الصلاة.
والنواهي
مثل الأوامر؛ فالزنا من الكبائر، وعقوبة فاعله الرجم أو الجلد والتغريب، والزناة
والزواني يجمعون في تنور من نار، لكن من وقع فيما هو أقل من الزنا من بابه لا يصل
به إلى حده وعذابه.
وصوم
رمضان شعيرة من أعظم الشعائر، حتى كان خمس دين العبد؛ لأنه ركن من الأركان الخمسة
التي بني الإسلام عليها، فمن تركه ترك خمس دينه. وشعيرة الصوم لعظمتها وأهميتها في
دين الله تعالى أحيطت بشعائر كثيرة؛ لتكون ظاهرة للناس، معظمة في النفوس، محترمة
في الأرض؛ فكان ترائي الهلال في دخول الشهر وخروجه لبدء الصوم ونهايته، وكانت زكاة
الفطر في ختامه مظهرا معلنا، وكان السحور والإفطار متعلقين بالليل والنهار الآيتين
الكونيتين الظاهرتين.. كل أولئك شعائر ظاهرة لبيان أهمية رمضان، وعظم فريضة
الصيام. ونلحظ الانقلاب الكلي في حياة الناس بين آخر يوم من شعبان وأول يوم من
رمضان، ومن أسبابه هذه الشعائر الظاهرة المتعلقة بالصوم.
هذا
التقرير المهم لحرمة الصوم وحرمة رمضان لا بد أن يعرفه المسلمون، وأن يتدارسوه
بينهم، وأن ينقلوه للمفرطين منهم؛ فثمة ظاهرة غريبة ظهرت منذ سنوات في بعض بلدان
المسلمين، وهي ظاهرة انتهاك حرمة رمضان بإعلان الفطر فيه، والإعانة على هذا المنكر
العظيم، وضعف الإنكار فيه.
فعدد
من شباب المسلمين صاروا في تجمعاتهم بعد الفجر يتنافسون في إظهار الفطر، وانتهاك
حرمة الشهر كما يتبارزون في أذية الناس بسياراتهم، وإغلاق طرقاتهم.
وتعينهم على هذا المنكر العظيم بعض المطاعم
والمتاجر ببيعهم الطعام والشراب بعد وجوب الإمساك، إما لكون الباعة من غير
المسلمين فلا يعنيهم رمضان وحرمته لا في قليل ولا كثير. وإما لأن في الباعة ضعف
إيمان فيريدون الأرباح، ولا يتأثرون بانتهاك حرمة رمضان، وإما لأنهم يخافون أذية
هؤلاء العصاة لو أحجموا عن بيعهم ما به ينتهكون حرمة الشهر، وكل واحدة من هذه
التعليلات تدل على غربة الاحتساب في بلاد المسلمين الموصلة ولا بد إلى غربة
الإسلام، وغربة ما بني عليه من أركان، وغربة شعائره العظام.
إن
الشباب شعبة من الجنون، وفي الشاب تهور قد يصل به إلى الموت، وفيه تطلع لإثبات
ذاته وكسب مديح أقرانه يؤدي به إلى الجنوح، وفعل أي شيء لأجل ذلك، ولا يهمه أن
يهدم إيمانه، أو يخل بأركان إسلامه. وما لم يؤخذ بأيدي هؤلاء الشباب إلى تعظيم حرمات
الله تعالى وشعائره، ويمنعون من المجاهرة بالفطر في رمضان، بالتذكير والموعظة، ثم
بالتعزير والشدة فإن شرهم سينتقل إلى غيرهم، وإثم مجاهرتهم بالفطر يحمله مجتمعهم.
إن
أولاد المسلمين الصغار ينشئون على تعظيم رمضان، وحرمة الإفطار فيه، بما يرونه في
بيوتهم من مظاهر العناية بالصوم في السحور والفطور، وترك الطبخ أثناء النهار، حتى
إن الصغار يحاكون الكبار فيدَّعون الصيام، وربما صاموا بعض النهار، أو بعض الأيام،
ولولا ما غُرس في قلوبهم من تعظيم الصوم لما حاكوا فيه الكبار وقلدوهم في فعله أو
ادعائه.. هذه القيمة العظيمة لتعظيم شعائر الله تعالى في نفوس أولاد المسلمين
ينبري شباب طائش ضائع ليهدرها ويقتلها بالمجاهرة بالفطر؛ ولذا فإنه يجب على الآباء
والأمهات حفظ صغارهم من مناظر انتهاك الحرمات والشعائر؛ ليبقى تعظيم الله تعالى
وشعائره مكينا متينا في قلوبهم. فإن وقعت أبصارهم على منظر من تلك المناظر البشعة
المنتهكة لحرمة الشهر وجب إزالة أثره على الفور بإظهار التأثر، وتعظيم الأمر،
وكثرة الاسترجاع، ثم موعظتهم ولو كانوا صغارا ببيان حرمة رمضان، وفريضة الصيام،
وأن أولئك المنتهكين حرمة الشهر هم أسوأ الناس وأحطهم وأقبحهم.
إن لرمضان هيبة ووقارا في نفوس المؤمنين تكسر
هذه الهيبة، ويذهب ذلك الوقار بالإفطار في النهار، فاحفظوا هيبة رمضان ووقاره بردع
السفهاء المنتهكين لحرمته.
إن
الانتهاك العلني لحرمة الشهر من قبل بعض شباب المسلمين قد جرأ غير المسلمين في بلاد
المسلمين على المجاهرة بالفطر؛ لأنهم رأوا أهل الإسلام ينتهكون حرماته، ولا يعظمون
شعائره، فهان في نفوسهم الإسلام وأهله، فانتهكوا حرمته. وهؤلاء يجب زجرهم ببيان أن
مجاهرتهم بالفطر ولو كان مباحا في دينهم انتهاك لمشاعر المسلمين، وإهانة لهم، فإن
لم ينتهوا وجب ردعهم وعدم تركهم؛ حتى يعلم الناس أن لدين الإسلام وأركانه وشعائره
موقع في قلوب المسلمين، لا يسمحون لأحد بزعزعته أو إهانته، وعجيب أن يسكت المسلمون
عن إهانة دينهم في ديارهم، مع أن إهانة دينهم إهانة لهم!!
ومن
العمال من يعمل في حرِّ الهاجرة فيتعلل بالعمل للفطر فينتهك حرمة الشهر بحجة أنه
لا يستطيع الصوم في شدة الحر، وهؤلاء أيضا يؤخذ على أيديهم، ويبين لهم أن هذا
إخلال بركن الإسلام، وأن عليهم أن يصبروا ويتحملوا، أو ينقلوا عملهم إلى الليل،
فإن عجزوا عطلوا عن العمل في رمضان، ولم ينتهكوا حرمة الشهر بالإفطار.
ويبلغ
الاستخفاف مداه إن كان هؤلاء العمال المنتهكون حرمة رمضان بالفطر فيه من الكفار أو
من عصاة المسلمين، ويقيمون بطريقة غير نظامية، فيكونون سببا نشر الجرائم والفساد؛
لأنهم بلا عمل مستقر، وفي التستر عليهم وإعانتهم على ما هم فيه من المنكر بمجاهرتهم
بالفطر إضرار بالبلاد والعباد، والمؤمن الحق ينكر المنكر، ولا يسعى في الضرر على
إخوانه لتحصيل مصلحته.
ومن
ادعى أنه مسافر فلذلك أفطر مُنع من المجاهرة بفطره، والعلماء كثيرا ما يذكرون في
كتبهم أن المسافر يفطر سرا؛ لئلا يظن به سوءا؛ ولئلا يكون قدوة لعصاة المسلمين؛
ولئلا يؤذي مشاعر الصائمين.
ومن
تعمد الإفطار في رمضان بلا عذر فقد أهلك نفسه، وأنقص أركان دينه، وبارز الله تعالى
بعصيانه، ولن يفلح إن أصر على ذنبه {وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا
وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14]. بارك اله لي ولكم في
القرآن...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه
وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما
بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وحققوا التقوى في صومكم؛ فإن علة فرض الصيام هي
تحقيق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
أيها
المسلمون: إن تعمد الفطر في نهار رمضان يذهب بسهم من
أسهم العبد في الإسلام، وقد جاء في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ، لَا
يَجْعَلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ لَهُ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ كَمَنْ لَا
سَهْمَ لَهُ، وَأَسْهُمُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةٌ: الصَّلَاةُ، وَالصَّوْمُ،
وَالزَّكَاةُ» رواه أحمد.
وإن أخطر
أنواع الفطر في رمضان انتهاك حرمة الشهر بالجماع في نهاره، وغالبا ما يقع في ذلك المتزوجون
حديثا، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ،
يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي» رواه الشيخان. ومن جامع في
نهار رمضان فإنه لم يترك شهوته لله تعالى، بل انساق خلفها، ووقع في كبيرة من
الكبائر توجب التوبة والكفارة المغلظة بعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. ومما يدل على فظاعة الأمر، وشدة
الجرم، أن الذي جامع في نهار رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه
فزعا مذعورا فَقَالَ: «هَلَكْتُ»، وفي رواية قَالَ:«احْتَرَقْتُ، قَالَ: مِمَّ
ذَاكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ بِامْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ» والنبي عليه الصلاة والسلام
أقره على هذا الوصف لنفسه بالهلاك والاحتراق فَقَالَ:«أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ».
وقد
ورد وعيد شديد فيمن يتساهلون في الإفطار فيقدمونه عن غروب الشمس؛ وذلك في حديث
أَبي أُمَامَةَ البَاهِليِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ: «بينَا أنَا نَائِمٌ إذْ أَتَاني رَجُلانِ فأخَذَا بضَبْعِي
-أي: عَضُدِي- فَأَتَيَا بي جَبَلاً وَعْراً فَقَالَا لي: اصْعَدْ، فقلت: إني لا
أُطِيقُه، فقَالَا: إنا سَنُسَهِّلُه لك، فَصَعَدتُ حتى إذا كُنتُ في سَواءِ
الجَبَل إذا أنا بِأصْواتٍ شدِيدَةٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذهِ الأَصْواتُ؟ قَالَوا:
هَذا عِوى أَهْلِ النَّارِ، ثمَّ انْطُلِقَ بي فَإِذا أَنا بِقَومٍ مُعَلَّقِين
بِعَرَاقِيبهِم، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُم تَسِيلُ أشْداقُهُم دَماً، قَالَ:
قُلتُ: مَن هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هؤُلاءِ الَّذين يُفطِرُون قَبلَ تَحِلَّة صَوْمِهِم»
صححه ابن خزيمة وابن حبان.
فإذا
كان هذا هو عذاب من صاموا وأفطروا قبل الغروب فما هو عذاب من انتهكوا حرمة الشهر
بالإفطار فيه؟ ومن جاهروا بفطرهم وأعلنوه على الملأ، محادين الله تعالى، داعين
غيرهم إلى فعل ما فعلوا، نعوذ بالله تعالى من الضلال والغواية {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا
كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 5-6].
وصلوا
وسلموا على نبيكم...