النزوح السوري وأثره على أوضاع لبنان الهشّ

تتصاعد وتيرة الأحداث في لبنان هذا البلد الصغير، ومع تفاقم أزماته السياسية والاقتصادية، يتم سحب اللاجئين السوريين ليكونوا كبش الفداء، وتتصاعد الحملات الإعلامية ضدهم، وفي ظل فوضى سياسية فإن التوازن التي حافظ على بقاء لبنان يوشك أن يختل.


من بين محتشدات اللجوء السوري في الدشول المجاورة، يشكّل اللجوء السوري في لبنان، الأكبر نسبياً نظراً لعدد السكان (ما يقارب ثلث المقيمين فعلياً أي أكثر من مليون من أصل 4 ملايين بحسب التقديرات الإحصائية)، والأكثر خطورة بسبب النسبة العالية للاجئين الاقتصاديين لا السياسيين، لا سيما عقب إصدار قانون قيصر في الولايات المتحدة عام 2019، والذي فرض عقوبات صارمة على أشخاص النظام وعلى الكيانات والدول التي تتعامل مع النظام، فمعظم اللاجئين السوريين في لبنان بعد عام 2015 لم يعودوا من المعارضة بل من الموالين للنظام أو المحايدين في أقل تقدير، الفارين من الاضطراب الأمني أو من التدهور المعيشي في سوريا.

وهو اللجوء أو النزوح - كما يصرّ السياسيون اللبنانيون على تسميته - الأكثر حساسية، لأن المسيحيين في لبنان يتناقصون على نحوٍ مطرد بسبب الهجرة الكثيفة وقلة المواليد، وفوق ذلك، لأنهم مقتنعون منذ تأسيس فرنسا لدولة لبنان الكبير عام 1920 بأن لبنان صُنع من أجلهم أولاً، فلبنان هو الدولة العربية الوحيدة التي يرأسها مسيحي، فيما باقي الدول ذات أغلبية إسلامية كبيرة ويحكمها مسلم. وكانت السردية الرائجة في الأدبيات الحزبية المسيحية منذ تأسيس لبنان أنه وطن قومي للمسيحيين. وعلى الرغم من سقوط هذه النظرية عملياً إثر هزيمة القوى المسيحية في الحرب الأهلية، إلا أن قيادتهم الدينية والسياسية تتمسّك بمقولة الحفاظ على الامتيازات الدستورية للمسيحيين عامة وللموارنة خاصة، بل بوجوب استرداد صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني والتي فقدها إثر اتفاق الطائف لعام 1989 وقد أنهى الحرب الأهلية، وأسقط الانقسام الفعلي في لبنان بين أمراء الحرب والإدارات الذاتية في بيروت والمناطق.

 

ما يشهده لبنان منذ الأزمة الاقتصادية الطاحنة والمظاهرات التي مهّدت لها خريف 2019، هو استنساخ لخطاب الكراهية السابق لكن ضدّ المهاجرين السوريين هذه المرة، تحت عناوين متحرّكة، فيقولون إن الوجود السوري هو سبب الانهيار الاقتصادي

مشكلة التوازن الطائفي

هذه المعضلة الوطنية لم تخفّف من غلوائها مآسي الحرب بين الطوائف ما بين عامي 1975 و1990، بل تفاقمت نفسياً مع اختلال التوازن الديموغرافي والسياسي والعسكري بين المسيحيين والمسلمين في المرحلة التي أعقبت الحرب، بحيث تشير التقديرات إلى أن نسبة المسيحيين المقيمين إلى المسلمين قد تكون أضحت الربع فقط، بعدما أن كانت الغلبة للمسيحيين قبل قرن، أي أكثر من النصف بقليل. وسياسياً، فقد المسيحيون الهيمنة السياسية على مؤسسات الدولة، وإن كانوا ما يزالون يحتفظون برئاسة الجمهورية وقيادة الجيش، والاستخبارات، وحاكمية المصرف المركزي، والمنصب القضائي الأعلى. فاتفاق الطائف، جرّد رئيس الجمهورية من صلاحياته الواسعة، والتي كانت تجعل منه حاكماً بأمره، يشكّل الحكومة ويقيلها، وبإمكانه حلّ البرلمان متى شاء، وهو صانع السياسات الداخلية والخارجية، فبات الآن محكوماً بتوافق مجلس الوزراء مجتمعاً برئاسة مسلم سني. وإلى ذلك، يتحكّم رئيس مجلس النواب الشيعي بأعمال السلطة التشريعية بشكل متناغم مع التغلغل الشيعي المنظّم في مفاصل الدولة وأجهزتها.

أما عسكرياً، فلم يعد الجيش اللبناني، كما كان قبيل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، معقل المسيحيين في لبنان، وقوتهم الضاربة. فازدياد عدد الجنود المسلمين، هو ما دفع القوى المسيحية آنذاك إلى تشكيل ميليشياتهم الخاصة، مع عجزهم المتوازي عن إمداد الجيش بما يكفي العناصر المسيحية للحفاظ على التوازن المطلوب؛ إذ كان للمسيحيين الأفضلية المطلقة في الانتساب إلى سلك الجندية، لكن كل تلك الإجراءات فقدت أهميتها مع مرور الوقت بسبب التفوق السكاني الإسلامي.

وفاقم من الاختلال الطائفي في المجال العسكري والأمني عموماً، ظهور حزب الله عام 1982، وتحوّله إلى قوة ضاربة، تتجاوز الجيش اللبناني نفسه، عدداً وعُدّة، وخبرة وتسليحاً؛ في مجال القتال الهجين الجامع بين أساليب القتال النظامي وحرب العصابات، والتفوّق في الصنوف الجديدة من الأسلحة مثل الصواريخ الموجهّة والدقيقة والمسيّرات على أنواعها، إلى جانب ذراعه الأمنية التي تنافس الأجهزة الاستخبارية الرسمية، مع أن تلك الأجهزة محكومة أيضاً بالتوازنات الطائفية.

في منتصف السبعينات من القرن الماضي، ومع اندلاع الحرب الأهلية بين الأحزاب المسيحية اليمينية والقوى الإسلامية وبعض الأحزاب العلمانية التي تضمّ مسيحيين مناهضين للفكر الانعزالي للجبهة اللبنانية آنذاك، والتي تضمّ قوى اليمين المسيحي، كان شعار الحرب تخليص لبنان من الوجود الفلسطيني، وتعرّضت المخيمات الفلسطينية في المناطق ذات الأغلبية المسيحية، إلى الحصار والإبادة. ووصل هذا المسار إلى ذروته القاسية، بتنفيذ المجزرة البشعة في مخيمي صبرا وشاتيلا في جنوب العاصمة 16 سبتمبر 1982، إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان. والسبب العميق لكراهية الفلسطينيين، هو خوف اللبنانيين المسيحيين من توطين اللاجئين الفلسطينيين، واختلال التوازن الديموغرافي الطائفي.

استنساخ خطاب الكراهية

ما يشهده لبنان منذ الأزمة الاقتصادية الطاحنة والمظاهرات التي مهّدت لها خريف 2019، هو استنساخ لخطاب الكراهية السابق لكن ضدّ المهاجرين السوريين هذه المرة، تحت عناوين متحرّكة، فيقولون إن الوجود السوري هو سبب الانهيار الاقتصادي، وأول قائل ليس سوى جبران باسيل زعيم التيار الوطني الحر، وتابعه على ذلك، زعيم تيار المستقبل ورئيس الحكومة في تلك المرحلة سعد الحريري. وهذه الفرية سرت كالنار في الهشيم، وتلقّفها الناس من كل الطوائف، في وقت كان آلاف المتظاهرين يملؤون الشوارع ويشتمون الزعامات أو معظمها، ويحمّلونهم وزر الانهيار المالي والاقتصادي، وخسارة كل الودائع بالعملات الصعبة.

وفيما بعد، بدأ الترويج للخطر الأمني الذي يمثّله النازحون السوريون، مستغلّين الحوادث الأمنية التي يتورّط فيها سوريون، ويسقط فيها ضحايا لبنانيون. وبالأخص حادثة اختطاف باسكال سليمان المسؤول في القوات اللبنانية التي يرأسها سمير جعجع زعيم الحرب الذي كان يؤيد الثورة الشعبية على نظام الأسد، وقد قُتل باسكال سليمان في ظروف غامضة، فقيل إن عصابة سرقة سيارات مكوّنة من السوريين هي التي اختطفته ثم قتلته ونقلته إلى سوريا. وهذه المعطيات مستغربة بشدة، إذ لا تتصرّف عصابات السرقة بهذا الأسلوب، ولا تقتل المسروقين عادة. لذا، تمسّكت القوات اللبنانية بنظرية مختلفة، تقول إن العملية هي اغتيال سياسي، وذكّرت بعمليات الاغتيال السابقة التي طالت كوادر في التنظيم، وكذلك قيادات سياسية ونيابية وأمنية، من طوائف مختلفة، منذ عام 2005، واتهمت بها سوريا إلى جانب حزب الله.

لكن ما يهمّ هنا، أن القوات اللبنانية حرّضت على طرد كل النازحين السوريين من المناطق المسيحية، واستعمل أنصار جعجع العنف ضدّ كل سوري وجدوه. وتضافر ذلك، مع استعار الحملة على النازحين، وقيام جهاز الأمن العام اللبناني بتشديد الإجراءات على السوريين لمنعهم من العمل من دون إقامة قانونية، وفي الوقت نفسه، جعل الحصول على الإقامة صعباً، وحذّر اللبنانيين من العمالة السورية غير القانونية. إلى ذلك شارك وزراء في حكومة تصريف الأعمال في التحريض على السوريين، مثل وزير شؤون المهجرين عصام شرف الدين الذي زعم أن هناك 20 ألف مسلح سوري على الأقل في مخيمات لبنان، وأن الجيش اللبناني لا يستطيع ضبط الحدود مع سوريا، مطالباً بفتح البحر كي يهاجر السوريون بشكل غير شرعي إلى أوروبا.

 

يكتفي الاتحاد الأوروبي بمحاولة إبعاد اللاجئين السوريين عنه، ويدفع الأموال كي يبقوا في بلدان اللجوء الحالية، وقد قرّر منح لبنان أخيراً مليار يورو للهدف نفسه، فثارت ثائرة القوى المناهضة لوجود السوريين، واعتبروا المبلغ رشوة للبنان

ثم أتى وزير الشؤون الاجتماعية هكتور الحجار ليزعم هو الآخر أن لبنان أنفق على المهجرين السوريين منذ بدء النزوح من سوريا40 مليار دولار ولم يقبض سوى 12 مليار دولار. وكلا الزعمين غير موثّقين بمعلومات ولا إحصاءات، بل هي مزاعم من نوع المهاترات الشعبوية، التي باتت الخبز اليومي للقوى المسيحية الدينية والسياسية وبعض الأوساط الأخرى التي تحرّض منذ عام 2019 على طرد السوريين، إما لأنهم يقبضون المساعدات بالدولار من الأمم المتحدة، فيما لا يتلقى اللبنانيون المعوزون شيئاً في زمن الضائقة الاقتصادية، أو لأن السوريين ينافسون اللبنانيين في كل المهن، لأن الدولة اللبنانية لم تنظم وجودهم، ولا وضعت قيوداً على ممارسة أعمالهم، ومهنهم، في السوق اللبناني. وإما لأنهم يتكاثرون بأسرع مما يتكاثر اللبنانيون، حتى وصلوا إلى القول بأنه "مقابل كل لبنانيين موجوديْن في لبنان هناك نازح سوري، ومقابل كل ولادة لطفل لبناني هناك 4 ولادات لأطفال سوريين من دون أوراق ثبوتية. اللبنانيون يزيدون 1 في المئة سنوياً، بينما يزداد النازحون السوريون 4 في المئة سنوياً، وأنه وفق هذه النسب، ستتساوى أعداد النازحين السوريين مع أعداد اللبنانيين في المستقبل المنظور". وإما لأن سوريا باتت آمنة بزعمهم ويجب إرجاع السوريين ولو بالقوة. وإما لأن معظم السوريين في لبنان هم موالون للنظام، ويمكن أن يتحولوا ورقة إقلاق بيد بشار الأسد، في أي لحظة.

ابتزاز العالم

يكتفي الاتحاد الأوروبي بمحاولة إبعاد اللاجئين السوريين عنه، ويدفع الأموال كي يبقوا في بلدان اللجوء الحالية، وقد قرّر منح لبنان أخيراً مليار يورو للهدف نفسه، فثارت ثائرة القوى المناهضة لوجود السوريين، واعتبروا المبلغ رشوة للبنان، لكن بعضهم وهو جبران باسيل، وفي سياق اعتراضه طالب بفتح البحر أمام اللاجئين السوريين، وأنه لو فعلت الحكومة ذلك، لنال لبنان مبلغاً أكبر بكثير. وهنا تتبدى نزعة ميكيافيلية، في الخطاب السياسي اللبناني. فمع الأزمة المالية وانهيار المصارف وتبخّر الودائع، ألقوا المسؤولية على النازحين السوريين. ومع استنكاف الدول العربية والغربية عن مساعدة لبنان، لوّحوا بورقة إعادة النازحين إلى سوريا بالقوة. فلما خشوا إلقاء العقوبات على لبنان، اتجهوا إلى البحر ليكون مرساة أحلامهم بالحصول على حبل النجاة. لكن قبل ذلك، وجد دعاة تقسيم لبنان من القوى المسيحية، في أزمة النزوح السوري أداة جديدة للتحريض على الانفصال عن الطوائف الأخرى، أو العودة إلى مشروع لبنان الصغير بدلاً من لبنان الكبير ذي الغالبية المسلمة. فإن كان المسلمون لا يريدون التخلص من السوريين في مناطقهم، فليأخذوا كل السوريين القاطنين في مناطق المسيحيين. ليس هذا فحسب، فليكن الفراق التام، بالاتفاق دون الاختلاف والصدام، هو الحلّ النهائي لهذا اللبنان.

أعلى