يحاول الاحتلال ومن خلفه وسائل الإعلام الغربية أن تصف أهل غزة والمسلمين عموما بالهمجية، وإذا بحرب غزة تدير الأمر عليهم، وتعلمهم من هم أهل الحضارة حقا، كثيرة هي الدروس التي علمتها غزة للعالم.
"نحن لا نخوض حربنا فقط، بل نخوض حرب جميع الدول والشعوب المتحضرة"
هذه المقولة، ما فتئ رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتانياهو يرددها منذ بداية
الحرب على غزة، حتى أنه تفوه بهذه الجملة أكثر من مرة، أثناء استقباله قادة الدول
الغربية في الأسبوع الذي أعقب السابع من أكتوبر، عندما تقاطر هؤلاء القادة ليعلنوا
تأييدهم لدولة الكيان في حربها ضد المقاومة الفلسطينية وأهل غزة.
ويعود وزير الدفاع الصهيوني يوآف غالانت ليردد تقريبًا نفس المعنى، عندما قال "لقد
أمرت بفرض حصار كامل على غزة. لن يكون هناك كهرباء ولا طعام. نحن نقاتل الحيوانات
البشرية ونتصرف وفقًا لذلك"
وساهمت وسائل الإعلام العالمية، والتي يمولها صهاينة الغرب في ترسيخ صورة الهمجية
التي يتم بها وصم أهل غزة لعدة أسابيع، حيث انخدعت بها شرائح واسعة من الغربيين.
وتذكر صحيفة هآرتس الصهيونية، أن تحقيقًا أجرته الثلاثاء مؤسسة "فيك ريبورتر" وهي
مؤسسة خاصة تعمل في دولة الكيان، وكشف التحقيق أنه تم استخدام مئات الحسابات
الإلكترونية المزيفة لترويج رواية الكيان ضد الفلسطينيين وحركة حماس لتعزيز المصالح
الصهيونية لدى الغرب.
ولكن بمرور الوقت، وباستمرار الغارات الصهيونية على أهل غزة، بدأت الصورة تتغير،
عندما اتضح من هو الهمجي؟ من الذي يقتل الأطفال ويحول جثثهم إلى أشلاء؟ أليس الهمجي
هو من هدم أكثر من 70 % من أبنية قطاع غزة، بما فيها المساجد والمدارس والجامعات؟
كيف يمكن تصور حضارة من يقصف المستشفيات، ويحاصرها ليقتل المرضى والأطباء؟
هنا
بدأت النظرة لدى دوائر شعبية في الغرب تتغير، والذي تم التعبير عنه في فعاليات
شعبية عديدة، أجبرت صانع القرار الرسمي الغربي، أن يبدأ على استحياء في استنكار
المجازر التي تحدث في غزة.
ولم يقتصر التحول الرسمي من الكيان الصهيوني على أوروبا، بل بدأ تحول أكبر في
الداعم الرئيس للصهاينة في العالم وهي الولايات المتحدة، بل انعكس ذلك على الرئيس
الأمريكي نفسه، ومواقفه المنحازة للكيان.
هنا تدخل الكيان الصهيوني، ولكن كيف يعود إلى سردية الغرب المتحضر والمسلمين الهمج
ليقنع بها الشعوب والمستنكرين للوحشية الصهيونية بتلك القصة مرة أخرى؟
فكان لابد من تدبير صهيوني جديد، يقوم على فكرة إظهار أهل غزة بالهمجية، فكانت فكرة
إلقاء المساعدات من الجو، وإظهار تكالب الناس على تلك المساعدات، ومحاولة الحصول
عليها، واندفاعهم حتى أمام الشاحنات والتي تدخل إلى شمال غزة حيث المجاعة، وفي نفس
الوقت ضرب القذائف على الشرطة الفلسطينية وإخراجها من معادلة التنظيم والإدارة
والإشراف على المساعدات، لتنقل الصورة همجية أهل غزة وعدم قدرتهم على تنظيم أنفسهم،
لترسم صورتهم المزعومة كهمج.
وبينما كانت تسعى الصورة الصهيونية تثبيت مقولة أن أهالي غزة، أنهم قوم همج، بل
حيوانات بشرية، إذ الفلسطينيون يثبتون أنهم هم أشرف البشر وهؤلاء الصهاينة هم
حثالته.
ولكن كيف تم ذلك؟
|
الفعاليات الشعبية في دول الغرب، تثبت أن هؤلاء الشعوب لم تعد تتقبل سردية
همجية الفلسطينيين، بل تعتبر أن ما يقوم به جيش الاحتلال في غزة هي الهمجية
والوحشية. |
كيف استطاع أهل غزة قلب الصورة التي كان يريد الصهاينة تثبيتها في الغرب لهم؟
لابد في البداية من إدراك كيف تغيرت الصورة عن أهل غزة لدى الشعوب في الغرب، ثم
تتبع ما فعله أهل غزة لإثبات أنهم ليسوا كما يصورهم الكيان الصهيوني، بل هم
بانتمائهم للإسلام فإنهم هم أهل الحضارة.
الشعوب الغربية وتحول المواقف من همجية أهل غزة
سنرصد التحول في المواقف الغربية بأخذ مثالين لذلك على مستويين: الأول التحول في
الفكر لدى النخبة الغربية، والثاني في المواقف العملية لدى الأفراد.
يقول عالم الاجتماع الإيطالي الشهير أليساندرو أورسيني، في فيديو له نشره منذ ما
يقرب من ثلاثة شهور، في قناته الرسمية على يوتيوب: "الوحوش هم نحن.. مجزرة غزة تكشف
أن لا أحد يقوم بانتهاك حقوق الإنسان مثلما تفعله الولايات المتحدة والاتحاد
الأوروبي. الأدلة التجريبية تشير إلى أنه لا يوجد أي تحالف أكثر إجراماً وانعداما
للإنسانية من ثلاثي المفوضية الأوروبية، والبيت الأبيض، وإسرائيل".
ويواصل بأسلوبه المباشر المعتاد والخالي من أي تلاعب بالكلمات "إن نحن استخدمنا
الملاحظة العلمية، أي الملاحظة غير العاطفية وغير الموجهة أيديولوجياً، يتبين أن
التنظيم الأكثر إجراماً في العالم يتكون من التحالف بين هذه الجهات السياسية
الثلاث: الاتحاد الأوروبي، البيت الأبيض، إسرائيل.. الأكثر انعداما للإنسانية على
الإطلاق هم نحن.. نحن الأوروبيين، نحن الأمريكيين، نحن الإسرائيليين.. أعطوني اسم
دولة إسلامية واحدة تذبح الأطفال مثلما يفعل تحالف الاتحاد الأوروبي والبيت الأبيض
وإسرائيل؟ لا يوجد.. فمَن الأكثر دموية وانعدامًا للإنسانية بين الإسلام والغرب
إذن؟"
لم يقتصر هذا التغير على بعض مفكري الغرب،
فالفعاليات الشعبية في دول الغرب، تثبت أن هؤلاء الشعوب لم تعد تتقبل سردية همجية
الفلسطينيين، بل تعتبر أن ما يقوم به جيش الاحتلال في غزة هي الهمجية والوحشية.
ولعل ما قام به شاب يُعرف نفسه بأنه جندي في الخدمة حاليًا في القوات الجوية
الأمريكية، من الإقدام على حرق نفسه أمام السفارة الصهيونية وهو يصرخ الحرية
لفلسطين مراراً وتكراراً حتى توقف عن التنفس، أكبر دلالة على تغير تلك السردية.
وقال الرجل الذي كان يرتدي الزي العسكري في تسجيل مصور بثه على الهواء مباشرة عبر
الإنترنت: لن أكون متواطئا بعد الآن في الإبادة الجماعية، وأضاف وهو في طريقه نحو
مبنى السفارة الإسرائيلية: "سأنظم احتجاجا عنيفا للغاية الآن، لكن احتجاجي ليس
كبيرًا بالمقارنة مع ما يعيشه الفلسطينيون على أيدي محتليهم.
من هم المتحضرون؟
يقول أحد المفكرين المسلمين: أن الإسلام هو الحضارة، وإذا كانت الحضارة هي الرقي،
والذي يعني معنيين في نظره: التحرر وسعادة الإنسان، وهذا ما يستطيع الإسلام تحقيقه
للبشر.
كما يربط هذا المفكر بين مفهوم المسلم لمعنى الحضارة، حيث تتحول الحضارة إلى معراج،
وإلى معين للإنسان ليصل إلى الله، ولا تنقلب الحضارة إلى أن تصبح عائقاً أو مُبعداً
عن الله عز وجل.
والتحضر بهذا المعنى هو ما استطاع أهل غزة تجسيده.
فعندما أوقف الاحتلال شاحنات
المساعدات الغذائية المتجهة لشمال القطاع والقادمة من معبر رفح، اتفق مع من تواطؤ
معه على إلقاء المساعدات من الجو بواسطة الطائرات، كما تم استهداف الأهالي
المتجمعين لاستقبال الشاحنات القادمة من الطريق البري، بإطلاق النار عليهم.
وفضلا عن قلة تلك المساعدات، وأنها قتلت عددًا من أهل غزة، فإنها أظهرتهم بمظهر بمن
يتقاتلون للحصول على الطعام، ونقلت الصورة المشاجرات والمشاحنات بين الشباب والرجل
لكي يحصلوا على كيس الدقيق، في وسط مجاعة متفاقمة ومتعمدة، يستخدمها الاحتلال
لمعاقبة أهل شمال غزة والذين رفضوا التهجير ليكونوا غطاء للمقاومة، وليفسدوا
مخططاته الرامية إلى تهجير السكان وإفراغ القطاع من سكانه، ليحل محلهم المستوطنين
الصهاينة.
وتتبارى الفضائيات لتنقل الصورة التي يريد الاحتلال نقلها لسكان غزة، وهذا ما قصده
الكيان الصهيوني ليحقق هدفين من إظهار هذه الصورة:
الهدف الأول جعل ما حدث لأهل غزة عبرة لمن يفكر أو يحاول كسر الهيمنة الصهيونية
وتفكيكها مثل ما حدث في السابع من أكتوبر في طوفان الأقصى.
أما الهدف الثاني فهو إظهار الفلسطينيين بمظهر الهمج ويكرس تلك الصفة لدى الغرب،
ليستميله إلى معسكره في حربه ضد غزة، بعد أن كاد يفقد تلك المساندة والتعاطف.
ولكن أهل غزة استطاعوا دحض تلك الحملة وهذا التشويه...كيف؟
تتلخص خطة جيش الاحتلال، ولكي يظهر الاحتلال نفسه بأنه لا يقوم بتجويع أهل غزة بمنع
المساعدات، فقد ادعى أن حماس هي من تقوم بسرقة المساعدات والاستحواذ عليها، وأنه
يهدف بهجومه إزالة سلطة حماس في غزة، ولذلك يجب أن يتم توزيع المساعدات عن طريق
آخرين ولتكن قيادات عشائر غزة، في خطوة خبيثة ترمي إلى تفكيك سلطة حماس على القطاع،
وهو ما عجزت عنه آليته العسكرية فأراد أن يحقق أهدافه بالتجويع.
وقام الصهاينة بالفعل بالاتصالات بقيادات تلك العشائر، وحثها على استلام إدارة
السلطة في القطاع بدلا من الجهاز المدني والذي تديره حماس، ولكن قادة العشائر رفضوا
تجاوز سلطة حماس، وأصدروا بياًنا يرفضون فيه طعن المقاومة في ظهرها.
ولتدارك الأمر وقطع الطريق على الصهاينة، ومحاولة إنقاذ أهل شمال غزة من الجوع الذي
بدأ يفتك بهم، أخرجت حماس شباب العشائر في صدارة استلام المساعدات، ونجحت قيادات
الشرطة المدنية التابعة لحماس في التخطيط لهذا الأمر جيدا، وأصدروا منشورات تم
توزيعها على أهالي الشمال، بضرورة عدم التجمهر في الأماكن التي يتم قصفها، وانتظار
توزيع المساعدات بعدالة على الأهالي بواسطة بطاقات التعريف الشخصية والتي هي أصلا
تم برمجتها على الإنترنت.
وخلال يومين تدفقت الشاحنات بسلاسة على الشمال، واصطف رجال غزة ونساؤها في طوابير
منتظمة، في منظر حضاري، وليدحض الصورة الصهيونية والتي أرادها الاحتلال نقلها عنهم،
وإذا بالفضائيات تتناقل كيف لشعب محتل محاصر وجائع يتقدم لأخذ أبسط حاجياته بهدوء
ونظام.
وهذا بالطبع لم يعجب الاحتلال، والتي ظهرت مدى تهافت روايته وسرديته، فقام بغارات
انتقامية على أهالي شمال غزة بقصف وحشي، كما قام باغتيال القيادات الشرطية وعلى
رأسهم العميد المبحوح قائد الشرطة، والذي رفض الاستسلام لقوات الاحتلال وتقدم ليقتل
ضابطين كبيرين في الجيش الصهيوني قبل أن يلقى ربه شهيدًا.
أهل غزة يسطرون تاريخا جديدا لعزة الإسلام والمسلمين.