(أصول وقواعد منهجية) المبحث الثالث: الأدلة العقلية 1-2
الرئيسية - أصول
وقواعد منهجية
المبحث الثالث
الأدلَّة العقلية
للعقل منزلة كريمة في دين الإسلام، ولهذا
كان الخطاب الإلهي في القرآن يدعو الإنسان إلى التفكر والتأمل في ملكوت الله -
سبحانه وتعالى -، ويستحثه لتقليب النظر في السموات والأرض، والشمس والنجوم، كما
قال الله - تعالى -: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [آل
عمران: 190].
وتتابعت الآيات الكريمات، وبصور مختلفة تنعى
على المشركين جهلهم وضلالهم، وتدعوهم إلى التعقّل والتصبّر.
قال الله - تعالى -: {لَّعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ} [الزخرف:
٣]، وقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}
[الأنبياء: 67]، وقال:
{إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى}
[طه: 54].
وعندما يرى المشركون نهايتهم في نار جنهم،
يتحسرون على جهلهم وقلَّة عقولهم، قال الله - تعالى -:
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا
كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:
10].
وجاءت الدلائل البرهانية، والأقيسة العقلية،
والأمثال المضروبة في القرآن الكريم، لتحيي الإنسان من غفلته، وتوقظه من لهوته،
وتُرسِّخ إيمانه بالله - عزَّ وجلَّ - وقدرته، وباليوم الآخر، ومن ذلك قول الله -
تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا
ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ
يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْـمَطْلُوبُ}
[الحج: 73].
لقد جاء الإسلام ليُحرِّر العقل البشري من
آسار الخرافة وأساطير الجاهلية، وليعتقه من منطق الآباء والأجداد، ثم ينطلق به بعد
ذلك إلى آفاق رحبة واسعة من الإنتاج والعطاء، في الحدود والأطر التي حدَّدها له
الشارع الحكيم.
ويُشير ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلى
أنَّ الأدلَّة العقلية من الأدلَّة التي قررها القرآن العظيم والسُّنَّة النبوية
المطهرة، حيث قال: «والكتاب والسُّنَّة يدلُّ بالإخبار تارة، ويدل بالتنبيه تارة،
والإرشاد والبيان للأدلة العقلية تارة. وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في
الإلهيات من الأدلَّة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسُّنَّة، مع
زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه الله بخطابه، فكان فيما جاء به
الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدلَّة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول
جميع العقلاء من الأولين والآخرين»[1].
ولأن الرافضة نهلوا كثيراً من منهج المعتزلة
والجهمية والفلاسفة فقد اعتنى ابن تيمية - رحمه الله - بالردِّ على هؤلاء، وأبان
منهج أهل السُّنَّة في التعامل مع العقل، والفرق بينه وبين منهج غيرهم، فكان من
ملامح ذلك:
التلازم بين العقل والنقل:
يذكر ابن تيمية وجود التلازم والتوافق بين
الأدلَّة الشرعية النقلية، والأدلَّة العقلية، فيقول: «والقول كلَّما كان أفسد في
الشرع، كان أفسد في العقل، فإنَّ الحق لا يتناقض، والرسل إنَّما أخبرت بحق، والله
فطر عباده على معرفة الحق، والرسل إنَّما بُعثت بتكميل الفطرة لا بتغيير الفطرة،
قال الله - تعالى -: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ
وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْـحَقُّ}
[فصلت: 53]، فأخبر أنَّه سيريهم الآيات الكونية والنفسية
المبيِّنة؛ لأنَّ القرآن الذي أخبر به عباده حق، فتتطابق الدلالة البرهانية القرآنية،
والبرهانية العيانية، ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول»[2].
وقال أيضاً: «كلُّ من كان إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أقرب، كان أقرب إلى كمال التوحيد
والإيمان والعقل والعرفان، وكلّ من كان عنهم أبعد، كان عن ذلك أبعد»[3].
وقال ابن تيمية أيضاً: «فما جاء به الرسول
حقٌّ محضٌّ يتصادق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول، والأقوال المخالفة لذلك - وإن
كان كثير من أصحابها مجتهدين مغفوراً لهم خطؤهم - فلا يملكون نصرها بالأدلَّة
العلمية، ولا الجواب عمَّا يقدح فيها بالأجوبة العلمية، فإنَّ الأدلَّة العقليّة
الصحيحة لا تدلُّ إلا على القول الحقِّ، والأجوبة الصحيحة المفسدة لحجَّة الخصم لا
تفسدها إلا إذا كانت باطلة، فإنَّ ما هو باطل لا يقوم عليه دليل صحيح، وما هو حق
لا يمكن دفعه بحجَّة صحيحة»[4].
وفي معرض حديثه عن الفلاسفة قال: «الفلسفة
الصحيحة المبنية على المعقولات المحضة توجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به،
وتبيِّن أنَّهم علموا ذلك بطريق يعجزون عنها، وأنَّهم أعلم بالأمور الإلهية
والمعاد وما يُسعد النفوس ويُشقيها منهم، وتدلُّهم على أنَّ من اتبع الرسل كان
سعيداً في الآخرة، وأنَّه لو علم الرجل من الطبيعيات والرياضيات ما عسى أن يعلم،
وخرج عن دين الرسل كان شقيَّاً، وأنَّ من أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
بحسب طاقته كان سعيداً في الآخرة وإن لم يعلم شيئاً من ذلك»[5].
وقال أيضاً: «فإنَّ الشرع قد جاء بعقوبة غير
المكلَّفين في دفع الفساد في غير موضوع، والعقل يقتضي ذلك لحصول مصلحة الناس»[6].
وقال في موضع آخر: «والنَّاس لهم في طلب
العلم والدين طريقان مبتدعان وطريق شرعي:
فالطريق الشرعي هو: النظر فيما جاء به
الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستدلال بأدلته، والعمل بموجبها، فلا بدَّ من علم
بما جاء به وعمل به، لا يكفي أحدهما، وهذا الطريق متضمِّن للأدلة العقلية
والبراهين اليقينية؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن بالبراهين العقلية ما
يتوقف السمع عليه، والرسل بيَّنوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها، كما ضرب
الله في القرآن الكريم من كلِّ مثل، وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده
أن يسألوه هدايته.
وأمَّا الطريقان المبتدعان:
فأحدهما:
طريق أهل الكلام البدعي والرأي البدعي، فإنَّ هذا فيه باطل كثير، وكثير من أهله
يُفرِّطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال، فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد
عمل، وهؤلاء منحرفون إلى اليهودية الباطلة.
والثاني:
طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعيَّة، وهؤلاء منحرفون إلى النصرانية
الباطلة؛ فإنَّ هؤلاء يقولون: إذا صفَّي الإنسان نفسه على الوجه الذي يذكرونه،
فاضت عليه العلوم بلا تعلُّم، وكثير من هؤلاء تكون عبادته مبتدعة؛ بل مخالفة لما
جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيبقون في فساد من جهة العمل، وفساد من نقص
العلم، حيث لم يعرفوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يقع من
هؤلاء وهؤلاء، وتقدح كل طائفة في الأخرى، وينتحل كل منهم اتباع الرسول صلى الله
عليه وسلم.
والرسول صلى الله عليه وسلم ليس ما جاء به
موافقاً لما قال هؤلاء وهؤلاء قال - تعالى -: {مَا
كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا
مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ}
[آل عمران: 67]، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلمولا
أصحابه على طريقة أهل البدع من أهل الكلام والرأي، ولا على طريقة أهل البدع من أهل
العبادة والتصوف،بل كان على ما بعثه الله من الكتاب والحكمة»[7].
درء تعارض العقل والنقل[8]:
بعد ذلك التقرير في التلازم بين العقل
والنقل، يردُّ ابن تيمية على المعتزلة - ومن نحى نحوهم - الذين أحدثوا ذلك
الانفصال المفتعل بين العقل والنقل، وبيَّن أنَّ النقل الصريح لا يُعارض العقل
الصريح أبداً، حيث قال: «وكثير من الناس يفهمون من القرآن ما لا يدلُّ عليه، وهو
معنى فاسد، ويجعلون ذلك يعارض العقل، وقد بيَّنا في مصنَّف مفرد (درء تعارض العقل
والنقل)، وذكرنا فيه عامة ما يذكرون من العقليات في معارضة الكتاب والسُّنَّة،
وبيَّنا أنَّ التعارض لا يقع إلا إذا كان ما سُمِّي معقولاً فاسداً، وهذا هو
الغالب على كلام أهل البدع، أو أن يكون ما أضيف إلى الشرع ليس منه: إمَّا حديث
موضوع، وإمَّا فهمٌ فاسد من نصٍّ لا يدلُّ عليه، وإمَّا نقل إجماع باطل»[9].
وقال أيضاً: «ما جاء به الرسول حقٌ محضٌّ
يتصادق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول، والأقوال المخالفة لذلك، وإن كان كثير من
أصحابها مجتهدين مغفوراً لهم خطؤهم فلا يملكون نصرها بالأدلَّة العلمية، ولا
الجواب عمَّا يقدح فيها بالأجوبة العلمية؛ فإنَّ الأدلَّة العقلية الصحيحة لا تدلّ
على القول الحق، والأجوبة المفسدة لحجَّة الخصم لا تفسدها إلا إذا كانت باطلة،
فإنَّ ما هو باطل لا يقوم عليه دليل صحيح، وما هو حق لا يمكن دفعه بحجة صحيحة»[10].
وقال أيضاً: «المعقولات الصريحة موافقة لما
أخبرت به الرسل لا تُناقض ذلك، ونبَّهنا في مواضع على ما يستوجب الاستغناء عن
الطرق الباطلة المبتدعة، وما به يُعلم ما يوافق خبر الرسول، وبيَّنا أنَّ الطرق
الصحيحة في المعقول هي مطابقة لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم..»[11].
وقال أيضاً: «.. وجميع ما يوجد في كلام
هؤلاء [يعني: الفلاسفة] وغيرهم من العقليات الصحيحة ليس فيه ما يدلُّ على خلاف ما
أخبرت به الرسل، وليس لهم أصلاً دليلٌ ظنيٌّ - فضلاً عن القطعي - على قِدَم
الأفلاك، بل ولا على قدم شيء منها، وإنَّما عامَّة أدلتهم أمور مجملة تدلُّ على
الأنواع العامة، لا تدلُّ على قدم شيء بعينه من العالم، فما أخبرت به الرسل أنَّ
الله خلقه، كإخبارها أنَّ الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، لا
يقدر أحدٌ من النَّاس أن يُقيم دليلاً عقليَّاً صحيحاً على نفي ذلك»[12].
إنَّ تقرير هذه القاعدة في غاية الأهمية،
خاصة في هذا العصر الذي افتتن فيه كثير من الناس بعقولهم، فأغاروا على النصوص
الشرعية الثابتة بحجة معارضتها لما يظنون أنه من القطعيات العقلية، وراحوا يلبسون
على الجهلة وأنصاف المتعلمين، ويثيرون عليهم الشبهات ويضلونهم عن جادة الصراط
المستقيم؛ ولهذا أحسب أنَّ من أعظم الجهاد الواجب على العلماء والدعاة في هذا
العصر: الانتصار للشريعة، وبيان موافقتها للدلائل العقلية الصريحة والاكتشافات
العلمية المعاصرة، وردّ الشبهات التي قد يستغلها بعض الملاحدة وأهل الأهواء للقدح
في نصوص الكتاب والسنة، وإضعاف الثقة بها.
المبحث الثالث: الأدلة
العقلية 1-2
المبحث الثالث: الأدلة
العقلية 2-2
[1] (2/110).
[2] (1/300 - 301).
[3] (3/193) ونحوه
(2/341).
[4] (3/363).
[5] (1/365).
[6] (6/48).
[7] (5/428 - 429)، ومن
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب أيضاً: «وكثيرٌ من أهل الكلام يظن أنَّ
الأدلَّة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأنَّ الكتاب والسُّنَّة لا يدلان إلا
من هذا الوجه، ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليات والسمعيات، ويجعلون القسم
الأول مـمَّا لا يُعلم بالكتاب والسُّنَّة، وهذا غلط منهم، بل القرآن دلَّ على
الأدلَّة العقلية وبينها ونبَّه عليها، وإن كان من الأدلَّة العقلية ما يعلم
بالعيان ولوازمه...». (درء تعارض العقل والنقل، 1/199).
[8] تعد هذه المسألة
الكبار التي كثر فيها الخلط والاضطراب، ولهذا اعتنى شيخ الإسلام ابن تيمية ببيانها
وتوضيحها في كثير من كتبه، حتى إنه أفرد لها مصنفاً كبيراً طبع في أحد عشر مجلداً بتحقيق
الدكتور محمد رشاد سالم - رحمه الله تعالى -. وقد وصفه تلميذه ابن القيم في طريق
الهجرتين (1/247) بأنه: «لم يطرق العالم له نظير في بابه». ومن أقوال ابن تيمية
الجامعة في هذا الكتاب: «.. أنزل الله الكتاب حاكماً بين الناس فيما اختلفوا فيه،
إذ لا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف على الإطلاق إلا بكتاب
منزَّل من السماء، ولا ريب أن بعض الناس قد يعلم بعقله ما لا يعلمه غيره، وإن لم
يمكنه بيان ذلك لغيره، ولكن ما عُلم بصريح العقل لا يُتصوِّر أن يعارضه الشرع
البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط.
وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدت ما خالف النصوص
الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يُعلم بالعقل بطلانها، بل يُعلم بالعقل ثبوت نقيضها
الموافق للشرع. وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد والصفات،
ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك، ووجدتُ ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه
سمع قط، بل السمع الذي يُقال إنه يخالفه: إما حديث موضوع، وإما دلالة ضعيفة، فلا
يصلح أن يكون دليلاً لو تجرَّد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح
المعقول!.
ونحن نعلم أن الرسل لا يُخبرون بمحالات العقول بل بمحارات العقول،
فلا يُخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته» (درء
تعارض العقل والنقل، 1/147).
[9] (5/441 - 442).
[10] (3/363).
[11] (1/322 - 323).
[12] (1/358 - 359).