التهجير القسري والتطهير العرقي
الحمد لله الحكيم العليم، الرءوف
الرحيم؛ بحكمته وعلمه ابتلى عباده المؤمنين، وبرأفته ورحمته أعانهم على البلاء
المبين، وكتب لهم الأجر العظيم {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي
سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ
عِنْدِ الله وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}
[آل
عمران:195]، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا
مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظم حلمه على عباده فأمهلهم،
واستدرج المجرمين وأملى لهم، حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا
يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}
[القلم:44-45] وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله؛ أخيف في الله تعالى وما يُخاف أحد، وأوذي في ذاته سبحانه وما يؤذى
أحد، وأخرج من أرضه، وطورد هو ومن معه، وألقى نظرة على مكة وهو يفارقها مكرها
فقال:«ما أَطْيَبَكِ من بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إلي وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي
أَخْرَجُونِي مِنْكِ ما سَكَنْتُ غَيْرَكِ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه،
واذكروه على ما هداكم، واشكروه على ما أعطاكم، وسلوه العافية من البلاء، والثبات
على الحق إلى الممات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، وإن أحداث الزمن وتقلباته،
وابتلاءات الضراء والشدة؛ تزيغ منها الأبصار، وتضطرب الأحلام، ويقهر الرجال،
وتنقلب القلوب {يُثَبِّتُ
اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ}
[إبراهيم:27].
أيها الناس: الفتنة في الدين هي أشد أنواع الفتن، والابتلاء عليه هو
أقسى البلاء؛ لأن الدين هو أغلى ما يملك الإنسان، ولو فتن في غيره وابتلي لأمكنه
التنازل عنه؛ درءا للفتنة، وتخففا من البلاء؛ ولذا قال الله تعالى {وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ} [البقرة:191] وفي آية أخرى {وَالفِتْنَةُ
أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ} [البقرة:217] أي: الفتنة في الدين أعظم ضررا من
القتال في الشهر الحرام والبلد الحرام؛ ولذا عقب سبحانه على ذلك ببيان حال الذين يَفتنون
الناس عن دينهم بقوله عز وجل {وَلَا يَزَالُونَ
يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
ومن أشد أنواع الفتنة
في الدين والابتلاء عليه ما يسمى في الفكر السياسي المعاصر: التهجير القسري، أو
التطهير العرقي، وهو تهجير قوم وإبادتهم لإحلال غيرهم محلهم، وفي هذا النوع من
الاعتداء على البشر، لا يفرق المعتدي في القتل بين عاجز وقادر، ولا بين مقاتل
ومسالم، ولا بين رجل وامرأة وطفل؛ لأن المقصود إنهاء وجود هذا العنصر البشري من
البلد المستهدف، وتطهير البقعة منه؛ ولذا لا يحرم فيه استخدام أي نوع من الأسلحة
مهما كان فتاكا، ولا قيود على القتل والسحق والإبادة، وهذه القسوة تجعل من سلموا
من الإبادة والتطهير يفرون زرافات ووحدانا لا يلوون على شيء، مطلبهم النجاة
بأنفسهم، والانعتاق من محرقة الإبادة والتطهير إلى أي وجهة مهما كانت سيئة، بل
وإلى غير وجهة.
وأعظم شيء على النفس مفارقة الدار المسكونة، والهجرة
من البلدة المألوفة، وترك الأموال المكتسبة، والزهد في الضياع المثمرة، والتخفف من
الأمتعة الثمينة.. يترك المهجَّر من بلده كد عشرات السنين في لحظة واحدة، فيصبح
غنيا ويمسي معدما.. ولا عجب أن يكون التهجير القسري إعداما للنفس، وموازيا للقتل؛
لأنه قتل في المعنى وإن عاش الجسد، وتأملوا ذلك في القرآن تجدوه حين قرن الله
تعالى بين القتل والإخراج من الديار بصيغة العطف {وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ
دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66]. ولولا
شدة ذلك على البشر لما أخبر الله تعالى أنه لو كتبه على جماعة منهم لما انصاع منهم
إلا القليل، ولكن الله تعالى أرأف بالعباد من أنفسهم، وأرحم بهم من بشر مثلهم.
وكثرة الناس لا تغني عنهم شيئا إذا أصيبوا
بأدواء التفرق والخذلان والذلة، وقصدهم عدو أقوى منهم بالإبادة والتهجير، وفي
القرآن ذكر خبر قوم من بني إسرائيل فروا من الموت لا يلوون على شيء لم تنفعهم
كثرتهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ} [البقرة:243].
وأمة الإسلام هي أكثر
أمة في التاريخ البشري كله عانت من الإبادة والتهجير، وهي أعف الأمم عن ممارسة
الإبادة والتهجير على غيرها؛ لأن شريعتها سنت قانون الجزية وعقد الذمة، وهو نظام
تنزل به القرآن الكريم، وشرحته السنة النبوية، وطبقه المسلمون لما كانت الغلبة
لهم؛ فأمن غيرهم بقوتهم، وعاشوا في كنف عزتهم، وهو عقد رباني يقتضي عصمة الدماء
والأموال والأملاك لمن خالفوا المسلمين في دينهم.
أما كون غير المسلمين أمنوا في حكم الإسلام، ولم
يجدوا إبادة ولا تهجيرا؛ فحوادثه كثيرة: منها أن اليهود أمنوا من بطش النصارى لما
فتح المسلمون الشام ومصر، بدليل أن الكاثوليك لما انتزعوا بيت المقدس في الحملات
الصليبية أحرقوا اليهود وهم أحياء، ففر البقية منهم للأندلس فوجدوا الحماية فيها،
فلما استولى الكاثوليك على الأندلس طاردوا اليهود وعذبوهم فهربوا للدولة العثمانية
التي أوتهم وحمتهم.
وكذلك حمى المسلمون نصارى الشرق الموارنة
والأرثوذكس من بطش الكاثوليك في بلاد الشام؛ حتى كانوا يحبون انتصار المسلمين على
بني ملتهم.
وفي فتح صلاح الدين لبيت المقدس كان قادرا على
إبادة أبناء الصليبيين وأحفادهم الذين أبادوا المسلمين فيها قبل الفتح بتسعين سنة
لكنه لم يفعل ذلك وأمنهم وعفا عنهم.
ولما فتح محمد بن مراد القسطنطينية أمن أهلها
الأرثوذكس وعفا عنهم رغم قتالهم للمسلمين في حين أن إخوانهم الكاثوليك قد أبادوهم
وأهانوهم في الحملة الصليبية الرابعة.
وأما ما عاناه المسلمون من الإبادة والتهجير
بأيدي أعدائهم فكثير وكثير جدا، تمتلئ به جنبات التاريخ، وتشهد عليه البلدان
المغتصبة قديما وحديثا؛ ابتداء باحتلال بيت المقدس في القرن الخامس؛ إذ أباد الصليبيون
المسلمين، وهجروا البقية منهم؛ ليستوطنوا بلاد الشام ومصر، وعانى المسلمون منهم زهاء
مئتي سنة.
وجاء التتر بجحافلهم فأبادوا أهل بغداد وما
حولها، وانتزع الصليبيون الأندلس من المسلمين فأبادوهم وهجروهم، واقتلعوا حضارة
تفيأ الناس ظلالها، وأمنوا في حكوماتها المتعاقبة ثمانية قرون على اختلاف مللهم
ونحلهم.
ولما استولى الصفويون الباطنيون على خراسان وما
حولها أبادوا أهل السنة فيها وقتلوا مليون نفس، وهجروا البقية أو شيعوهم، ثم كرر
أحفادهم ذلك بأهل عربستان والأحواز، والآن يفعلونه بأهل السنة في العراق وجنوب
لبنان.
وتسلط البوذيون على المسلمين في تركستان الشرقية
فأبادوا منهم خلقا جاوزا المليون، وهجروا الملايين حتى انخفضت نسبة المسلمين فيها
من تسعين في المئة إلى ستين في المئة. وفعل الهندوس في الهند بالمسلمين فعل
أقرانهم البوذيين.
ولما قامت الشيوعية زاد تسلط البوذيين على
المسلمين في تركستان وسائر أرجاء الصين ومانيمار، ومجازر البورميين وتهجيرهم لا
يزال مستمرا إلى الآن.
وفي بلاد الشيوعية الأم هجر ستالين مئات الألوف
من شعوب القوقاز المسلمة إلى سيبريا ليهلكهم بالجوع والبرد، بعد أن أباد عشرين
مليون مسلم.
وفي فلسطين سلطت العصابات الصهيونية قبل نحو
ستين سنة لتبيد المسلمين، وتهجر البقية منهم، وتحتل بيوتهم ومتاجرهم، وتشكل دولة
نشازا في شرق أوسطي مسلم.
وقبل عقدين، وفي البلقان سُلط الصرب والكروات
على مسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفا ليبيدوهم، فقتلوا عشرات الآلاف من المسلمين في
قلب الحضارة الغربية، وتحت سمعها وبصرها.
فهل تجدون أمة لحقها التهجير والإبادة في
تاريخها الطويل كما لحق أمة الإسلام.. كلا والله، ولا نصفه ولا خمسه ولا عشره، ودونكم
كتب التاريخ فليقرأها من ظن غير ذلك، ومع ما لحق أمة الإسلام من الإبادة والتهجير
على أيدي أعدائها فإنه ما زادها إلا تمددا وانتشارا في أرجاء الأرض، والله تعالى
متم نوره، وناصر جنده، ومعل كلمته {وَيُرِيدُ اللهُ
أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ
الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ} [الأنفال:7-8].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة
الثانية
الحمد لله حمداً طيباً
كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن
اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الأنفال:29].
أيها المسلمون: للغرب ودوله الكبرى تجاه
دول الإسلام وشعوبه سياسة لا تنفك عن خلق التوترات، وافتعال الأزمات، ومحاولة
تفتيت البلدان، وتقسيم المقسم منها، وخلق بؤر شاذة في المحيط الإسلامي، والفصل بين
الكتل البشرية السكانية المسلمة بأقليات غير مسلمة أو غير سنية؛ وذلك لإيجاد ذرائع
التدخل بحجة حماية الأقليات، واستخدامها لطعن المسلمين وتفرقتهم.. وقد فعلوا ذلك
في عدد من الدول المسلمة..
وما يحصل في بلاد الشام من إبادة وتهجير يتركز
في المدن والقرى المتاخمة للوجود النصيري؛ بقصد تطهيرها من أهل السنة بإبادتهم
وتهجيرهم يشبه إلى حد كبير ما فعله الغرب بمسلمي البلقان حين ترك الصرب والكروات
يفترسونهم، ومنعوا عنهم السلاح كما يمنعونه الآن عن أهل السنة في الشام، وكانت
وريثة الدولة الشيوعية آنذاك تمد الصرب بالسلاح والعتاد، وهي الآن تمد النصيريين
به، وكان العالم الحر يتفرج على المذابح في البلقان، ويخدر المسلمين بالمبادرات
تلو المبادرات، وهو يفعل ذات الفعل في سوريا الآن، حتى المناطق الآمنة في البوسنة
آنذاك، والتي جردت من السلاح، ووضعت تحت الحماية الدولية سُمح للصرب أن يدخلوها
ويبيدوا المسلمين فيها.. فلما رأى المسلمون أنهم يبادون بمباركة دولية، ويخدرون
بوعود وهمية، ما كان فعلهم إلا الدفاع عن أنفسهم، فلما لاح في الأفق نصرهم تدخل
العالم الحر باتفاقية دايتون، التي منحت صرب البوسنة وكروتها شبه استقلال كامل،
وكانت الإبادات التي سبقت ذلك لإفراغ مناطقهم من المسلمين بالإبادة والتهجير لتصفو
لعباد الصليب.. وهو عين ما يقع في بلاد الشام؛ إذ أطلقت يد النصيريين يدكون القرى
والمدن بالطائرات والدبابات، ويبيدون الأسر والعشائر السنية، ويرتكبون أفظع
المجازر في المناطق المجاورة للنصيرية لتهيئتها للاستقلال النصيري إذا سقطت حكومته
المترنحة..
والتاريخ يعيد نفسه مرة أخرى بعد سبعة عشر عاما،
ولكن هذه المرة في بلاد الشام بدل البلقان، وهذا هو سر السعار النصيري، والسكوت
العالمي عن التطهير العرقي، والتهجير الجماعي في سوريا، فإنا لله وإنا إليه
راجعون، وأحسن الله تعالى عزاء المسلمين في إخوانهم الذين قضوا في رمضان والعيد
وإلى الآن، ونسأل الله تعالى أن يمدهم بجنده، وينزل عليهم نصره، ويخذل أعداءهم،
ويمكنهم من رقاب النصيرية وأعوانهم، ويفضح التآمر الدولي عليهم..
اللهم يا ناصر المستضعفين انصر إخواننا في
سوريا.. اللهم انصرهم نصرا عزيزا، وافتح لهم فتحا مبينا، وكن لهم ظهيرا ومعينا..يا
حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام...