من هدايات السنة النبوية (حديث صلاة داود وصيامه)
الحمد لله العليم القدير؛ خلق الزمان، وسير العباد، وضرب
الآجال، وكتب الأقوال والأعمال، وكل شيء عنده بمقدار {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] نحمده على نعمه
وآلائه، ونشكره على فضله وعطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فتح
أبواب الخير لعباده، ودلهم عليها، وحثهم على التزود منها، وتقرب إليهم بها؛ فمن
تقرب إليه شبرا تقرب الله تعالى إليه ذراعا، ومن تقرب إليه ذراعا تقرب الله تعالى
إليه باعا، ومن أتاه يمشي أتاه الله تعالى هرولة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛
أنصح الناس للناس وأتقاهم لله تعالى، فدلهم على ما ينجيهم، وحذرهم مما يوبقهم، صلى
الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله
تعالى وأطيعوه، واستديموا الأعمال الصالحة بعد رمضان؛ فإن الله تعالى يعبد في كل
زمان، ومطلع عليكم في كل الأحوال..فلا تتركوا الصيام والقيام، ولا تهجروا القرآن،
وخذوا من ذلك ما تطيقون، وأديموا على ما تستطيعون، ولا تملوا من العمل فإن الله
تعالى لا يمل حتى تملوا {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا
الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77].
أيها الناس: في
سير الأنبياء عليهم السلام مواطن للاعتبار، ومواضع للفقه والاقتداء؛ فهم سادة
البشر، وهداية الله تعالى لهم، ورسله إليهم، ومبلغو دينه، وناشرو شريعته، والداعون
بدعوته؛ ولذا فإن الاقتداء بهم هو اقتداء بالمصطفين من عباد الله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}
[الأنعام:90].
ونبي الله تعالى داود عليه السلام كان ملكا نبيا،
وهو قدوة لكل صاحب ملك وشرف وعلو منزلة في عبادته؛ فرغم ما آتاه الله تعالى من الملك
الذي تزهو به النفس، وبه تنال كل المتع واللذات فإن داود عليه السلام لم يغره ملك
الدنيا عن حقيقة الآخرة، ولم يصرفه الجاه والغنى عن العبادة..
وقد ذكر الله تعالى
كيف نال داود الملك في قصة المعركة الكبرى بين جنود طالوت وجالوت {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ
وَآَتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251]
وهذا يدل على أن الجاه مع العلم والتقوى يقود إلى التواضع والخشية، وبصاحبه تنتفع
الرعية وتعتز الأمة، وأن الجاه مع الجهل يجني على صاحبه ورعيته وأمته.
ومع ملك داود وعزه،
واتساع مملكته، وقوة سلطانه، وعز مقامه كان شاكرا لله تعالى على ما أعطاه، ويحمد
قائلا {الحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى
كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ} [النمل:15].
وكان عليه السلام من
العابدين الأوابين حتى إن الله تعالى أرشد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم حين اشتد
أذى المشركين عليه إلى تذكر سيرة داود عليه السلام، ورجوعه إلى الله تعالى مع أنه
عليه السلام كان ملكا متمكنا في سلطانه {اصْبِرْ
عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}
[ص:17]، أي: رجَّاع إلى الله تعالى في
جميع أموره بالإنابة إليه، بالحب والتأله، بالخوف والرجاء، بكثرة التضرع والدعاء.
ولم يستغن بسلطانه وقوته عن الرجوع إلى الله تعالى، والخضوع له.
وكانت عبادة داود
عليه السلام في قيامه وصيامه من أعجب العبادات التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم
أنها الأفضل على الإطلاق، ولولا تأله داود وفضله عند الله تعالى لما هدي لأفضل
الصيام والقيام، والتزم ذلك طيلة عمره وهو الملك الذي لا يخاف شيئا من الخلق ولا
يرجوهم، ولم تصرفه لذة الملك وشهواته عن التأله والعبادة.
روى عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ
صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ
دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ،
وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا»رواه الشيخان.
وسبب ذكر النبي صلى
الله عليه وسلم لقيام داود وصيامه أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان عابدا متألها،
مقبلا على الله تعالى، عازفا عن الدنيا،
منصرفا إلى الآخرة، فعزم على أن
يقوم الليل كله حياته كلها، وعلى أن يصوم كل يوم إلى أن يموت، فأرشده النبي صلى
الله عليه وسلم إلى قيام داود وصيامه يقول عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه: أُخْبِرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنِّي أَقُولُ: وَاللَّهِ
لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فَقُلْتُ لَهُ:
قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَالَ: «فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ،
فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ،
فَإِنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» ،
قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ
يَوْمَيْنِ» ، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ
يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ،
وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ» ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ «لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ»
رواه الشيخان.
فبين النبي صلى الله
عليه وسلم أنه لن يطيق الاستمرار على ما عزم عليه من قيام الليل وصيام النهار إلى
الأبد، وأنه سيضعف عن ذلك مع تقدم سنه، وفي رواية أخرى أخبره أن ما عزم عليه من
صيام النهار وقيام الليل إلى الأبد سيؤدي إلى تضييع الحقوق التي عليه لغيره؛ ولذا
قال في رواية أخرى: «فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِعَيْنِكَ
عَلَيْكَ حَظًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَظًّا» ، قَالَ: إِنِّي
لَأَقْوَى لِذَلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ» قَالَ:
وَكَيْفَ؟ قَالَ: «كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا
لاَقَى»
وقوله «وَلاَ يَفِرُّ
إِذَا لاَقَى» مشعر بأن الديمومة على الصيام تضعف عن القيام بالجهاد والأعمال
الشاقة، وقد تكون هذه الأعمال مقدمة على صيام النفل كفرائض الجهاد والاحتساب
والتعليم والإغاثة، وهي متعدية النفع بينما كان الصيام عبادة محضة لا يتعدى نفعها
غير صاحبها، وكلما كانت العبادة متعدية النفع كانت أفضل من غيرها.
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم عن
تأله عبد الله وتنسكه، وإدامته الصيام والقيام من أبيه عمرو بن العاص، الذي علم
بذلك من زوجة عبد الله في زيارة لبيته، قال
عبد اللَّه:«أَنْكَحَنِي
أبي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ فَيَسْأَلُهَا عن
بَعْلِهَا فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ من رَجُلٍ لم يَطَأْ لنا فِرَاشًا ولم
يُفَتِّشْ لنا كَنَفًا مذ أَتَيْنَاهُ، فلما طَالَ ذلك عليه ذَكَرَ
لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: الْقَنِي بِهِ، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فقال:
كَيْفَ تَصُومُ؟ قلت: كُلَّ يَوْمٍ، قال: وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟ قلت: كُلَّ لَيْلَةٍ،
قال: صُمْ في كل شَهْرٍ ثَلَاثَةً واقرأ الْقُرْآنَ في كل شَهْرٍ، قال: قلت:
أُطِيقُ أَكْثَرَ من ذلك، قال: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في الْجُمُعَةِ، قلت:
أُطِيقُ أَكْثَرَ من ذلك، قال: أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا، قال: قلت:
أُطِيقُ أَكْثَرَ من ذلك، قال: صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ
وَإِفْطَارَ يَوْمٍ وَاقْرَأْ في كل سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً، فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ
رُخْصَةَ رسول الله صلى الله عليه
وسلم وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ،
فَكَانَ يَقْرَأُ على بَعْضِ أَهْلِهِ السُّبْعَ من الْقُرْآنِ بِالنَّهَارِ
وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ من النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عليه
بِاللَّيْلِ وإذا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَرَ أَيَّامًا وَأَحْصَى وَصَامَ
أياما مِثْلَهُنَّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتْرُكَ شيئا فَارَقَ النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
فبان بهذا الحديث أن
أحب الصلاة إلى الله تعالى بعد الفرائض قيام الليل، وأفضل صفة لقيام الليل هي صلاة
داود عليه السلام، وصورتها أنه كان ينام النصف الأول من الليل، ثم يقوم فيصلي
النصف الثاني حتى إذا لم يبق إلا سدس الليل نام فاستعاد نشاطه لصلاة الفجر وأعمال
النهار، فكان قيامه عليه السلام بين نومين.
وأما صيام داود فقد
وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أفضل الصيام وأعدل الصيام، بل لا أفضل منه في
التطوع؛ لأنه أحرى بدوام العبادة فلا يقطع صاحبه الصيام حتى يشق عليه، وأحب
الأعمال إلى الله تعالى أدومها، ولا يكون سببا في تضييع الحقوق الأخرى فإنه يؤديها
في يوم فطره. وظاهر الإرشاد النبوي أفضلية صيام يوم وإفطار يوم أفضلية مطلقة في
باب صوم التطوع، وأن الزيادة على هذا الصوم مفضولة وليست فاضلة؛ وذلك كمن يصوم
يومين ويفطر يوما، وأشد منه من يصوم كل يوم، وهذا منهي عنه.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن
يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله..
الخطبة
الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً
مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم
إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله
تعالى وأطيعوه، وأتبعوا رمضان بصيام ستة أيام من شوال؛ فمن صامها مع رمضان كان كمن
صام الدهر كله كما جاء في الحديث.
أيها المسلمون:
يدل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام داود عليه السلام وقيامه على أن أعمال
الأنبياء عليهم السلام تتفاضل، وأن بعضهم يدرك فضل عبادة لا يدركها غيره كما هدي
داود لأفضل الصيام والقيام، كما يدل على أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتتبع
شرائع النبيين فيختار الأحسن والأكمل والأفضل منها ليدل أمته عليه؛ محبة لهم،
ورأفة بهم، وشفقة عليهم، فلا أحد من البشر أنصح منه لنا، بآبائنا هو وأمهاتنا {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
[التوبة:128].
ومن نصحه صلى الله عليه وسلم أنه لما رأى في عبد
الله بن عمرو رضي الله عنهما تشديدا على نفسه في العبادة، وأخذها بالحزم والعزم
دله على الأفضل، ورخص له في الأقل؛ لئلا يمل من الشدة، ولكيلا يضيع الحقوق التي
تلزمه.
وكانت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم خيرا لعبد
الله من اختياره لنفسه؛ فإنه لما كبرت سنه، وضعفت قوته؛ تمنى أنه أخذ بالرخصة وقال
رضي الله عنه: فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَىَّ، وقال: يَا لَيْتَنِى قَبِلْتُ رُخْصَةَ رسول الله)
كما دلت إدامة عبد الله على
صيام يوم وإفطار يوم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع مشقة ذلك عليه ما كان
عليه الصحابة من صفاء القلوب، وإخلاص الأعمال، والتمسك بالعزائم، وعدم التبديل
والتغيير بعد النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه يعمل في نافلة له أن يتخفف منها،
لكنه كره تغيير ما فارقه النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فياليت من يبدلون شريعة
الله تعالى، وينتهكون أحكامها باسم التيسير يفقهون هذا الدرس من الصحابة رضي الله
عنهم.
وبعد أيها الإخوة: فإن أبواب
الخير كثيرة، ومجالات العبادة متنوعة، والمرء ما خلق إلا ليعبد الله تعالى؛ فحري
بمن فقه ذلك وعرفه أن يمسك بأبواب من الخير فتحت له فيلزمها ولا يفرط فيها؛ ليلقى
الله تعالى بأعمال صالحة قد داوم عليها. {وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر:99].
وصلوا وسلموا...