• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التنافس الروسي – الغربي على إفريقيا: أهدافه ووسائله وامتداداته

هل التوجه الروسي لمزاحمة النفوذ الغربي في إفريقيا مرتهنًا بحملتها العسكرية على أوكرانيا، ومتأثرا بالعزلة التي يحاول الغرب أن يفرضها على روسيا وقادتها هل تستثمر روسيا ذلك كله من أجل البقاء طويلاً في إفريقيا أم أنه استثمار مؤقت؟


على مدار التاريخ البعيد كانت إفريقيا ساحةً للصراع بين القوى الغربية الكبرى الساعية للحصول على موارد اقتصادية بثمن بخس، إضافة إلى أصوات تكاد تكون بلا مقابل في المؤسسات الدولية التي تعتمد آلية التصويت على قراراتها، إضافة إلى ايجاد منفذ مهم لصادراتها من الأسلحة، لا سيما تلك التي تقادمت ولم تعد متواكبة مع التطور التقني والعسكري.

لم تكن روسيا واحدة من تلك الدول التي دخلت صراعًا سياسيًا كبيرًا على تقاسم النفوذ في إفريقيا، إلا في مراحل متفاوتة كان الصراع فيها محتدمًا بصورته الايدلوجية بين المعسكر الغربي برأسماليته وأفكاره، وبين الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي باشتراكيته ومفاهيمه السياسية المصاحبة لها.

 

وجدت روسيا في السنوات الأخيرة، خاصة بعد غزوها لأوكرانيا، في 24 فبراير 2022، أن ثمت عزلة سياسية يريد الغرب أن يحيطها بها إحاطة السوار بالمعصم، فلجأت إلى القارة مجددًا، ساعية إلى تحقيق أهداف متعددة

وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي توقفت برهة من الزمن تلكم المنافسة، وعادت الكرة مرة أخرى إلى الملعب الغربي للتنافس وحيدًا على مقدرات القارة الاقتصادية، وتوجهاتها السياسية، بصورة تعكس استعمارًا جديدًا ناعمًا باستطاعته أن يفعل ما يريد بدول القارة، التي ربما استحسن بعض قادتها هذه الصورة من الحمائية مقابل البقاء في سدة الحكم إلى الوفاة أو الانقلاب العسكري أيهما أقرب.

طلت الصين برأسها كقوة اقتصادية كبيرة باستطاعتها أن تنافس الوجود الغربي على موارد القارة من المواد الخام، واستطاعت أن تجد لنفسها موطئ قدم في القارة بفضل قوتها الاقتصادية، وقدرتها على اغراق القارة بالديون، غير ذات المشروطية السياسية؛ وهو ما زاد من نفوذها وتمددها في القارة، ولكنها ظلت إلى حد بعيد بعيدة عن التنافس السياسي المباشر، والدخول في صراع نفوذ مفتوح مع الدول الغربية.

وجدت روسيا في السنوات الأخيرة، خاصة بعد غزوها لأوكرانيا، في 24 فبراير 2022، أن ثمت عزلة سياسية يريد الغرب أن يحيطها بها إحاطة السوار بالمعصم، فلجأت إلى القارة مجددًا، ساعية إلى تحقيق أهداف متعددة:

 أولها كسر العزلة السياسية التي حاول الغرب فرضها، ووجدت روسيا مبتغاها في دول القارة الإفريقية، وهو ما عبر عنه صراحة وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في حدث استضافته وزارته بعد عودته من جولة في إفريقيا بقوله: "إن جهود الغرب لعزل روسيا فشلت تمامًا، وإن موسكو تبني علاقات أقوى مع دول في إفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة آسيا والمحيط الهادي، إلى جانب بلدان أخرى،...، اليوم يمكننا أن نؤكد أن خطط الغرب لعزل روسيا من خلال فرض حصار علينا أخفقت تمامًا".(العربية-11-2-2023)

ثانيها كسب أصوات دول القارة في المحافل الدولية، خاصة عند التصويت على قرارات ذات شأن بحملتها العسكرية طويلة الأمد على أوكرانيا، وقد بد جليًا هذا التأثير عندما صوتت الأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث صوتت إريتريا ضد القرار الذي يدعو موسكو إلى سحب جميع قواتها العسكرية بشكل فوري وكامل وغير مشروط من أراضي أوكرانيا داخل حدودها المعترف بها دوليًا، وصوتت 17 دولة أخرى برفض إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وهناك سبع دول إفريقية أخرى رفضت التصويت على الإطلاق.

 ثالثها تقويض النفوذ الغربي في فنائه الذي ظن أنه آمن وبعيد عن المنافسة، وكأن لسان حالها أن اللعب في الفناء الخلفي لروسيا وتمدد حلف شمال الأطلس (الناتو) على حدود روسيا سيقابله لعب أشد وطئهً وأكبر تأثيرًا في الفناء الإفريقي الذي بقي تحت النفوذ الغربي ردحًا من الزمن طويلاً.

وحقيقة لم تعدم روسيا وسائل متعددة لمد نفوذها في دول القارة الإفريقية جنوب الصحراء، ومنها:

أولًا: استخدام مجموعة فاغنر- وهي منظمة روسية خاصة كانت تربطها علاقات وثيقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل تمردها  في 23 يونيو 2023- كرأس حربة لمناهضة الوجود العسكري الغربي في القارة، حيث وجدت بعض الدول الإفريقية في هذه المجموعة -سيئة السمعة- غايتها في مواجهة التمرد الأيدلوجي المسلح على أراضيها، والذي فشلت القوى الغربية، لاسيما الفرنسية في مواجهته، وهو ما تمثل في مالي وبوركينافاسو، إضافة إلى حفظ أمن الرئاسة والنظام السياسي عامة، ومواجهة المعارضة المسلحة، كما هو الحال في جمهورية إفريقيا الوسطى.

ثانيًا: الوسائل الدبلوماسية واتخذت عدة صور منها:

-الزيارات الخارجية: والتي تمثلت في زيارات عالية المستوى من قبل المسؤولين الروس للدول الإفريقية، وفي مقدمتهم وزير الخارجية سيرجي لافروف الذي قام في العام 2023 بأربع جولات في القارة شملت: مالي، موريتانيا، مصر، السودان، جنوب إفريقيا، إسواتيني، أنجولا، إريتريا، الكونغو، أوغندا، إثيوبيا، وكينيا.

-دبلوماسية المؤتمرات: حيث عقدت روسيا قمتين مع دول القارة، كانت الأولى في مدينة سوتشي الروسية في الفترة من 23 إلى 24 أكتوبر 2019، وشارك في استضافتها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحضر المؤتمر 43 رئيس دولة أو حكومة، والثانية في مدينة سان بطرسبرج الروسية في الفترة من 26 إلى 29 يوليو 2023 بمشاركة 49 بلدًا إفريقيًا.

- إعادة فتح السفارات: حيث أعلنت الخارجية الروسية، منتصف أغسطس 2023 عن عزمها إعادة فتح سفارة موسكو في بوركينا فاسو وغينيا الاستوائية قبل نهاية العام الحالي، وكان أغلقتها سابقًا لأسباب مادية.

 

 روسيا تحاول إعادة النظام الدولي متعدد الأقطاب وكسر الهيمنة الأمريكية على العالم، ومن عجب أن ترى ذلك جاء متزامنًا مع ما يمكن تسميته بانتفاضة إفريقية ضد النفوذ الغربي عامة في بلادها

ثالثًا: التعاون لتوفير الأمن الغذائي: فالدول الإفريقية رغم مساحتها الشاسعة تعاني أزمة غذائية حادة، وتقف بعض دولها على حافة المجاعة، بينما وقعت أخرى في براثنها، ومما زاد الطين بلة نشوب الحرب الروسية- الأوكرانية التي أعاقت تصدير الحبوب الأوكرانية، وهو ما زاد من وطأة المشكلة الغذائية في دول القارة، ومن ثم تقدمت روسيا وأخذت زمام المبادة معلنةً خلال قمة سان بطرسبرج، أنها قادرة على استبدال صادرات الحبوب الأوكرانية إلى إفريقيا، وستكون مستعدة لبدء توريد الحبوب مجانًا إلى ست دول بالقارة في غضون ثلاثة أو أربعة أشهر، وهي: بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا.

ويبقى السؤال مطروحًا، هل هذا التوجه الروسي لمزاحمة النفوذ الغربي في إفريقيا مرتهنًا بحملتها العسكرية على أوكرانيا، ومتأثرا بالعزلة التي يحاول الغرب أن يفرضها على روسيا وقادتها؟

الذي نراه أن روسيا تحاول إعادة النظام الدولي متعدد الأقطاب وكسر الهيمنة الأمريكية على العالم، ومن عجب أن ترى ذلك جاء متزامنًا مع ما يمكن تسميته بانتفاضة إفريقية ضد النفوذ الغربي عامة في بلادها، وقد تمثل ذلك جليًا في صورة انقلابات عسكرية أظهرت تمردًا واضحًا وقويًا على الوجود الغربي، وهو ما نراه في مالي وبوركينا فاسو وغينيا، ومؤخرًا في النيجر، حيث الإصرار على طرد القوات الغربية، وفي المقدمة منها الفرنسية، ووقف التعاون العسكري والأمني مع فرنسا مع افساح المجال لوجود مرتزقة فاغنر الروسية، ذات الصلة بالرئاسية الروسية، وفتح المجال للوجود الروسي الدبلوماسي والاقتصادي، مع تقليص الوجود الغربي، لاسيما الفرنسي.

ويدل ذلك على أن البيئة السياسية الداخلية في بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء متهيئة للوجود الروسي كبديل أفضل من الغربي على كل حال، ولكن هل تستثمر روسيا ذلك كله من أجل بقاء طويل أم أنه استثمار مؤقت؟

الذي يبدو أن روسيا تتبنى (تكتيكات) تضمن لها التأثير في / أو استغلال مسار الأحداث لصالحها، ولكن توجهاتها لا تنم عن (استراتيجيات) طويلة الأمد في إفريقيا جنوب الصحراء، رغم ما لديها من مقدرات وإمكانيات تؤهلها للعب أدوار بالغة التأثير في القارة، خاصة في الجوانب الأمنية والتكنولوجية والغذائية، وهو ما أكده تقرير نادي "فالداي" عن التعاون بين روسيا والقارة السمراء (روسيا اليوم -18-7-2023)، وهذا لا يتوافق بطبيعة الحال مع طموحها في تشكيل نظام دولي متعدد الاقطاب على رافعة دول القارة الإفريقية، ولا يتوافق كذلك مع رغبات الدول الإفريقية التي تسعى لشراكات طويلة الأمد تكفل لها وضعًا أمنيًا واقتصاديًا وتنمويًا أفضل حالًا من شراكتها السابقة مع الدول الغربية.      

 

أعلى