• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
حرب تفكيك السودان

هي أخطر حرب يواجهها السودان، على الرغم من التاريخ الطويل للتمردات العسكرية التي واجهتها الحكومة المركزية منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1956


فكل حروب الانفصال عن المركز، دارت رحاها في الولايات البعيدة، فنجح انفصاليو الجنوب في الاستئثار بدولة جنوب السودان عام 2011 عقب ستين سنة من التمرد، ولم تنجح الحركات الانفصالية الحديثة العهد في الغرب والشرق والجنوب (المجاور لدولة جنوب السودان) في تحقيق أهدافها. أما خطورة الصراع الحالي، فتُلمح في أن طرفيه هما الجيش، وقوات الدعم السريع المنضوية في المنظومة العسكرية الرسمية منذ عام 2017. وأن الطرف الثاني في مواجهة الجيش، تكوّن أصلاً لمواجهة تمرد ولاية دارفور المنتشر منذ عشرين عاماً، وأن تحوّل قوات الدعم السريع الدارفورية إلى قوات متمردة في قلب العاصمة، هو تطوّر بالغ الخطورة على وحدة السودان ومصيره كدولة مركزية.

صحيح أن قوات الدعم السريع خرجت من رحم الجيش السودني وعلى أعين جهاز الاستخبارات، وهي مكشوفة أمام القوات النظامية، من حيث العدد، والعدة، والتكتيكات، ومستوى التخطيط وطبيعته، ومقار القوات ومرتكزاتها في الخرطوم، والولايات الأخرى، كما أن تحركاتها الأخيرة قبيل ساعة الصفر كانت مرصودة بدقة، إلا أن تحشد قوات الدعم السريع مسبقاً في الخرطوم، ووجود قيادتها بالقرب من القيادة العامة للجيش السوداني، ومقر إقامة رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد الجيش، فضلاً عن بقية المقار العسكرية والامنية والسياسية البالغة الحساسية في بقعة ضيقة بين مطار الخرطوم والقصر الرئاسي وما حواليها، بما لا يتخطى بضعة كليومترات مربعة، وانتشار معسكراتها عل نحوٍ طبيعي في العاصمة المثلثة، جعل الهدف مغرياً لحميدتي بتنفيذ انقلاب مدعوم سياسياً من بعض مجموعات الحربة والتغيير في الداخل، ومن دول تسعى لهدم النظام القديم بمؤثراته الإسلامية وإقامة نظام مدني جديد. هذه البقعة هي مركز الثقل في النظام، فمن يسيطر عليها، يسيطر على الخرطوم وعلى السودان. وفيها تركزت المعارك منذ اللحظة الأولى، وفيها الخاتمة؛ فإما انتصار حميدتي بمعنى تمكن وحداته خارج الخرطوم من فك الحصار عنه، وتطويق الوحدات النظامية بحزام خارجي من القوات المجلوبة من الولايات المجاورة والبعيدة، وإما ضرب الجيش لطرق إمداد قوات الدعم السريع خارج العاصمة، بعد تدمير مقارها في العاصمة المثلثة، وخنق الجيب الذي تحتشد فيه قوات الدعم السريع إلى أن يستسلم حميدتي أو يقضي نحبه.

 

أبدى حميدتي تأييده لطرح النظام المدني، وهو كان يراهن أن يطول أمد دمج قواته بالجيش. لكن البرهان الذي رضخ للضغوط الخارجية والداخلية، فقبل بإخراج الجيش من السياسة، لم يتساهل مع فكرة بقاء حميدتي خارج المنظومة العسكرية

الخرطوم مسرح العمليات

الخرطوم هذه المرة، هي مسرح العمليات العسكرية الرئيسية، وهي عبارة عن مدينة كبرى تضم تجمعات سكانية متنوعة إثنياً وعرقياً، وهي التي احتضنت الفارين من الولايات المضطربة واللاجئين من الدول المجاورة، على مدى سنوات طويلة، فتضاعف سكانها ثلاث مرات في العقود الثلاثة المنصرمة، من أكثر من مليونين إلى ما يتجاوز 6 ملايين نسمة، عدا العدد الإجمالي لسكان ولاية الخرطوم أكثر من 9 ملايين، وهي التي تيلغ مساحتها أكثر من 22 ألف كلم مربع، أي ما يتخطى ضعف مساحة لبنان، أي ما يقارب ربع سكان السودان.

الخرطوم هي مركز العصب السياسي للسودان الذي يبحث عن الاستقرار منذ ولادته. فيها يلتقي نهرا النيل الأبيض والنيل الأزرق؛ ينطلق الأول من منطقة البحيرات العظمى في وسط أفريقيا، وينبع الثاني من المرتفعات الأثيوبية، وعندما يلتقيان فيها عند نقطة المقرن، يتحد اسمهما فيصبح نهر النيل الذي هو هبة مصر. التقاء رافدي النيل في الخرطوم، جعل من الكباري (الجسور) التسعة جزءاً تقليدياً من حياة المدينة، ووسيلة طبيعية لحمايتها من الهجمات الخارجية والتهديدات الداخلية. لذا، فإن أي انقلاب عسكري لا بد أن يستند على الإمساك بهذه الجسور، وأي ثورة شعبية لا تتمكن من تجاوز الجسور، لا يمكن أن تفرض إرادتها، من دون انحياز الجيش إليها. من يسيطر على الخرطوم لا تعصى عليه الولايات. وبما أن قوات الدعم السريع تتكوّن أساساً من القبائل العربية في ولاية دافور، فلن تجد حاضنة شعبية مناسبة لها في العاصمة المؤيدة تقليدياً للجيش. وهذا ما يجعل الانقلاب العسكري منحصراً في البقعة الضيقة التي توجد فيها كل المقارّ السيادية. وهي نقطة الضعف أيضاً.

ومن أجل تجاوز قيود الحركة الانقلابية، عرقياً وعسكرياً وجغرافياً، مهّد حميدتي قبل سنوات لانقلابه الأخير:

أولاً: من خلال رعايته ىعقد اتفاق السلام في جوبا بين الخرطوم وبعض الحركات المتمردة في دافور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق في 3 تشرين الأول/أكتوبر عام 2020، وهي الحركات التي قاتلتها قوات الدعم السريع منذ عام 2013 في أيام النظام السابق، وثمة أحقاد عميقة بسبب ما ارتكبته قوات الجنجويد منذ عام 2003 في دارفور، وما جنته لاحقاً قوات الدعم السريع في تلك المناطق المتمردة.

وثانياً: التقرّب من المكوّن المدني الشريك في السلطة الانتقالية متبرئاً من شراكته مع البرهان في الانقلاب الذي نفذه في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، على ما نصت عليه الوثيقة الدستورية الموقع عليها بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في 17 آب/أغسطس (آب) 2019، أي بعد أربعة أشهر من الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في 11 نيسان/أبريل ذاك العام.

وثالثاً: إبرام عقود مع شركات علاقات عامة أجنبية للترويج له وتبييض صفحته، أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، تمهيداً لتحقيق طموحه للوصول إلى الرئاسة الأولى. لكن العقدة المركزية التي أعاقت كل هذا المسار، هي ما ورد في الاتفاق الإطاري الذي وُقع بين المكون العسكري (جيش ودعم سريع) والمكون المدني (قوى الحرية والتغيير)، في 5 كانون الأول/ديسمبر العام الماضي، وينص على دمج قوات الدعم السريع بالجيش من ضمن الإصلاح العسكري المطلوب، كما ينص على طبيعة النظام الجديد، وهو أن السودان دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية برلمانية، السيادة فيها للشعب وهو مصدر السلطات، ويسود فيها حكم القانون والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحرة والنزيهة والتقسيم العادل للثروات والموارد. وأن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات وتقوم على المساواة بين المواطنين دون تمييز نوعي ديني ثقافي إثني لغوي جهوي. وبالمقابل، تكون الدولة محايدة دينياً. أي أن السودان الجديد هو علماني. وهذا الاتفاق مبني على ما ورد في الوثيقة الدستورية قبل أربع سنوات.

 

المسار التراجعي للانقلاب مشروط بعدم تدخل أطراف أخرى في المعركة، سواء الحركات المتمردة الأخرى، أو قوى خارجية مؤيدة لحميدتي، ومنها مرتزقة فاغنر الروسية، وميليشيات اللواء حفتر في ليبيا

أبدى حميدتي تأييده لطرح النظام المدني، وهو كان يراهن أن يطول أمد دمج قواته بالجيش. لكن البرهان الذي رضخ للضغوط الخارجية والداخلية، فقبل بإخراج الجيش من السياسة، لم يتساهل مع فكرة بقاء حميدتي خارج المنظومة العسكرية، منافساً في الشأن السياسي، استناداً إلى قوات الدعم السريع. فإن كان الجيش خارج السياسة، فعلى قوات الدعم السريع أن تكون كذلك خارج السياسة، وأن تندمج بالجيش خلال سنتين، وهي مدة المرحلة الانتقالية. الخلاف على مدة الدمج هو كذلك على معاييره، لأن حميدتي برتبة عميد دون أن يتدرج في السلك العسكري، كان يطمح في الأقل إلى الترقي والحصول على منصب قائد الجيش، مقابل تخليه عن قيادة الدعم السريع. وعلى هذا، تعثّر مطلع نيسان/أبريل الحالي التوقيع على الاتفاق النهائي لنقل السلطة إلى المدنيين بانقضاء المرحلة الانتقالية بعد عامين. فتسارعت التحركات الانقلابية لقوات الدعم السريع، لجوءاً على ما يبدو إلى الخطة ب. وهو تنفيذ انقلاب عسكري هو أقرب الطرق إلى القصر الرئاسي، وليس من دون دعم من قوى داخلية وخارجية.

سيناريو الانقلاب

يتبين من متابعة سير المعارك في الأيام الأخيرة من شهر رمضان في الخرطوم بشكل رئيسي، وفي الولايات الأخرى كمسارح ثانوية ورافدة للجهد الأساسي في العاصمة، أن سيناريو الانقلاب يستند إلى استغلال نقاط القوة لدى قوات الدعم السريع (كثافة العدد، وسرعة الحركة)، ومحاولة التعويض على نقاط الضعف لديها للتغلب على القوات النظامية الأكثر احترافية وتسلحاً وشعبية. فكانت الضربة الأولى موجهة إلى المطارات في العاصمة والولايات المجاورة، مروي في الشمال، والأُبيّض، فضلاً عن مطار الخرطوم، بهدف تحييد سلاح الجو عن المعركة، لأن قوات الدعم السريع وإن كانت تضم عدداً مقارباً من الجنود (ما يقارب 100 ألف حسب بعض التقديرات)، ويمكن لوحداتها الخفيفة المناورة واحتواء الحركة البطيئة لسلاح الدبابات في الجيش، من خلال الكرّ والفرّ، إلا أنها لا تمتلك سلاح الطيران، وهو نقطة التفوق في الصراع حالياً.

وبما أن قوات الجيش موزعة في قواعدها المرتكزة في العاصمة والولايات لضمان الأمن والاستقرار، فقد حشد حميدتي جلّ قواته لمعركة الحسم في الخرطوم، وهو ما أتاح للجيش تصفية قواعد الدعم السريع في الولايات خارج الخرطوم تدريجياً، مع رصد قوافل الدعم المرسلة إلى العاصمة وقصفها بالطائرات والمسيرات. فبدلاً، من استفادة قوات التمرد من قدرتها الفائقة على الحركة والانتقال من الولاية الارتكازية لقواتها أي دارفور، إلى الخرطوم وبالعكس في حال فشل الانقلاب، وجدت نفسها عالقة في أحياء الخرطوم، وهي تستنفد ما لديها من مؤن وذخيرة.

والمسار التراجعي للانقلاب مشروط بعدم تدخل أطراف أخرى في المعركة، سواء الحركات المتمردة الأخرى، أو قوى خارجية مؤيدة لحميدتي، ومنها مرتزقة فاغنر الروسية، وميليشيات اللواء حفتر في ليبيا، والتي ساندها حميدتي في حربها على الحكومة المعترف في طرابلس الغرب عام 2019.

مصير التحول الديمقراطي

أما آثار الصراع الدائر على الاتفاق الإطاري الهادف إلى نقل السلطة إلى المدنيين، فليست واضحة تماماً، وإن كان تورط قوى مدنية ثورية بدعم قوات الدعم السريع والرهان عليه، أو مجرد الوقوف على الحياد في المعركة التي تهدد وحدة السودان، سيلقي أعباء كبيرة على المسار السياسي كما كان مقرراً قبيل إطلاق الرصاصة الأولى. فبعض الحركات المسلحة المتمردة وبعض قوى الحرية والتغيير، مسنودة بدول خارجية، ما تزال ترى في الجيش معقلاً للحركة الإسلامية التي حكمت السودان على مدى ثلاثين عاماً. ومن غير المعقول بنظر هؤلاء أن يتحول الجيش ببساطة من معسكر إلى آخر، قبل تطهيره من فلول النظام القديم، وإعادة بنائه على أسس جديدة. ولهذا يرون في حميدتي البراغماتي بديلاً ملائماً لتنفيذ برنامج تعقيم الجيش السوداني من المؤثرات الإسلامية. إلا أن القبول بفكرة انتصار ميليشا غير منضبطة على جيش نظامي هو من أعرق الجيوش الإفريقية، فقط لتحقيق هدف أيديولوجي، من أفدح الأخطاء التي ارتكبتها الأحزاب والقوى السياسية منذ الاستقلال.

ولهذا من المتوقع، أن يحظى الجيش وقيادته، بشعبية كبيرة، في نهاية الصراع، إن تمكن من حلّ قوات الدعم السريع، بأقل خسائر مدنية ممكنة. ومن ذلك الوقت، سيكون صعباً على القوى المناهضة لدور الجيش في الحياة السياسية، أن يكرروا المعزوفة نفسها. فما الجدوي من التغيير السياسي المنشود إن كان مآله تفكيك السودان إلى دويلات متناحرة، ومن بوابة إضعاف الجيش، وتدمير إمكانياته، وتحطيم معنوياته.

 

أعلى