لا مكان في قلوب المؤمنين للخوف والحزن واليأس والقنوط والإحباط؛ لأن معية الله تعالى تسبق إليهم، وهو سبحانه يحوطهم برعايته وكفايته؛ ولذا مدح الله تعالى أهل الإيمان بتوكلهم عليه، وثقتهم فيه، ووعدهم بالكفاية والرعاية والنصر
الحمد لله العلي القهار،
العزيز الجبار، مالك الملك، ومدبر الأمر، وهو على كل شيء قدير، نحمده حمدا كثيرا،
ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا رب لنا سواه، ولا
نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛
أوذي في الله تعالى أذى شديدا، فأخرج من أرضه، وساومه المشركون على دينه، وعذبوا
أصحابه، وحاصروه وقومه فجوعوهم، وطاردوه يريدون قتله؛ حتى قال يصف شيئا مما ابتلي
به
«لَقَدْ
أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ
أَحَدٌ»
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واثبتوا على دينكم فإنه الحق من ربكم، والزموا إيمانكم
فإنه هناؤكم في الدنيا وفوزكم في الآخرة، ولا تغتروا ببهرج المتفلتين والمنافقين؛
فإنها زخارف تزول، وسراب يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ولا سعادة
لمن أراد السعادة إلا في القرب من الله تعالى، وتوثيق الصلة به سبحانه، وحسن الظن
به عز وجل، وقوة التوكل عليه تبارك وتعالى ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [الرعد: 26].
أيها الناس:
القران العزيز كلام الله تعالى، وهو سبحانه يملك القلوب، والثبات على الإيمان
واليقين محله القلب. كما أن القلب محل الجحود والنفاق والشك والشهوات والشبهات.
فالقرآن الكريم من أعظم مثبتات القلوب على الإيمان واليقين عند تلاطم الفتن، وتتابع
المحن، وكثرة التسرب من الإيمان، وضعف اليقين في الناس. وكون القرآن مثبتا للقلوب
منصوص عليه في آياته الكريمة ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [النحل: 102]، ومن حكم نزول القرآن
مفرقا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم تثبيت القلوب بما يتنزل من الآيات ﴿وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً
كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان:
32]. وأوجه تثبيت المؤمنين على دينهم بآيات القرآن كثيرة جدا، فكل ما فيه من أسماء
الله تعالى وصفاته وأفعاله مثبت لقلوب المؤمنين، وكل ما فيه من قصص المرسلين مثبت
لقلوب المؤمنين، وكل ما فيه من أخبار الوعد والوعيد مثبت لقلوب المؤمنين، وكل ما
فيه من أوصاف القرآن مثبت لقلوب المؤمنين، وتعسر الإحاطة بكل ذلك وعرضه؛ لكثرته
وتنوعه.
ومن أوجه التثبيت بالقرآن
الكريم:
الإخبار فيه بأن الملك ملك الله تعالى، وأن الأمر أمره سبحانه، وأن التدبير تدبيره
عز وجل، فلا يخرج شيء عن إرادته وقدره ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: 1] ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54] ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الْأَرْضِ﴾ [السجدة: 5]. فمهما مكر الأعداء بأهل الإيمان فالله تعالى يمكر بهم،
ويرد عليهم كيدهم، ويفشل سعيهم، ويحبط عملهم ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ
كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: 18] ﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد: 42].
والله تعالى يحب المؤمنين
وهو وليهم وناصرهم ومثبتهم ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة:
257] وإذا كان الله تعالى يحب المؤمنين وهو وليهم ومولاهم فهم ظاهرون على أعدائهم ﴿إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾
[المائدة: 55- 56] ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ
الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 78]، فلا مكان في قلوب المؤمنين للخوف
والحزن واليأس والقنوط والإحباط؛ لأن معية الله تعالى تسبق إليهم، وهو سبحانه
يحوطهم برعايته وكفايته؛ ولذا مدح الله تعالى أهل الإيمان بتوكلهم عليه، وثقتهم
فيه، ووعدهم بالكفاية والرعاية والنصر ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 173-174].
ومن أوجه التثبيت بالقرآن
الكريم:
ما تضمنه من وصف القرآن بأنه هدى ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]؛ فالمهتدي بالقرآن لا بد أن يوفق للثبات على الدين.
ومن أوجه التثبيت بالقرآن
الكريم:
ما تضمنه من وصف الدنيا بالقلة والحقارة والزوال، ووصف الجنة بالكثرة والفخامة
والبقاء ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38] ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [فاطر: 5]. فلا يغتر
المؤمن بالدنيا، ولا يترك شيئا من دينه لأجل شيء من الدنيا.
ومن أوجه التثبيت بالقرآن
الكريم:
ما تضمنه من أن ابتلاء أهل الإيمان سنة ماضية؛ لتمحيص القلوب، وتنقية الصفوف من
المنافقين ومن طلاب الدنيا، فلا يبقى إلا الصادقون في إيمانهم، الثابتون على دينهم؛
فيكون لهم التمكين في الأرض ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
نَافَقُوا﴾ [آل عمران: 166- 167] ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2- 3].
ومن أوجه التثبيت بالقرآن
الكريم:
ما تضمنه من ذكر وعد الثابتين على الإيمان بطمأنينة القلب في الدنيا، والجزاء
العظيم في الآخرة ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97] فيرجو الثابت على دينه هذا
الثواب العظيم، وكذلك ما تضمنه القرآن من الوعيد الشديد للناكصين على أعقابهم،
المبدلين دينهم، فيخاف المؤمن أن يكون منهم ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ
جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ
يُنْظَرُونَ﴾ [آل عمران: 86 - 88] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا
ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ [النساء: 137].
نعوذ بالله تعالى من حالهم
ومآلهم، ونسأله الثبات على الدين إلى الممات، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا
كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
ومن أوجه التثبيت بالقرآن
الكريم:
ما فيه من أخبار الرسل عليهم السلام، وما لاقوه من التكذيب والعناد والسخرية
والصدود والإعراض، وكيف أن الرسل صبروا على ذلك، وثبتوا على دينهم ودعوتهم؛ حتى
أظهرهم الله تعالى ونصرهم ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى
قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]، وأتباع الرسل
منصورون في كل زمان ومكان.
ومن أوجه التثبيت بالقرآن
الكريم:
ما تضمنه من وعد الله تعالى للثابتين على الدين بالتمكين في الأرض، والنصر على
الأعداء؛ كما في قول الله تعالى ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55]، وقوله تعالى ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ
اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾
[الحج: 40- 41] ونصر العبد لله تعالى يكون بنصر دينه، والثبات عليه، وموالاة
أوليائه، ومعاداة أعدائه.
ومن أوجه التثبيت بالقرآن
الكريم:
ما تضمنه من الوعد الرباني بهزيمة من يحاربون دينه وأولياءه، مهما كانت قوتهم،
ومهما كثر عددهم، ومهما بلغ مكرهم وكيدهم ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران:
12] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ
يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 36]
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ
إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 32- 33].
وإزاء هذه المثبتات
الكثيرة في القرآن الكريم؛ فإنه لا يسع المؤمن في أزمنة الفتن والمحن إلا أن يلزم
القرآن الكريم قراءة وحفظا وفهما وتدبرا؛ ليغذي قلبه بأسباب الثبات على الدين، فلا
تؤثر فيه فتنة، ولا تزعزعه شبهة، ولا تضعفه محنة، ولا يصيبه هلع ولا خوف ولا يأس ﴿كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو
الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29].
وصلوا وسلموا على نبيكم...