• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
وحدة الكلمة، أهميتها وأسبابها

إِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ آيَاتِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ فِي الْحَثِّ عَلَى الْوَحْدَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ يَجِدُهَا تُؤَكِّدُ عَلَى الْتِزَامِ الدِّينِ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْوَحْدَةِ فِي كُلِّ آيَةٍ عَالَجَتْ هَذَا المَوْضُوعَ المُهِمَّ؛ فَأَمَرَتْ بِ


الحَمْدُ لِلَّـهِ القَوِيِّ الْعَزِيزِ، الْحَمِيدِ المَجِيدِ؛ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِتَوْحِيدِهِ، وَوَفَّقَهُمْ لِطَاعَتِهِ، وَجَمَعَ كَلِمَتَهُمْ عَلَى دِينِهِ، فَبِشَرِيعَتِهِ يَجْتَمِعُونَ، وَبِتَرْكِهَا أَوْ تَفْرِيقِهَا يَفْتَرِقُونَ ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾  [الْأَنْفَالِ: 63] نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَى وَكَفَى، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَعْطَى وَأَسْدَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ مُتَنَاحِرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَأَنَارَ بِهِ القُلُوبَ مِنْ ظُلْمَتِهَا، وَطَهَّرَهَا مِنْ رِجْسِهَا، وَجَمَعَ تَفَرُّقَهَا، وَوَحَّدَ كَلِمَتَهَا، فَكَانُوا بَعْدَ الإِيمَانِ إخْوَةً مُتَحَابِّينَ مُتَآلِفِينَ، يَحْمِلُ قَوِيُّهُمْ ضَعِيفَهُمْ، وَيُوَاسِي غَنِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ، وَكَانُوا يَدًا عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، اتَّقُوهُ فِي دِينِكُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَاتَّقُوهُ فِي أُمَّتِكُمْ فَأُوبُوا إِلَيْهَا وَانْهَضُوا بِهَا، وَانْصُرُوهَا عَلَى أَعْدَائِهَا، وَاتَّقُوهُ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعَمٍ، وَمَا دَفَعَ عَنْكُمْ مِنْ نِقَمٍ، فَقَيِّدُوهَا بِالطَّاعَاتِ، وَزِيدُوهَا بِالشُّكْرِ، وَلَا تُزِيلُوهَا بِالمعَاصِي؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ﴿لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوَءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾  [الرَّعْدِ: 11]. خُذُوا الْعِبْرَةَ مِمَّا تَمُوجُ بِهِ الْأَرْضُ مِنْ أَحْدَاثٍ: زَلَازِلُ وَفَيَضَانَاتٌ، وَغَرَقٌ وَهَلَاكٌ، وَقَتْلٌ ذَرِيعٌ، وَجُوعٌ وَتَشْرِيدٌ، يُصْبِحُ النَّاسُ عَلَى أَخْبَارِ القَتْلِ، وَيُمْسُونَ عَلَى مَنَاظِرِ الْجُثَثِ، إِنَّهَا فَتْرَةٌ مِنَ الزَّمَنِ عَصِيبَةٌ، وَأَيَّامٌ حُبْلَى بِأَحْدَاثٍ عَظِيمَةٍ، اجْتَمَعَ فِيهَا بِأَمْرِ اللَّـهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ: تَغَيُّرُ أَحْوَالِ الْكَوْنِ بِتَكْرَارِ اضْطِرَابِ الْأَرْضِ، وَتَقَلُّبِ أَجْوَائِهَا وَأَحْوَالِهَا، مَعَ تَقَلُّبِ أَحْوَالِ الْبَشَرِ، وَعُدْوَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فِي تَسَارُعٍ لِلْأَحْدَاثِ لَمْ يُعْهَدْ مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا الَّذِي يَحْدُثُ؟! وَلَا كَيْفَ يَحْدُثُ؟! لَكِنَّ النَّاسَ خَائِفُونَ وَجِلُونَ، وَأَيْمُ اللَّـهِ لَا ﴿يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾  [الْأَعْرَافِ: 99] وَتَاللَّـهِ لَا يَغْتَرُّ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ وَالنِّعْمَةِ إِلَّا مَغْرُورٌ؛ فَإِنَّ أَمْرَ اللهَ تَعَالَى كُنْ فَيَكُونُ. وَفِي هَذَا الظَّرْفِ الزَّمَنِيِّ الْعَصِيبِ عَلَى النَّاسِ، لَا لُجُوءَ إِلَّا إِلَى اللَّـهِ تَعَالَى، وَلَا نَجَاةَ مِنْ أَقْدَارِهِ إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَذَلِكَ بِالمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، وَالْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا رَافِعَ لِلْبَلَاءِ، وَلَا مُدِيمَ لِلنَّعْمَاءِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَلَا رَادَّ لِلْقَدَرِ إِلَّا الدُّعَاءُ، فَأَلِظُّو بِيَاذَا الْجَلِالِ وَالْإِكْرَامِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: مَنِ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ الرَّبَّانِيَّةَ فِي بَابِ وَحْدَةِ الْكَلِمَةِ وَاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنِ اخْتِلَافِهَا وَتَفَرُّقِهَا؛ تَبَيَّنَ لَهُ مِقْدَارُ مَا أَولَتْهُ مِنْ عِنَايَةٍ بَالِغَةٍ لِهَذَا الْجَانِبِ الَّذِي بِهِ تَقْوَى الْأُمَّةُ وَيَتَحَقَّقُ عِزُّهَا، وَيَدُومُ أَمْنُهَا وَاسْتِقْرَارُهَا، وَلَا يَنَالُ الْأَعْدَاءُ بُغْيَتَهُمْ مِنْهَا، وَلَا شَيْءَ أَكْثَرُ إِخِلَالًا بِالْأَمْنِ، وَلَا ضَرَرًا عَلَى الِاسْتِقْرَارِ مِنَ اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَافْتِرَاقِ الْقُلُوبِ، وَمَا نِيلَ مِنْ أُمَّةٍ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِهِ.

وَقَدِ اشْتَدَّتْ عِنَايَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ مِنْ دَاخِلِهِ بِنَاءً مُحْكَمًا قَوِيًّا عَلَى الْأُلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ وَوَحْدَةِ الْكَلِمَةِ وَاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ، وَكَانَ مِنْ أَوَّلِيَّاتِ عَمَلِهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَطِئَتْ قَدَمُهُ المَدِينَةَ: المُؤَاخَاةُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، تِلْكَ المُؤَاخَاةُ الَّتِي لَمْ يَشْهَدِ التَّارِيخُ لَهَا نَظِيرًا حِينَ نَقَلَتْ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مِنَ التَّبَاغُضِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى التَّحَابُبِ فِي الْإِسْلَامِ، وَجَعَلَتْ غُرَبَاءَ الْدَارِ إِخْوَةً لِلْأَنْصَارِ، يُقَاسِمُونَهُمْ دُورَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ. تِلْكَ المُؤَاخَاةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَتَطْرَبُ قُلُوبُهُمْ فَرَحًا بِهَا، وَتَتَحَرَّكُ مَشَاعِرُهُمْ بِالْوَلَاءِ لإِخْوَانِهِمْ بِسَبَبِهَا.

وَكَانَ مِنْ سِيَاسَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَقْضِي عَلَى أَيِّ بِادِرَةِ اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي مَهْدِهَا، وَيُطْفِئُ فَتِيلَهَا قَبْلَ اشْتِعَالِهَا، وَلَا يَتَهَاوَنُ فِي ذَلِكَ أَبَدًا، بَلْ نَجِدُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الرَّفِيقُ الرَّحِيمُ يُغْلِظُ المَقَالَ فِي هَذَا المَقَامِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِعِلْمِهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَارَ الْخِلَافِ وَالْفُرْقَةِ وَالْفِتْنَةِ إِذَا تَوَقَّدَتْ فَمِنَ الْعَسِيرِ إِطْفَاؤُهَا، عَيَّرَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأُمِّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ[1] ، وَفِي إِحْدَى مَغَازِيهِ تَثَاوَرَ المُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: «يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةٍ...» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ[2].

وَلمّا قَسَمَ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَوَجَدَ الْأَنْصَارُ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا جَمَعَهُمْ وَخَطَبَ فِيهِمْ قَائِلًا: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي...» فَأَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ، فَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّ النَّاسَ إِنْ فَازُوا بِالْأَمْوَالِ فَالْأَنْصَارُ ظَفِرَتْ بِرَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحُوزُهُ إِلَى رَحْلِهَا، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[3].

فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِصُ عَلَى وَحْدَةِ الْكَلِمَةِ، وَيُزِيلُ مَا قَدْ يَعْلَقُ فِي الْقُلُوبِ فَيُؤَثِّرُ عَلَيْهَا.

إِنَّ مِنْ أَجَلِّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَبْيَنِهَا فِي الْأَحْكَامِ المُفَصَّلَةِ: تَحْقِيقَ وَحْدَةِ الْكَلِمَةِ، وَائْتِلَافِ الْقُلُوبِ، وَيَكَادُ أَنْ يَنْتَظِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالمُعَامَلَاتِ وَالْآدَابِ، بَلْ حَتَّى فِي الْعُقُوبَاتِ.

فَفِي الصَّلَاةِ لَا يَخْفَى فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَمِنْ مَقَاصِدِهَا اللِّقَاءُ فِي المَسْجَدِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَيُتَوَّجُ ذَلِكَ بِتَّرَاصِّ الصُّفُوفِ حَتَّى تَلْتَصِقَ الْأَقْدَامُ وَالمَنَاكِبُ: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ»[4] فَهَذَا مَقْصَدٌ لِوَحْدَةِ الْكَلِمَةِ ظَاهِرٌ مُتَكَرِّرٌ، وَأَعْظَمُ مِنْهُ اجْتِمَاعُ الْجُمُعَةِ، وَأَعْظَمُ مِنْهَا الِاجْتِمَاعُ فِي الْعِيدِ.

وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ؛ لِإِزَالَةِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الِانْكِسَارِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَحْقَادِ؛ حِفْظًا لِوَحْدَةِ الْكَلِمَةِ، وَاجْتِمَاعِ الشَّمْلِ.

وَفِي الصِّيَامِ يَجُوعُ الْغَنِيُّ لِيَفْطِنَ لْجُوعِ الْفَقِيرِ فَيُطْعِمَهُ، فَيَتَطَهَّرَ قَلْبُهُ مِنَ الضَّغِينَةِ عَلَى أَخِيهِ المُوسِرِ. وَفِي الْحَجِّ تَلْتَقِي أَجْنَاسٌ شَتَّى لَا يَجْمَعُهَا شَيْءٌ سِوَى الْوَحْدَةِ عَلَى كَلِمَةِ التَّوحِيدِ.

وَفِي كُلِّ الْعِبَادَاتِ وَالشَّعَائِرِ لَا تَمَايُزَ وَلَا افْتِرَاقَ، بَلِ الْقِبْلَةُ وَاحِدَةٌ، وَالشَّعَائِرُ وَاحِدَةٌ، وَالمَشَاعِرُ وَاحِدَةٌ؛ لِتَكُونَ الْأُمَّةُ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا أَدْعَى لِوَحْدَةِ الْكَلِمَةِ، وَأَقْوَى فِي تَمَكُّنِهَا.

وَفِي أَبْوَابِ مُعَامَلَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ قُضِيَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى كُلِّ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَصْدِيعِ الْوَحْدَةِ، وَافْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ مِنَ الرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالنَّجْشِ وَالْغِشِّ فِي المُعَامَلَاتِ، وَنُهِيَ عَنْ سُوءِ الْأَخْلاقِ، وَفُحْشِ الْكَلَامِ، وَالْإِسَاءَةِ إِلَى النَّاسِ، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطِبُ عَلَى خِطْبَتِهِ؛ لِئَلَّا يُوغِرَ قَلْبَهُ، وَيُفْسِدَ وُدَّهُ، فَتَفْتَرِقَ كَلِمَتُهُمَا، وَأُمِرَ بِكُلِّ مَا يُؤَدِّي إِلَى المَحَبَّةِ وَالأُلْفَةِ مِنَ السَّمَاحَةِ وَالْعَفْوِ وَالْبَشَاشَةِ وَطِيبِ الْكَلَامِ، وَبَذْلِ السَّلامِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ.

وَفِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا تَرْسِيخٌ لِوَحْدَةِ الْكَلِمَةِ، وَالْقَضَاءُ عَلَى بُذُورِ الشِّقَاقِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِتْلَافٌ لِنُفُوسٍ أَوْ أَعْضَاءٍ فَفِيهِ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ، وَاسْتِحْيَاءٌ لِلنُّفُوسِ المَعْصُومَةِ ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾  [الْبَقَرَةِ: 179].

وَفِي الْحُدُودِ قَضَاءٌ عَلَى الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَصِيَانَةٌ لِلدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتُدِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُعَاقَبِ المُعْتَدِي تَصَدَّعَتْ وَحْدَةُ المُجْتَمَعِ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُ، وَكَانَ أَخْذُ الْحُقُوقِ بِالْأَيْدِي لَا بِالشَّرْعِ فَتَكُونُ الْفَوْضَى؛ وَلِذَا غَلَّظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيَ عَنِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ.

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْمَعَ قُلُوبَنَا عَلَى الْحَقِّ، وَأَنْ يُوَحِّدَ كَلِمَتَنَا عَلَى أَعْدَائِنَا، وَأَنْ يُبْعِدَ أَسْبَابَ الشِّقَاقِ وَالِافْتِرَاقِ عَنَّا وَعَنْ إِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾  [الْبَقَرَةِ: 281].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَا شَيْءَ أَعْظَمُ خَطَرًا عَلَى وَحْدَةِ الْكَلِمَةِ، فَيُؤَدِّي إِلَى تصَدُّعِهَا مِنَ افْتِرَاقِ الدِّينِ؛ فَإِنَّ التَّخَلِّيَ عَنِ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِهَوًى فِي النُّفُوسِ هُوَ السَّبَبُ الرَّئِيسُ لِزَوَالِ الْوَحْدَةِ، وَحُدُوثِ الْفُرْقَةِ، وَأُمَّةُ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا كَانَتْ أُمَّةً مُسْتَبَاحَةً مُسْتَضَامَةً بِسَبَبِ فُرْقَتِهَا، فَلَمَّا جَمَعَهَا اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ، وَوَحَّدَ كَلِمَتَهَا؛ سَادَتْ أُمَمَ الْأَرْضِ، وَحَكَمَتِ النَّاسَ قُرُونًا كَثِيرَةً.

إِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ آيَاتِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ فِي الْحَثِّ عَلَى الْوَحْدَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ يَجِدُهَا تُؤَكِّدُ عَلَى الْتِزَامِ الدِّينِ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْوَحْدَةِ فِي كُلِّ آيَةٍ عَالَجَتْ هَذَا المَوْضُوعَ المُهِمَّ؛ فَأَمَرَتْ بِالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِ اللَّـهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ دِينُهُ أَوْ كِتَابُهُ أَوْ عَهْدُهُ، وَنَهَتْ عَنِ الْفُرْقَةِ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾  [آلِ عِمْرَانَ: 103]. وَوَصِيَّةُ اللَّـهِ تَعَالَى لَنَا وَلِمَنْ قَبْلَنَا كَانَتْ ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾  [الشُّورَى: 13] فَإِقَامَةُ الدِّينِ سَبَبٌ لِلْوَحْدَةِ كَمَا أَنَّ تَفَرُّقَ الدِّينِ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ؛ وَلِذَا بَرَّأَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ فَرَّقُوا دِينَهُمْ فَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ؛ فَصَارُوا شِيَعًا مُتَنَاثِرَةً، وَأَحْزَابًا مُتَنَاحِرَةً ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾  [الْأَنْعَامِ: 159] فَنَهَانَا اللهُ تَعَالَى أَنْ نَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ لِئَلَّا تَفْتَرِقَ قُلُوبُنَا ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾  [الرُّومِ: 31-32].

وَلِأَهَمِّيَّةِ وَحْدَةِ الْكَلِمَةِ يُذَكِّرُنَا رَبُّنَا سُبْحَانَهُ بِحَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، فَفَقَدُوا بِسَبَبِهِ التَّفْضِيلَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَجَرَتْ بَيْنَ طَوَائِفِهِمُ المُتَفَرِّقَةِ فِي دِينِهَا حُرُوبٌ طَاحِنَةٌ أَفْنَتْ بَشَرًا كَثِيرًا ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾  [الْبَيِّنَةِ: 4] فَنَهَانَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ فِي افْتِرَاقِ الدِّينِ؛ لِئَلَّا تَتَصَدَّعَ وَحْدَتُنَا، وَتَخْتَلِفَ كَلِمَتُنَا ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾  [آلِ عِمْرَانَ: 105].

وَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ اخْتِلَافِ النَّاسِ، وَانْتِشَارِ الْفُرْقَةِ فِيهِمْ إِلَى لَزُومِ سُنَّتِهِ وَالتَّمَسُّكِ بِهَا لِلسَّلَامَةِ مِنَ الزَّلَلِ، وَالْوَقَايَةِ مِنَ الْفِتْنَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ»[5].كُلُّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالْإِرِشَادَاتِ النَّبَوِيَّةِ هِيَ لِأَجْلِ المُحَافَظَةِ عَلَى الْوَحْدَةِ، وَالْقَضَاءِ عَلَى الْفُرْقَةِ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا....

 

 


 


[1] رواه من حديث أبي ذر رضي الله عنه: البخاري في الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30) ومسلم في الإيمان والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل (1661).

[2] رواه من حديث جابر رضي الله عنه: البخاري في التفسير، باب قوله: [سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] {المنافقون:6} (4905) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما (2584).

[3] رواه من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: البخاري في المغازي، باب غزوة الطائف (4330) ومسلم في الزكاة،  باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه (1061).

 [4] رواه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: البخاري في الجماعة والإمامة، باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها (717) ومسلم في الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل، وتقريبهم من الإمام (436).

ورواية «بين قلوبكم» لأبي داود في الصلاة، باب تسوية الصفوف (662) وأحمد: ط، الرسالة، وصححه محققوه (30/ 378) رقم (18430)  وصححه ابن خزيمة (160) وابن حبان (2176).

[5] رواه من حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: أبو داود في السنة، باب لزوم السنة (4607)، والترمذي في العلم وقال: حديث حسن صحيح (2678)، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (43)، وأحمد، ط: الرسالة، وصححه محققوه (28/ 373) رقم (17144) والدارمي (95) وصححه ابن حبان (5) والحاكم ووافقه الذهبي (1/ 174) رقم (329).

 

أعلى