من المتوقع أن تؤدي النتائج الأخيرة إلى اضطراب السياسة الفرنسية داخليًا، مع زيادة احتمالات إصابة أكبر هيئة تشريعية في البلاد بالشلل
حالة من الصدمة تعيشها المؤسسة السياسية الفرنسية، بعد أن فاز اليمين المتطرف بعدد
تاريخي من المقاعد في الانتخابات البرلمانية التي جرت قبل أيام قليلة، الجناح
اليساري أيضا كان له نصيب كبير من كعكة الانتخابات، فيما تركت النتائج الفترة
الثانية من رئاسة إيمانويل ماكرون في حالة اضطراب، لقد فاز ماكرون بإعادة انتخابه
رئيسًا مؤخرًا في أبريل، لكنه الآن بات محرومًا من سلطته التشريعية، فما هي دلالات
هذه النتائج؟، وما تأثيراتها المحتملة على توجهات السياسة الفرنسية داخليًا
وخارجيًا؟
ترقـب داخـلي
من المتوقع أن تؤدي النتائج الأخيرة إلى اضطراب السياسة الفرنسية داخليًا، مع زيادة
احتمالات إصابة أكبر هيئة تشريعية في البلاد بالشلل، أو تشكيل تحالفات فوضوية قد
تجبر ماكرون ـ الذي يعدّ أول رئيس فرنسي يفوز بولاية ثانية منذ أكثر من عقدين ـ على
التواصل مع حلفاء لم يكونوا في الحسبان، أو يحملون أجندات تخالف رؤيته السياسية،
وهو ما سيزيد من تشتيت انتباهه عن القيام بتنفيذ أهداف برنامجه لفترة رئاسته
الثانية، إلى جانب إرباكه عن لعب دور بارز في إنهاء الغزو الروسي لأوكرانيا وكرجل
دولة رئيسي في الاتحاد الأوروبي، فقبل 5 سنوات، وصل ماكرون إلى السلطة مدفوعًا
بموجة من التفاؤل، كان الناخبون الفرنسيون يرون فيه وجهًا جديدًا يحمل رؤية وسطية
تتسم بروح الشباب، لكن هذا التفاؤل سرعان ما بدأ يخفت، وبدأ الناس في تبنى التصويت
لصالح طرفي الطيف السياسي؛ اليمين المتطرف وأقصى اليسار.
اتضح ذلك جليًا مع فوز التجمع الوطني الذي تتزعمه اليمنية المتطرفة مارين لوبان بـ
89 مقعدًا من أصل 577 مقعدًا في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي)، وهي زيادة
كبيرة للغاية وتكشف عن واحدة من أهم النتائج الأخيرة لسياسات اليمين المتطرف في
أوروبا، من شأن هذه النتيجة أن تحوّل حزب لوبان من لاعب سياسي متطرف وهامشي إلى
مقاعد المعارضة الطبيعية، وأن يترسخ وجوده مع الوقت، أما ائتلاف الأحزاب اليسارية
فقد كان موجودًا بقوة في هذه الانتخابات أيضا، إذ تمكن التحالف اليساري الذي تشكل
في مايو الماضي، يجمع بين الاشتراكيين واليسار المتشدد والشيوعيين والخضر، من حصد
149 مقعدًا ليصبح أكبر تجمع للمعارضة في البرلمان، وقد أعلن جان لوك ميلينشون،
الزعيم اليساري المناهض للرأسمالية، والمثير للجدل بسبب آرائه، أن هدف المرحلة
القادمة هو رفض ما أسماه بالماكرونية "Macronisme"،
ولا شك أن هذا سيصعّب من مهمة ماكرون الذي فاز تحالفه بأكبر عدد من المقاعد، 245
مقعدًا، لكنه بحاجة إلى 44 مقعدًا إضافيًا ليحقق الأغلبية المطلقة، وبالتالي فإنه
الآن سيظل غير قادر على تمرير القوانين دون دعم من الأحزاب الأخرى.
اليمين قادم بقوة!
في عام 1986، عندما تم تغيير القواعد الانتخابية الفرنسية لفترة وجيزة، تم انتخاب
بعض أعضاء الأحزاب اليمينية المتطرفة في البرلمان، فازت الجبهة الوطنية التي كان
يتزعمها جان ماري لوبان، بـ 35 مقعدًا، على الرغم من قلة العدد إلا أنه كان
ملحوظًا، أثارت هذه النتيجة غضب الكثيرين، وكانت كافية لإنهاء تجربة قصيرة العمر
بالتمثيل النسبي في الانتخابات، حيث تُترجم حصص تصويت الأحزاب بشكل مباشر إلى عدد
المقاعد التي تفوز بها، وُضِعَ نظام التصويت الحالي خصيصًا لمنع المتطرفين من
اكتساب القوة البرلمانية، وهو ما فشل في تحقيقه الآن، فمنذ أن جاءت مارين إلى عالم
السياسة عملت بجد على تعزيز إرث والدها السياسي السام، واستطاعت التسلل إلى الواجهة
واكتساب المزيد من الدعم والتأييد، خاصةً من القوميين الراديكاليين، يمكن الآن
لنتائج هذه الانتخابات، التي وصفتها بأنها "حدث زلزالي"، أن تساعدها في تحقيق بعض
مما ترمي إليه، حيث أعيد انتخاب لوبان، التي خسرت أمام ماكرون في الانتخابات
الرئاسية الأخيرة، نائبة عن منطقة هينين بومون في شمال فرنسا.
سعت لوبان لسنوات إلى إبعاد نفسها عن إرث والدها فيما يتعلق بإنكاره للهولوكوست
ومعاداته لليهود، بالرغم من أنها واجهت انتقادات واسعة لنفيها مسؤولية فرنسا عن
دورها في اعتقال اليهود الفرنسيين وترحيلهم إلى معسكرات الموت النازية، حاولت أن
تمسك بالعصا من منتصفها، فهي من ناحية طردت والدها من الحزب في عام 2015 بعد إدانته
بالتحريض على الكراهية والعنصرية ضد اليهود، وفي الوقت نفسه لم تتودد بشكل لافت
لليهود سعيًا لعدم إحداث تذبذب كبير داخل صفوف الحزب، تدعو لوبان إلى الانسحاب من
الاتحاد الأوروبي، ووقف الهجرة من الدول الإسلامية، وفرض قيود على الحريات الدينية.
خارج الحدود
لنتيجة الانتخابات التشريعية الفرنسية تأثيرات تتجاوز حدود فرنسا، لطالما كانت
باريس قوة رائدة في الاتحاد الأوروبي إلى جانب برلين، يُنظر إلى فرنسا النووية على
أنه قوة الردع الأولى في الوقت الذي تواجه فيه الكتلة الأوروبية وحلف الناتو
بمفهومه الأوسع حربًا ضروسًا تشنّها روسيا على أوكرانيا، لكن فكرة أن فرنسا التي
تعدّ مجازًا ـ إلى جانب ألمانيا ـ هي الزعيمة الفعلية لأوروبا، قد باتت تحظى الآن
ببرلمان مناهض للفكرة الأوروبية، هي فكرة لن تكون موضع ترحيب سواء في واشنطن أو في
العواصم الأوروبية البارزة، خاصةً في الوقت الذي يخوض فيه الغرب مواجهة حادة مع
روسيا التي بدأت غزوها للأراضي الأوكرانية قبل أشهر قليلة.
أزمة مبادئ
في الآونة الأخيرة، شهدت فرنسا تضييقًا ممنهجًا ضد المسلمين، يأتي ذلك كنتيجة
طبيعية للخطاب المنبعث من أحزاب اليمين التي تهاجم كل ما هو إسلامي، ما يثير القلق
بحق بالنسبة للفرنسيين قبل غيرهم هو أن الحكومة الفرنسية أصبحت تتخذ نهجًا جديدًا
يخالف مبدأ 1905 القاضي بعلمانية الدولة، والذي على أساسه تظل الدولة منفصلة عن
الشؤون الدينية، وفي ظل تدخلها لتنظيم الممارسات الدينية فإنها تهدر مبادئ أخرى
ترتبط بحرية التعبير والحريات الأساسية، وهو ما ينشر حالة من انعدام الثقة، على
الأقل بالنسبة للمسلمين الفرنسيين، إذ من الصعب إقناع هؤلاء بأن الجمهورية التي
تزعم أنها نبراسًا للحرية والتعددية هي ذاتها التي عملت على حل وتفكيك العديد من
المنظمات الإسلامية، إحداها على أساس أن مناهضتها للإسلاموفوبيا كانت تثير قلقًا
وشكوكًا داخل المجتمع الفرنسي، وأخرى لمجرد أن قسم التعليقات على حساباتها على
وسائل التواصل الاجتماعي لا تتم إدارته بشكل صحيح!، علاوة على ذلك دفع ماكرون
المجلس الفرنسي للعقيدة الإسلامية لصياغة ميثاق للإشراف على أنشطة الأئمة، وهي
إهانة لا تصدق لحرية التعبير وتكوين الجمعيات، في خطوة من شأنها تفتيت المجتمع
الفرنسي وإثارة الكراهية ضد أتباع العقيدة الإسلامية.
في عام 1930، كانت الشكوك وأصابع الاتهام تشير دائما إلى اليهود باعتبارهم مشكلة
المجتمع بأكمله، اليوم لم يعد الأمر متعلق باليهود، بل بالمسلمين، يتغذى الساسة على
إثارة مشاعر القلق لدى ناخبيهم، يعززون حيلة البحث عن كبش فداء لتحميله كل أزمات
البلاد المهتزة اقتصاديًا في أعقاب الوباء، لسنوات مضت ومع كل انتخابات في فرنسا،
يشتعل الحديث بين الأحزاب والمرشحين عن الإسلام، وربطه بالهجرة والإرهاب، يتعرض
المسلمون الفرنسيون للوصم والإهانات، ويتكاثر الحديث عن شعارات من نوعية أن الإسلام
لا يتوافق مع قواعد الجمهورية الفرنسية أو مع الغرب عموما، وقد وصل الأمر في
الانتخابات الرئاسية الأخيرة للحديث عما يُعرف بـ "الاستبدال العظيم"، وهي خطة ترمي
إلى إبعاد المسلمين عن فرنسا وأنهم لا يمكنهم البقاء على أراضيهم، وإذا أرادوا
البقاء في هذا البلد فعليهم ألا يمارسوا شعائر دينهم ويتخلوا عن كل مظاهره، وهذا
يتوافق مع النظرة التي تعززها وسائل الإعلام بأن المسلمين الفرنسيين هم أجانب،
بالرغم من أن الإسلام هو الدين الثاني في فرنسا، ويتراوح عدد المسلمين بين 5 إلى 6
ملايين وفقًا لتقديرات غير رسمية، في حين قدرت وزارة الداخلية الفرنسية عددهم بـ
4.5 مليون.