تعتمد إسرائيل على سياسة التضييق القصوى لدفع الصحفيين إلى مغادرة المنطقة، حيث تصعّب من مرورهم عبر الحواجز العسكرية المهينة، وفي السياق ذاته يجري قصف واستهداف الصحفيين والمدنيين على حد سواء بالرصاص
برصاصة واحدة من بندقية
قناص إسرائيلي، سقطت شيرين أبو عقلة، الصحفية والمراسلة الإعلامية الفلسطينية،
فارقت الحياة في الحال، فقط بعد لحظات من وصولها لتغطية تبعات غارة جوية نُفِذَت
فجرًا في مدينة جنين بالضفة الغربية، لتنضم أبو عقلة إلى قائمة طويلة من المراسلين
الفلسطينيين الذين قتلتهم قوات الكيان الصهيوني، فعلى مدى عقود تم توثيق قتل وقمع
الصحفيين والمراسلين في الأراضي المحتلة، إلا أن الأمر المختلف اليوم، هو أن الكيان
الذين يريد قتل وإسكات الصحفيين، يتم تمكينه بشكل متزايد من خلال الصمت على جرائمه،
رحلت شيرين أبو عقلة كضحية أخرى لصمت المجتمع الدولي بالتوازي مع كونها ضحية لجريمة
حرب ارتكبها الجيش الصهيوني بوحشية المعهودة والمستمرة ضد الشعب الفلسطيني بأكمله،
لم تكن تحمل سوى ميكروفون بيدها وتقف أمام كاميرا، هذا هو السلاح الوحيد الذي كان
بحوزتها، تحاول من خلاله نقل الحقيقة وفضح عنف العدو الإسرائيلي الذي اغتصب وطنها،
لكن يبدو أن إسرائيل التي تفتخر على الدوام بقوتها، تبقى هشّة وضعيفة أمام ميكروفون
وكاميرا.
في القرن التاسع عشر، كان
صاحب صحيفة نيويورك جورنال، ويليام راندولف هيرست، يخاطب مراسلي صحيفته كي يلتقطوا
المزيد من الصور من مناطق الأحداث، ويرسلونها بسرعة للصحيفة، كانوا يخاطبهم قائلًا:
"التقطوا الصور وأرسلوها، وأنا سأشعل الحرب"، يعد هذا من أبرز الأمثلة الأكثر
وضوحًا على مدى أهمية الصورة في نقل الحقيقة، يمكن للصورة أن تخلق رأي عام حيال
قضية معينة، منذ النكبة؛ كان للإعلام والصحافة دورًا مهمًا في نشر تفاصيل المأساة
الفلسطينية، دأب المراسلون الصحفيون على فضح جرائم إسرائيل الوحشية، وكشف زيف
مزاعمها، وثّقوا الاعتداءات الوحشية لقوات الاحتلال وسرقة إسرائيل للأرض
الفلسطينية، وبناء المستوطنات غير الشرعية وتهويد البلدات والقرى الفلسطينية
القديمة، ومصادرة وهدم منازل الفلسطينيين، كانت كل قصة طرد وتهجير لسكان تلك القرى
هي موضوع غلاف في تلك المجلة أو ذاك، وكان تجريف القرى لمنع أصحابها من زراعة
أراضيهم عنوانًا لتلك المحطة التلفزيونية أو الإذاعية، مزقوا قناع إسرائيل وفضحوا
حقيقة عنصريتها القبيحة ليراها العالم بأسره، وبالتزامن مع ذلك.. وضعوا فلسطين في
قلب الأحداث، ونقلوا معاناة الفلسطينيين وآلامهم ليراها الجميع.
تعتمد إسرائيل على سياسة
التضييق القصوى لدفع الصحفيين إلى مغادرة المنطقة، حيث تصعّب من مرورهم عبر الحواجز
العسكرية المهينة، وفي السياق ذاته يجري قصف واستهداف الصحفيين والمدنيين على حد
سواء بالرصاص، هذه الاستراتيجية تسعى إسرائيل من ورائها لتغييب أي تدفق إخباري من
الأراضي الفلسطينية، لا سيّما من قطاع غزة، وتحويل هذه المناطق إلى سجون مفتوحة،
تظن إسرائيل أن توجيه ضربات من وقتٍ لآخر ضد وسائل الإعلام الناقلة للحقائق،
سيساعدها في إخفاء المجازر وجرائم الحرب التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني، لهذا
تسعى إلى إسكات الصحافة ووسائل الإعلام ومنع تداول الأخبار والصور حول ما تقوم به
قواتها في إطار حربها المفتوحة على الشعب الفلسطيني، حتى فضاء مواقع التواصل
الاجتماعي الذي يمكن لكل فرد من أبناء الشعب الفلسطيني أن يفضح الاحتلال من خلاله،
عمدت إسرائيل إلى تعتيم الحقائق وإخفاء جرائمها التي يمكن نشرها على تلك المنصات،
مستغلةً جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة والتعاون الوثيق مع الشركات
التي تمتلك تلك المنصات، فكل محتوى يعكس حقيقة الأحداث في الأراضي الفلسطينية يتم
منعه من التداول، وكثيرًا ما يتم حذف المقالات والصور ومقاطع الفيديو التي تفضح
الجرائم الإسرائيلية، لا تكتفي إسرائيل بذلك بل تُجنّد مؤسساتها الدعائية
والإعلامية لمحاربة الرواية الفلسطينية التي تنقل معاناة شعب فلسطين، وتستغل نفوذها
الدولي على بعض المؤسسات الإعلامية العالمية في اعتماد الرؤية الإسرائيلية الاحداث،
واعتبار ما يخالفها تحريضًا ضدها.
في مايو 2021؛ قادت قوات
الاحتلال الإسرائيلي حملة قمع غير مسبوقة ضد الصحفيين الذين يحاولون تغطية التطورات
العنيفة على الأرض منذ اندلاع الاحتجاجات الفلسطينية في القدس الشرقية والضفة
الغربية وفي بعض المدن المحتلة، قامت السلطات الإسرائيلية بإطلاق الذخيرة الحية على
الصحفيين الذين كانوا يغطون الأحداث، لا سيما في أعقاب الهجمات على المسجد الأقصى
والقصف الإسرائيلي العنيف على قطاع غزة، الحديث عن الجرائم ضد الصحافة والإعلام في
الأراضي المحتلة يطول، ولكن لعل أبرز الأمثلة على ذلك تدمير برج الجلاء خلال العام
الماضي في قطاع غزة بعدد من الغارات الجوية الإسرائيلية، كان البرج يضم عددًا من
المكاتب الإعلامية التي تستخدمها وسائل الإعلام في نقل
واقع المأساة الفلسطينية، كما سبق للطيران
الإسرائيلي أن قذف برج الشروق الذي كان يضم 7 وسائل إعلام، وكذلك برج الجوهرة، الذي
كان يضم مكاتب أكثر من 12 مؤسسة إعلامية، يُضاف إلى ذلك قائمة بعشرات الصحفيين
الذين قتلتهم إسرائيل منذ عام 1972، ومن اللافت للنظر أن الحصيلة تزايدت بشكل ملحوظ
مع بداية الانتفاضة الثانية في عام 2000، ففي صيف العام 2014 وحده، قتلت إسرائيل 17
صحفيًا خلال حربها على قطاع غزة، كان هذا هو أكثر الأعوام دموية بالنسبة للصحفيين
في فلسطين، نقابة الصحفيين الفلسطينيين تقول إن الأعداد أعلى بكثير وأنه قد حان
الوقت لوقف هذه الجرائم ومحاسبة مرتكبيها ومن أصدر الأوامر.
لإسرائيل تاريخ طويل في
استهداف الصحفيين ووسائل الإعلام، وهدفها دائما هو إسكات ومنع نقل الصورة الواقعية
للصحافة إلى العالم، بالرغم من أن الجيش الإسرائيلي يتبع رسميًا تعليمات تنص على أن
للصحفيين حرية التنقل، ما لم يكن هناك سبب استثنائي يمنعهم من الوصول إلى مكان
معين، لكن على أرض الواقع لا يتم تطبيق هذه التعليمات إلا فيما ندر، كانت شيرين أبو
عقلة صوتًا شجاعًا لشعبها ورمزًا وطنيًا للحقيقة والصمود في وجه الاحتلال الوحشي
والظلم الذي عانى ـ ولا يزال يعاني ـ منه الشعب الفلسطيني لفترة طويلة من الزمن،
جريمة الاغتيال تلك هي جزء من حرب إسرائيل الطويلة من المضايقة والترهيب والعنف ضد
الصحفيين بهدف التستر على جرائمها المرتكبة بحق الفلسطينيين، في انتهاك جسيم ومستمر
للقوانين والأعراف الدولية، هي أيضا ضحية أخرى لتراخي المجتمع الدولي في مواجهة
جرائم الحرب الإسرائيلية والإرهاب ضد الشعب الفلسطيني، من المؤسف أن الولايات
المتحدة والدول الأوروبية الكبرى جنّدوا مؤسساتهم الحقوقية لإصدار إدانة من المحكمة
الجنائية الدولية للغزو الروسي على أوكرانيا في غضون أقل من شهرين، ليل نهار تصدر
الإدانات الغربية لمقتل المدنيين وهدم البيوت وتدمير البنية التحتية والتضييق على
الصحفيين ووسائل الإعلام على الأراضي الأوكرانية، لكن هذه الدول لم تحرك ساكنًا
حيال الجرائم الإسرائيلية في فلسطين على مدار أكثر من 70 عامًا، ازدواجية المعايير
التي يتعامل بها المجتمع الدولي مع فكرة الاحتلال بغيضة للغاية، فهل يوجد احتلال
جيد واحتلال سيء؟!